الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الاصولية الدينية و فشل النخبة المثقفة التونسية

هاجر زرّوق

2013 / 12 / 21
المجتمع المدني


غالبا ما تحمّل النخبة المثقفة في تونس الحكومة الإسلامية الحاليّة و التيّارات الوهابية مسؤولية انتشار الأصولية في المجتمع, كما تستنكر - ما تعتبره - عجز المُتلقّي التونسي عن قراءة أساليب التضليل المعرفي المتخفية وراء الخطابات الدينية و السياسية و جهله بحقيقة حيثيّاتها. في المقابل, تظهر النخبة المثقفة و كأنّها في غنى عن النّقد: فهي تدين غيرها و لا تدين نفسها, مع أنّ وظيفتها الأولى كنخبة فكرية تقتضي عليها أن تحول دون بروز الفكر الأصولي في مجتمعنا و أن تكون الدّرع الواقي ضدّ التطرّف الديني. تطرح هذه الإشكالية إذن مسألة ترابط فشل مشروع النخبة المثقفة التونسية برواج الأصولية, كما تنظر في مدى نجاح المثقفين التونسيين في تفعيل دورهم كنخبة.

تُعدّ تونس من جملة البلدان العربية التي تتمتّع بنسب ضئيلة من الامية و الفقر المدقع. فمع فجر الاستقلال, قامت حكومة بورقيبة التقدّمية بحملة تعليمية مجّانية هدفها إرساء البنية التحتية الملائمة لاستقبال عدد هامّ من طالبي العلم, ذكورا و إناثا. مكّنت هذه الحملة تدريجيا من ترسيخ ثقافة مجتمعية تعليمية قضت بصفة شبه كاملة على الأميّة. كما كافح النظام البورقيبي الفقر الشّديد بتمكين المتخرّجين الجدد من فرص عمل و بتدمير الأكواخ التي كانت تعمّ المشهد الحضري و تعويضها بأحياء لائقة للسّكن.

تضاهي اليوم نسبة التعليم في بلادنا المئة بالمئة, و لكن بات من الواضح انّ صفة المتعلّم لا تقضي على نوع آخر من الأميّة, ألا و هو غياب القدرة على إعمال العقل الموضوعي و النقدي: هذه الموهبة التي تجنّب المرء السقوط في شرك الأصولية الدينية المقنعة بحجاب التقوى. على هذا المستوى, تمثّل النخبة المثقّفة المؤسسة الثانية التي تنوب المؤسسة التعليمية في مهمّة "تنوير" العقول و تحريرها من أغلال التقليد و المعتقدات الراسخة و سجن اليقين المطلق.

إلاّ أنّ نجاح الاصولية اليوم في إغراء المجتمع التونسي لا يعني جهله و تخلّفه بقدر ما يعني فشل هذه النخبة المثقفة في تنشيط بيداغوجية التواصل و في إعادة إحياء العقل النقدي و الموضوعي الكامن في كلّ إنسان مهما كان مستوى تعليمه و ثقافته. عوض ذلك, تقوم معظم نخبتنا بتهميش المتلقّي التونسي عبر التفرقة بين مستويات العلم, متهمة إيّاه بانهيار مستواه الفكري و الثقافي و الأخلاقي, موجّهة له كلّ أنواع النقد اللاّذع, ساخرة من مواقفه و من طريقة تفكيره, مُتصورة نفسها انّها الأفضل في سلّم الذكاء و المعرفة, و لو كانت فعلا الأفضل, لما طالت الأصولية الوعي الجماعي و لما نجحت سياسيّا في الوصول إلى الحكم. بل لعلّ انتصار الأصولية يبيّن لنا حقيقة نشاط المثقفين التونسيين.

يرجع خلل هذا نشاط -حسب رأينا - إلى نقص في البيداغوجية النخبوية التي تعتمد على علاقة تقليدية بين المثقف و المتلقّي حيث يقتصر الطرف الأوّل على تبليغ الرسالة المعرفية بطريقة عمودية, أي دون أن يستنبط المعرفة من طيّات عقل المتلقّي عبر طرح الأسئلة و خلق الإشكاليات و تفادي الأحكام المسبقة . ثانيا, يرجع فشل النخبة المثقفة في تونس إلى مجموعة من الأخطاء الاستراتيجية حيث يحاول أغلبية المثقفين التلاؤم والمنظومة الفكرية السائدة لنيل رضاء المتلقّي و ضمان تأييده لأفكارهم. فنرى أنّ أغلبية المثقفين يسعون جاهدين إلى إدراج المعجم الديني في خطاباتهم و إلى ابراز مدى إيمانهم و إلى العزوف عن تناول بعض المسائل الأبستمولوجية الحرجة التي تمس بالمنظومة الإيديولوجية الجماعية. إلاّ أن استراتيجية المحاكاة و الحذر لم تفض إلى نتيجة, بل اصبحت معظم النخبة المثقفة التونسية بوق النظام الأيديولوجي المسيطر, مع أن وظيفتها الاساسية كنخبة تكمن في تفنيده.

إنّ نرجسية نخبتنا المثقفة و نقائصها البيداغوجية و اعتبار نفسها منبع الحداثة مع أنّها تحاكي العقلية السائدة يمثل جزء من فشلها في صراعها مع الأصولية. فكيف للنخبة المثقفة التونسية أن تأتي بالجديد و هي تؤسس لبيداغوجيا محافظة؟ كيف لها أن تهزم شبح الأصولية وهي تتفادى الدخول في مواجهة جريئة معه؟ كيف سيشيد المثقفون التونسيون مجتمعا حداثيا و هم لا يختلفون عن خصومهم على المستوى الاستراتيجي؟ كيف سينجحون في "تنوير" العقول و هم يلعبون دور السياسي الشعبوي بدل دور المثقف المحدث؟

- 1: البيداغوجيا السقراطية http://ife.ens-lyon.fr/publications/edition-electronique/revue-francaise-de-pedagogie/INRP_RF051_3.pdf








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. محاكمة غيابية في فرنسا لـ 3 مسؤولين سوريين بتهمة ارتكاب جرائ


.. الحكم بإعدام مدرس الفيزياء قاتل طالب الثانوية العامة بالمنصو




.. بايدن يهاجم طلب الجنائية الدولية اعتقال نتنياهو وغالانت.. -أ


.. المتحدث باسم الأمين العام للأمم المتحدة: نزح 40% من سكان غزة




.. رئيس مجلس النواب الأميركي: الكونغرس يدرس معاقبة -الجنائية ال