الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


اللعنة

سلطان المقبالي

2013 / 12 / 21
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


الزمان: خريف 1995.. المكان: منزلنا الكائن في أحد أحياء سلطنة عمان.. أما الحدث فيتلخص كالآتي: باب إحدى الغرف يطلق وابل من الطقطقات.. مصباح المطبخ يبعث سيل من الومضات.. يا إلهي المنزل يعج بأسره بأصوات خطوات وأنفاس تملئ جميع الردهات!.. في اللحظة التي اتخذنا فيها قرار المواجهة أنا وأخواتي المذعورات, بهدف كشف هوية ذلك المتطفل المحتل.. حدث ما جعل عقولنا تنشل وتصبح غير قادرة على التمييز, هل كل ما كان يحدث حقيقة أم وهم!.. سموها أرواح.. أشباح.. إلخ, لا يهم.. المهم هو ماهيتها وآليتها في التنقل والولوج من عالم الما وراء إلى عالمنا.. الماورائيات, تلك الكائنات إن صح التعبير وما تتصف به من قوى خفية وخارقة في معظم الحالات, حيرت بها عقول البشر على مدى عقود وقرون.. فمنهم من نصبها آلهة كما هو الحال عند عباد الشيطان, ومنهم من تحالف معها وأبرم الصفقات, بهدف تعلم فنون السحر وجني الهبات.. استنادا إلى الحادثة السالفة الذكر أعلاه, ومقارنة بحوادث مشابهة ومتتابعة أبطالها ينتمون إلى ذلك العالم المزعوم.. ما هو موقف الدين والعلم من حقيقة وجوده ومواصفات كائناته؟.. وكيف يفسران وقوع حوادث يتم ربطها بفعل تلك القوى الخفية؟.. ماذا يقول البصارون ومن يتعاملون مع الجآن؟.. حسنا فلنبدأ عملية البحث الآن.

يعتقد جميع أتباع الأديان التوحيدية الرئيسية الثلاث: الإسلام- المسيحية- اليهودية, بأن ثمة وجود عالم غيبي آخر خارج عن مداركنا يتعلق بالأرواح أو الجآن والتي خلقت قبل الإنسان, وبأن الشيطان أو إبليس كرمز وكيان إلى الشر المطلق في الكون ينتمي كذلك إلى نفس ذلك العالم, وبأن ماهيتها تختلف تماما عنا كبشر باعتبارها أشبه ما تكون بأرواح بلا أجساد مع قدرتها على التحرك والتنقل, وكأنها بمعنى آخر عبارة عن كائنات متحركة ومدركة في آن معا.. ليس هذا فحسب بل تتميز بقوى خارقة تتمثل بتأثير على عقولنا وأنفسنا من خلال دفعنا للقيام بأعمال الشر, وبمعرفة الغيب, وبالتجسد على أشكال حية, و بإحداث خلل أو اضطراب لقوانا العقلية أو النفسية.

يتشابه أغلب أتباع الدين الإسلامي مع أتباع الأديان التوحيدية الأخرى في اعتقادهم أن الجآن كانوا يسكنون الأرض قبل الإنسان, فأفسدوا عليها بسفكهم الدماء فيما بينهم, فأهلكهم الله جراء ذلك منزلا عليهم جنوده من الملائكة, إلا إبليس آمن فجعله الله من عداد الملائكة تكريما له.. وبأن منهم الأخيار ومنهم الأشرار الذين يتبعون زعيمهم الشيطان, ويوسوسون علينا بهدف مخالفة تعاليم الله وارتكاب الخطايا والآثام, ويستطيعون معرفة ما سيحدث لنا مستقبلا, كما يتشبهون بصور شتى حية كصورة إنسان أو حيوان لإخافتنا, بل في أحيان يتلبسون أجسادنا بما يعرف "بالمس الشيطاني" لإمراضنا, لذا يدعو الإسلام أتباعه إلى الإكثار من قراءة القرآن وترديد الأدعية دفعا لضررهم وصدا لإغواءآتهم, كذلك يرتبط طرد إبليس من السماء بسبب غروره وكبريائه.. لكنهم من جهة أخرى يختلفون في تسميتهم بالجآن بدلا عن الأرواح, وبأن تكوينهم من نار, ونتيجة إلى رفض إبليس السجود لآدم بسبب ما كان يكنه من نزعة إلى التمرد والعصيان, تم طرده من السماء: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ} البقرة(34).. معللا عصيانه بقوله: {أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِين} الأعراف(12).. فطرد ولعن من السماء, طالبا من الله أن يمهله كي يغوي آدم ويغوي ذريته, ليصبح بذلك عدوا لبني آدم إلى يوم القيامة, {قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ(34)وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ(35)قَالَ رَبِّ فَأَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ(36)قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنظَرِينَ(37)إِلَى يَومِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ(38)قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ(39)} الحجر(35)-(39).. لتبدأ بذلك أولى سلاسل الغواية الشيطانية إلى البشرية والتي تمثلت بخروج آدم وحواء من الجنة بعد أن جعلهما يأكلان من الشجرة المحرمة: {فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِن سَوْءَاتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَـذِهِ الشَّجَرَةِ إِلاَّ أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِين} الأعراف(20).

يعتقد أتباع الدين المسيحي أن إبليس كان في الأصل من الملائكة أو الأرواح الخيرة, ولكن بسبب غروره وكبريائه سقط من السماء جارا معه الملائكة الموالين له, لتتحول بذلك إلى أرواح شريرة: {أَصْعَدُ فَوْقَ مُرْتَفَعَاتِ السَّحَابِ. أَصِيرُ مِثْلَ الْعَلِيِّ} إشعياء(14):( 14).. ورغم سقوطه وطرده إلى جهنم, لا يزال إبليس يتمتع بكامل قواه الملائكية التي تفوق قوى وقدرات الإنسان العادي, كما لم يوقفه ذلك من الاستمرار في عمل الشر على الأرض.. في مطلع سفر التكوين _أول كتب العهد القديم_ يظهر إبليس متخفيا في هيئة حية في الفردوس ليغوي حواء, دافعا إياها لتناول ثمر الشجرة المحرمة في نهاية المطاف, مستعملا الخطيئة نفسها في غواية حواء والتي كانت سببا في سقوطه, ألا وهي الكبرياء, حيث قال إلى حواء وآدم إن أكلى من تلك الشجرة, فسيصبحان كالله يعلمان الخير والشر. وبعد أن انجرت حواء وزوجها إلى غواية إبليس, عاقبهم الله بأن طردهم من الفردوس إلى الأرض, كما عاقب الحية أيضا فلعنها من بين جميع مخلوقاته, متوعدا: {وَأَضَعُ عَدَاوَةً بَيْنَكِ وَبَيْنَ الْمَرْأَةِ، وَبَيْنَ نَسْلِكِ وَنَسْلِهَا. هُوَ يَسْحَقُ رَأْسَكِ، وَأَنْتِ تَسْحَقِينَ عَقِبَهُ} التكوين(3):(15).. يعرض العهد الجديد صور عدة من مواجهات السيد المسيح ضد الأرواح الشريرة ومع سيدها الشيطان ذاته. أول وأبرز تلك المواجهات كانت قبل أن يباشر المسيح بالتبشير بين الناس عندما ذهب إلى البرية ليصوم أربعين يوما وليلة, حينها جاءه الشيطان ليجربه فهزمه يسوع هناك. يروي لنا إنجيل مرقس, أولى معجزات يسوع في كفر ناحوم, حيث قام بإخراج إحدى الأرواح النجسة من رجل ممسوس, فصرخت: {آهِ! مَا لَنَا وَلَكَيَا يَسُوعُ النَّاصِرِيُّ؟ أَتَيْتَ لِتُهْلِكَنَا! أَنَا أَعْرِفُكَمَنْ أَنْتَ: قُدُّوسُ اللهِ!} مرقس(1):(24)..وهكذا تتوالى في الأناجيل الأربعة: مرقس- ومتى- ولوقا- ويوحنا, قصص مشابهة لإخراج تلك الشياطين من الناس.

يتصادم العلم متمثلا بعلم النفس بشكل واضح وصريح بالاعتراف أو التصديق بالماورائيات تلك, سواء بمواصفاتها أو حتى بوجودها. فهي بكل بساطة لا يمكن إخضاعها تحت أي مجهر للفحص والتمحيص نظرا إلى انعدام مصدر حسي واحد وملموس لها, لذا تعتبر في نظر أغلب أكاديميي علم النفس وخصوصا حقل (الباراسايكولوجي) بأنها لا تعدو عن كونها أمراض ذهانية واضطرابات عصبية , فالصرع مثلا كان يوما ما يعتقد بأنه من فعل إحدى تلك الماورائيات في أجسادنا, أما اليوم فقد أدرج ضمن قائمة الأمراض العصبية والتي تعالج بالعقاقير الطبية. لقد تمت إثارة الكثير من الشكوك حول ما يسمى "بالسحر الأسود" المتعلق بتأثير الأرواح أو الجآن الشريرة, بل حتى بوجود كائنات خفية تتصف بقوى خارقة ومخالفة إلى قوانين الطبيعة والفيزياء, وتم وصفها "بالعلوم الكاذبة". هذا ويعلل ظهور مفهوم السحر ونسبته إلى تلك القوى الخفية والخارقة منذ ظهور الديانات القديمة, بأنه نابع من عدم إدراك الإنسان لما يدور حوله من قوى طبيعية, وعدم وجود تحليل علمي لظواهر ناتجة عنها كانت تعتبر غامضة بالنسبة للإنسان القديم آنذاك. من جهة أخرى يعتبر فك السحر من منظور ديني نابعا من اعتقاد بعض رجال الدين بقدرتهم على طرد الأرواح أو الجآن الشريرة من جسد المسحور من خلال ممارسة طقوس معينة, إما بواسطة استعمال التعاويذ وتقديم القرابين قديما, أو بترديد الأدعية و أداء الصلوات حديثا.. للعلم قياساته المتفق عليها حول تصنيف ظاهرة أو طريقة أو اعتقاد ما كعلم حقيقي أم لا, فمثلا اختبار تعويذة معينة على عدد من الأشخاص المتطابقين: فالعمر, والجنس, والحالة الاجتماعية, والثقافية لرؤية ما إذا كانت التعويذة لها نفس التأثير, أو من خلال تصميم نوعين من التعويذات احدهما مصمم من قبل شخص يدعي السحر, والأخرى شبيهة بالشكل إلى الأولى ولكنها ليست حقيقية, على أن يتم توزيعمها على مجموعتين من الأشخاص من دون معرفتهم فيما إذا تلقوا التعويذة الحقيقية أم الوهمية لأجل التأكد فيما إذا كان هناك فرق ملحوظ وملموس بين تأثير الحقيقية والوهمية. وفي حال لم يتم تجاوز تلك الاختبارات فإنها ستؤول إلى تصنيف العلوم الكاذبة. ويعد تحدي فنان الإيحاء السابق _الأمريكي من أصل كندي_ جيمس راندي أحد أشهر الأمثلة على ذلك النوع من الاختبارات والذي أشتهر عالميا بعد التحدي الذي أطلقه باستعداده أن يدفع مليون دولار لأي شخص يأتي بدليل علمي واحد على صحة ما يزعم حول قدرته على امتلاك قوى خارقة. الجدير بالذكر أن التحدي لا يزال قائما ولم يتمكن أحد لهذا اليوم من اجتياز الاختبارات العلمية التي تركز على استبعاد "عامل الصدفة".. إن الغاية الرئيسية تحديدا من تلك الاختبارات العلمية هي معرفة احتمال دور عامل الصدفة, أو أي عوامل عقلية, أو جنسية, أو اجتماعية.. إلخ في حدوث التأثير الملاحظ والتي غالبا ما يفشل معظم مدعوا السحر أمامها.

بالرغم وصولنا إلى الألفية الثالثة, لا يزال يوجد من يدعي بقدرته على التواصل مع كائنات من وراء الطبيعة أو بممارسة السحر بهدف الاستفادة من قدراتهم. السحر الذي تحرم التعامل به جميع الأديان التوحيدية وغير التوحيدية, لما يمكن أن يسببه من ضرر على من يسلط عليه, ولما فيه من اجتراء على القدرة الإلهية, وتدخل في علم الغيب. من هذا المنطلق كثر عبر الأزمنة الغابرة وإلى يومنا هذا البصارين ومن سار على دربهم بدعوة فك مفعول ذلك السحر, وتخليص المتضرر منه على حد زعمهم من خلال إقامة بعض الطقوس كجلسات الزار وحفلات المالد, أو عمل الحروز و الطلاسم.. إلخ, دفعهم لممارسة وامتهان كل ذلك مدى حالة الإحباط واليأس لكل من اعتقد بانه أصيب بمس شيطاني أو بعين حسودة, وفقد ثقته بالطب الحديث وأمله بالعلاج متجمهرا حولهم طلبا لشفاء المنشود.

أقول لأولئك المحبطين والمتشبثين بأوهام دعاة الحقيقة, أقول اقطعوا إجازات عقولكم المفتوحة وعودوا إلى رشدكم, آمنوا بالله لا سواه, أعيدوا الثقة لعلوم عصركم الحديثة وأنصتوا لما يقوله القائمون عليها.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. إليكم مواعيد القداسات في أسبوع الآلام للمسيحيين الذين يتّبعو


.. مكتب الإحصاء المركزي الإسرائيلي: عدد اليهود في العالم اليوم




.. أسامة بن لادن.. 13 عاما على مقتله


.. حديث السوشال | من بينها المسجد النبوي.. سيول شديدة تضرب مناط




.. 102-Al-Baqarah