الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الأضحية والضحية - أقانيم في ثقافة التعارض

فالح عبد الجبار

2005 / 6 / 13
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


لعل من باب المصادفة أن تنفرد لغتنا العربية, عن لغات شتى, في انحدار الأضحية والضحية من جذر واحد. هذا التوحد في المنبع لا يمنع ذلك الحرف الواحد والأول في الأبجدية, الأليف, من أن يحول الضحية الى أُضحية, وهو انقلاب للجور الاخلاقي الى واجب قدسي. هناك ثقافات عدة تلغي الفارق بين الاثنين, أو تمزج الواحد بالآخر.
الأضحية في معناها الأعم قربان وعهد, ينعقد في طقس خاص. وهذا القربان دليل عرفان, وبرهان امتثال, ودريئة ضد غائلات الزمان, أو لربما التماس ورجاء. وفي العادة يتعمد الطقس بتفجير الدم.
هكذا دأبت شعوب شتى, في غابر الأزمنة, على نحر عذراء, أو اقتلاع كبد فتى أعذر, كل عام, في حفل جمعي, طلباً للغفران, وغسلاً للأدران, وطمعاً في هناءة وجيزة, وإطالة لأعمار قصيرة, بل تعبيراً أيضاً عن العرفان. وحتى تعمّ كل هذه البركات أفراد الجماعة كان قلب الأضحية أو كبدها يقسم ويوزع. في لحظة آفلة استُبدل طقس الذبح الفعلي بآخر مجازي. حلّت بعض الحضارات هذه النقلة بإحلال بهيمة محل البشر. وحلّت حضارات اخرى المشكلة بابتكار طقس رمزي, يسيح فيه الصباغ الأحمر بدل الدم, وتقطع أوصال الدمى بدل تقطيع الكائن... الأضحية إرباً. أعفت الدمى, كما البهائم, البشر من سفك دماء بعضهم البعض.
هذا التعويض, أو هذا الابدال, يشي بمسعى للخروج من مملكة الحيوان, واعلاء شأن الحياة قيمة في ذاتها, تعلو على أية قيمة أخرى.
ولثقافتنا العربية - الاسلامية اسهامها في هذه النقلة من النحر الفعلي الى النحر الرمزي, وما الرمز سوى إبدال واستعاضة. ما زلنا نحتفي, حتى اليوم, بكبش الأضحية (أو "خروف العيد" في الدارج العاميّ). ويقوم الحجيج بالطقس ذاته: نحر قرابة مليوني كبش كل عام في موسم الحج. ولم تعد الذبائح ترمى الى العفن, بل صارت, بفضل ابتكار عقلاني, وشركات ذكية, تطعم الجياع. فلا مقدم الأضحية يرى ذبيحته, ولا الجائع الذي يقتات على لحم البركة هذا يعرف هوية المحسن. بعض الغلاة في ثقافتنا ارتأوا, لأسباب ليست وجيهة بالمرة, وجوب أن نعود القهقرى من الرمز الى الحقيقة, من نحر الأكباش الى نحر البشر, من مملكة الانسان الى مملكة البهائم. يشترك هذا الفعل في تقليد ذكوري لغسل دنس المرأة الزانية بالخنجر, على رغم ان الشريعة الاسلامية تنص بجلاء على الجلد وسيلة قصاص.
أما اليوم فإن التطرف الديني يوسّع فكرة الغسل بالدم خارج دائرة الشرف الذكوري, الى حقل الخلاف السياسي أو الديني. ثمة, والحق يقال, ايديولوجيات دنيوية تبيح القتل عـلى الهويـة الدينية أو السياسية. والحروب الأهلية, المعاصر منها والقديم, سواء بسواء, تحفل بضروب الإبادة الجمعيـة, من الفتك بالغاز الى الرمي بالرصاص. لكن ما يميز الداعية العصبوي عن غلو الايديولوجي, ليس القـتـل بذاتـه, بل وسيلته: حزّ العنق.
رأينا في عقد التسعينات صور نساء جزائريات انفغرت أعناقهن. كما شاهدنا مراراً, على مواقع الانترنت الحديث, أقدم مراسيم الذبح التي يتسابق على اكتساب "شرف" التنفيذ فيها رجال ملثمون, ينتشون طرباً لتولي دور الجلاد.
وتدور هذه الدراما البدائية في أجواء مثقلة بالمعاني السوداء. ثمة السيف, وثمة اللثام, وثمة الأضحية البشرية المقيدة, وثمة عدسة الكاميرا. وهذه الأخيرة هي المعلم الوحيد من الحضارة التكنولوجية الحديثة. هناك أيضاً لافتة, وهناك أيضاً الاصطفاف العسكري المنضبط لهذه الثلّة من العتاة. الرموز ثرية جداً في هذا العالم الفقير في تفاصيله, والمدقع في خوائه الروحي. والسيف المسلول, لا في الحرب ازاء فارس, بل ازاء نعجة بشرية مسلوبة الارادة, يرمز الى تعطش للجبروت لا يرتوي, وهو الحدّ الباتر بين الحياة والموت في تلك الغرفة المعزولة عن العالم. غير ان السيف, في عالم اليوم, سلاح نافل, لا قيمة له ازاء أصغر سلاح ناري. لكن حامله لا يكترث لذلك, فهو معني بإظهار القوة ازاء كائن أعزل, وهو يلتمس عودة الى التاريخ الذي كان ولم يعد, لابساً لبوس ورع زائف, متخيلاً نفسه قديساً أرضياً يمارس تعبّداً من طراز خاص.
نعلم ان العبادة اتحاد روحي, تذوب فيه النفس في وجد باطني. لا يحتاج المصلي الى نظارة, ولا يبتغي المتعبد جمهوراً. فالابتهال علاقة جوانية وليس مسرحاً للفرجة. ولا يفكر المتبتل, وهو في محرابه, في ذاته, ولا يخطر له قط أن ينظر الى نفسه حين يدعو ويبتهل. المتعبد في محراب الدم لا يقبل بذلك, فهو يحرص على متطلبات الفرجة. فالقناع للإثارة, والرهبة, مثلما هو للتخفي, لكه نوع صارخ من التخفي, ينتشي حين يعرض نفسه أمام عدسة الكاميرا, ويذوب في ثمل هذه الشهرة السرية. ومتعته في ذلك عصبوية. ذلك ان شركاءه في الطقس هم وحدهم الشهود على هويته. ولكيما ينسى ان هذا القتل فعل سادي, ومبتذل, يرفع يافطة بالأهداف السامية, لإقناع جمهور متشكك.
تدور هذه الدراما في غرفة صغيرة مجردة من معالم الحياة, خاوية خواء الممثلين فيـها. يستـطيع هؤلاء اطلاق النار على الضحية في عتمة زقاق, أو حفرة منزوية (كما اقترح أحد المفكـرين العرب). لكـن لا. فالممثل يـريـد اظهـار رموز قوة يفتقدها, وان يطرد الخوف الكامن في الأعماق بإظهار قسوة لامتناهية على الشاشة. ومغزى هذا التعارض بين ما هو جواني وما هو برّاني يوحي أن مسرح الفرجة السادي هذا يكشف عن سطوة الرعديد واستعلاء المهان, وهي ازدواجيات نمت في تربة الذل والخنوع.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. اليهود في ألمانيا ناصروا غزة والإسلاميون أساؤوا لها | #حديث_


.. تستهدف زراعة مليون فدان قمح تعرف على مبادرة أزرع للهيئة ال




.. فوق السلطة 387 – نجوى كرم تدّعي أن المسيح زارها وصوفيون يتوس


.. الميدانية | المقاومة الإسلامية في البحرين تنضمّ إلى جبهات ال




.. قطب الصوفية الأبرز.. جولة في رحاب السيد البدوي بطنطا