الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


في نظرية الفوضى والحتمية التاريخية

علي مقدّم

2013 / 12 / 22
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


منذ عهد نيوتن حتى مطلع القرن العشرين، كان المجتمع العلمي يعتقد أن العالم هو عبارة عن آلة ضخمة تحركها قوانين حتمية يمكن وصفها بمعادلات رياضية دقيقة ويمكن عندها التنبؤ بحالاتها المستقبلية إعتماداً على حالتها الراهنة. نظرية أينشتاين في النسبية الخاصة والعامة من بعدها، والتي ضحدت فكرة المطلق في الزمان والمكان في نظرية نيوتن وجعلتهما نسبيان، مما يمكن إعتباره ثورة علمية ساهمت بتغيير البراديغم العلمي السائد آنذاك، لم تؤثر في مبدأ الحتمية بمعناها الفلسفي المرتبط بمبدأ السببية والقدرة على التنبؤ. تم طرح مسآلة الحتمية العلمية تحت المساءلة عملياً عند نضوج نظرية الكم وتحديداً عند بلورة فكرة الإزدواجية بين الجسيمية والموجية (Wave-particule duality) التي يتصف بها الضوء، والتي تم تعميمها على المادة، ومن بعدها أتت نظرية للادقة (Uncertainity principle) من خلال الألماني هايزنبرع الذي أعتبر أن الجسيمية للعالم الذري لا يمكن تحديد موقعها وسرعتها بالدقة نفسها، عندها دخل مفهوم الإحتمالية كنقيض للحتمية العلم من بابه العريض وليس لتغطية جهلنا بالواقع كما كان سائداً من قبل وإنما كحاجة موضوعية في صلب العالم الميكروسكوبي.

نظرية الفوضى (chaos theory)

أخذت نظرية الفوضى شهرتها الحالية من خلال الأميركي إدوارد لورانز (Edward Lorenz) عالم الأرصاد الجوية عندما لاحظ بالصدفة عام 1963 أن تغيّرات طفيفة في الشروط الأولية في المعادلات الرياضية التي تحاكي نظام الطقس، يمكن أن تؤدي إى نتائج مختلفة راديكالياً (من طقس مشمس إلى أعاصير مثلاً). لورانز تمكن من إكتشاف ذلك لتوفر الظروف التكنولوجية المناسبة في عصره (بدء ثورة المعلوماتية). الأساس في هذه النظرية كان عالم الرياضيات الفرنسي هونري بوانكاريه المؤسس النظري الفعلي لنظرية الفوضى كما نعرفها اليوم، عندما تحدث في أواخر القرن التاسع عشر عن الأنظمة الحساسة للشروط الأولية.

نظرية الفوضى تخص الأنظمة الديناميكية ( التي تتغير خصائصها مع الوقت) اللاخطية والتي تبدي نوعاً من الفوضى في سلوكها. هذه الفوضى تعود إلى عاملين أساسيين:
-عدم القدرة على تحديد العوامل الأولية أو البدئية بدقة عالية جداً.
-عامل ثاني يخص طبيعة هذه الأنظمة نفسها وحساسيتها العالية جداً للشروط الأولية مما يؤدي إلى نتائج مختلفة جذرياً عند أي تغيير طفيف في هذه الشروط البدئية.

هذه الحساسية العالية عبّر لورينز عنها بشكل كاريكاتوري عندما قال أن إعصار ممكن أن يضرب نيورك يكون سببه رف جناح فراشة في البرازيل. يجدر الذكر هنا أن الحالة الفوضوية لهذه الأنظمة لا تعني أننا لا يمكننا التنبؤ بحالتها المستقبلية. الأنظمة الفوضوية هي أنظمة حتمية ويمكننا التنبؤ بحالتها المستقبلية لكن بحدود معينة. محدودية التنبؤ تفرضها حساسية وطبيعة هذه الأنظمة التي تجعلها شديدة اللاتنبؤ بعد حدود معينة. هذه الجدلية بين الحتمية واللاحتمية، التنبؤ واللاتنبؤ، تستدعي نقاشاً فلسفياً برأيي يوازي الخصائص العلمية لهذه الأنظمة التي لا يمكن الإستفاضة بشرحها في هذه المساحة الضيقة.

ماركس والحتمية التاريخية

نظرية الفوضى تطبق على العديد من الأنظمة الديناميكية كالتنبؤات الجوية، حركة الأسهم المالية وإقتصاد السوق، التطور الديمغرافي، حركة النظام الشمسي ... هناك مئات الأمثلة التي تعطينا إياها الطبيعة والتي يمكن فهمها من خلال نظرية الفوضى. ما يهمني هنا علاقة هذه النظرية العلمية بالنظرية الماركسية وخصوصاً علاقتها بالحتمية التاريخية التي تعالج مسآلة المجتمعات البشرية والقوانين التي تتحكم بها وبتاريخها وحركتها.

تناولت العديد من المدارس الماركسية مسآلة الحتمية التاريخية كنظرية تطبق على المجتمعات البشرية وتاريخها وتنص على أن التاريخ مثله مثل كل شيء في الطبيعة، يخضع إلى قوانين علمية تحدد حركته وكيفية تطوره. هذه القوانين تهدف إلى فهم الواقع السياسي والإجتماعي والإقتصادي وبالتالي معرفتها وفهمها يخولنا توقع المستقبل والتحكم به "لتعجيل حركة التاريخ"التي هي حركة حتمية ستنتهي حتماً بالإشتراكية بعد المراحل الأربعة الأولى: المشاعية البدائية، نظام الرق، الإقطاع والرأسمالية.

عدة أسئلة بديهية يمكن أن تُطرح في هذا السياق:إلى أي مدى يمكن التحكم بواقعنا؟ إلى أي مدى يمكن توقع المستقبل في ظروف معقدة ومتشابكة كتلك التي تخص المجتمع والتاريخ البشري؟

فيلسوف العلم كارل بوبر يقول بإستحالة التوقع وينتقد بشدة ما يسميه بالنزعة التاريخانية. هذا أمر طبيعي لأن كارل بوبر المثالي فلسفياً والمدافع الشرس عن الليبرالية، بالتأكيد لن يتبنى نظرة مادية للتاريخ. بالمقابل الفهم الميكانيكي للماركسية والمعروف بالنزعة الإقتصادوية هو فهم سطحي سيجاوب على الأسئلة المطروحة أعلاه بشكل حتمي قاطع لا يترك أي مجال للنقد العلمي؛ فحركة التاريخ هي حركة ميكانيكية يمكن التنبؤ بتفاصيلها لأننا ببساطة نمتلك القوانين التي تتحكم بها والتي صاغتها الماركسية.

طبعاً، أنا أعارض النظرتين؛ مدرسة كارل بوبر والمدرسة الماركسية الميكانيكية. نظرية الفوضى توضح لنا أن بإمكاننا إكتشاف النظام والتراتب في صلب ما يبدو لنا كأنه فوضى ما إذا إستعملنا الأدوات العلمية المناسبة. لكن هذه النظرية توضح لنا أيضاً محدودية القدرة على التنبؤ في المدى البعيد، ليس لأن الطبيعة لا تخضع لقوانين حتمية (وهذا غير صحيح) بل لإستحالة توفر الدقة اللازمة في قياس الشروط الأولية وتحديدها. في نفس السياق، يجب أن تُفهم الحتمية التاريخية؛ إنها تعطينا فكرة عن التوجه العام لمستقبل المجتمعات البشرية، لكن لا يجب فهما أبداً على أنها حتمية قدرية لا مهرب منها. إنها تفسر لنا القوانين الإجتماعية والإقتصادية التي تتحكم بحركة التاريخ والتي تعطينا فكرة عن التوجه العام لهذا التاريخ بحيث يمكننا أن نؤثر به لصالح الأيديولوجية التي ندافع عنها.

مما لا شك فيه، تأثر النظرية الماركسية بمبدأ الحتمية العلمية لنيوتن ولابلاس الذي كان سائداً آنذاك. وهذا أمر أكثر من طبيعي لأنه يصب في جوهر النظرية الماركسية، كنظرية مادية تعتبر أن التاريخ البشري هو جزء من الطبيعة وقوانينه التي تتحكم بحركته يمكن إستنباطها من الطبيعة نفسها وليس من خارجها طبعاً. لهذا كما أعيد وأكرر دائماً: إعادة نقد الماركسية وتجديد مفاهيمها بشكل يجاري تطور العلوم الطبيعية هو أمر أكثر من حيوي وأساسي لكل الأحزاب الماركسية وللمهتمين في مستقبل أكثرعدالة وإنسانية.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - تعليق
عبد الله خلف ( 2013 / 12 / 22 - 21:04 )
تم التعليق في خانة الفيس بوك , و السبب : سعة مساحة الكتابة .

اخر الافلام

.. إسرائيل تدرس نقل السلطة في غزة إلى هيئة غير مرتبطة بحماس|#غر


.. القوات الإسرائيلية تدخل جباليا وتحضيرات لمعركة رفح|#غرفة_الأ




.. اتهامات جديدة لإسرائيل في جلسة محكمة العدل الدولية بلاهاي


.. شاهد| قصف إسرائيلي متواصل يستهدف مناطق عدة في مخيم جباليا




.. اعتراضات جوية في الجليل الأعلى وهضبة الجولان شمالي الأراضي ا