الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الفكر السوفسطائي و العدالة كممارسة سياسية، تراسيماخوس و كاليكلس نموذجا

عبد العالي كركوب

2013 / 12 / 23
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


الفكر السوفسطائي و العدالة كممارسة سياسية
"نموذج تراسيماخوس و كاليكلس"
عبد العالي كركوب
يرتبط مفهوم العدالة في عموميته بمجموع القواعد القانونية، و القيم الأخلاقية التي يعتمدها مجتمع ما، في تنظيم العلاقات بين الأفراد. و للعدالة مظهران: أحدهما موضوعي أو خارجي تمثله المؤسسات التشريعية و القانونية، و الثاني ذو بعد معياري و أخلاقي. بالإضافة إلى كون العدالة تعبير عن واقع، و عن توزيع معين للحقوق، فهي أيضا في نفس الوقت مثال أخلاقي كوني يسعى الجميع للوصول إليه بدرجات مختلفة. كما أنها في وجهها المثالي تخلص الفرد و الجماعة من نزوعاتهما الإنسانية و تدفعهما إلى الاعتدال في أفعالهما و احترام القوانين و حقوق الآخرين.
و مسألة "العدالة" تدخل ضمن نقاشات الفلسفة السياسية، إضافة إلى مسألة "الحرية" و "النظام الأفضل".
بعد تحديد دلالة مفهوم العدالة الاصطلاحية، سنبدأ مغامرتنا الفلسفية للكشف عن دلالات أخرى من صميم الفكر الفلسفي، و خصوصا الفكر السوفسطائي، على اعتبار أن الموقف السوفسطائي هو الذي دعا أفلاطون و أرسطو.. للاهتمام بهذا المفهوم و الانكباب على دراسته. و سنركز على نموذجين، و هما: تراسيماخوس و كاليكلس، فكيف يعرف كل منهما مفهوم العدالة؟

ينطلق تراسيماخوس في تعريفه للعدالة باعتبارها تحقيق مصالح الأقوى، و يتجلى ذلك بوضوح في قوله: "العدالة ليست إلا صالح الأقوى"1 و يقدم أنواعا من الحكم لتدعيم موقفه: فهناك الملكية و الديمقراطية و الأرستقراطية. و العنصر الأقوى هو الحاكم دائما، و يرى كذلك أنه في كل حالة، تضع الحكومة القوانين لصالحها "فالديمقراطية تضع قوانين ديمقراطية، و الملكية تجعلها ملكية و هكذا الحال في الأنواع الأخرى".2
و عند وضع الحكومات هذه القوانين تعلن أن من يحترمها فهو عادل - علما أنها تخدم مصالحها- و أن من يخالفها فهو خارج عن القانون و العدالة، و لها الحق في معاقبته. يقول ليو ستراوس: "و هكذا فإن كل نظام حكم كما يرى تراسيماخوس يشرع القوانين من منظور رخائه و بقائه، و باختصار بالنظر إلى المصلحة، و ليس إلى شيء آخر"3.
و يذهب تراسيماخوس إلى أبعد من هذا حين يقدم رؤية كونية للعدالة، و ذلك بقوله أن لها معنى واحدا في كل الدول، و هو صالح الحكم القائم، و لكي يؤكد موقفه هذا يقول: "و لما كان المفروض ضرورة هو أن الحكومة هي الأقوى، فالنتيجة الوحيدة المعقولة هي أن مبدأ العدالة واحدا في كل شيء و هو صالح الأقوى".4
بالإضافة إلى هذا فتراسيماخوس يقر بأنه من العدل أن تطيع الرعية حاكمها، بينما يرى أن الظلم يجب أن يكون سمة أساسية عند الحكام، و ذلك لأن العدالة هي في نفع الحاكم و الأقوى على حساب الرعية التي ينبغي أن تطيع.
و يقارن تراسيماخوس بين العادل و الظالم، و يرى بأن الظالم يكون دائما هو الرابح، و أن العادل حتما يكون خاسرا، كما أن الظالم يحقق سعادته على حساب الآخرين، عكس العادل.
و من هنا فسمة العدالة حسب تراسيماخوس هي الظلم و الجور، و استعباد الرعية. و الحاكم رغم ظلمه يكون في كفة القوة، بحيث لا يجرؤ أحد على معاقبته، بل إن من يخالف القوانين التي طبعا تكون لصالح الأقوى هو الذي يعاقب. و سبب خوف الناس من الظلم يرجع حسب رأي تراسيماخوس إلى كونهم يتواجدون في كفة الضعف، و بذلك فهم يخشون الظلم.
و بما أن العدالة هي لصالح الأقوى، والظلم ينفع صاحبه، و يخدم مصالحه، فالعدالة إذن هي نفع القوي، فحياة الظالم أكثر غنما من حياة العادل، فالظالم يسعى دائما إلى أن يكون لديه أكثر مما لغيره، سواء كان مثيله أو نقيضه. بينما نجد العادل لا يريد أكثر مما لدى مثيله، و إنما أكثر مما لدى نقيضه. يقول تراسيماخوس: " إذ أنه (الظالم) يسعى إلى أن يكون لديه أكثر مما لدى الناس أجمعين... عكس العادل الذي لا يريد أكثر مما لدى مثيله، و إنما أكثر مما لدى نقيضه"5. و من سمات الظالم حسب تراسيماخوس كونه خير و حكيم، أما الظالم فهو ليس بخير و لا حكيم.

أما بالنسبة لكاليكلس فينطلق من نقده للأخلاق، و ذلك لأنه يرى بأنها بدعة من صنع الضعفاء لتقييد قوة الأقوياء، كما يرى بأن من ينادي بالأخلاق ليس الأقوياء، بل الضعفاء، و ذلك بهدف الحصول على المساواة.
و يقر كذلك بأن الطموح إلى الحياة يستدعي السماح للرغبات بالتحرر إلى أوسع مدى، و عند وصول هذه الرغبات إلى مداها ينبغي حينئذ أن تتوفر الشجاعة و الذكاء في توجيهها، و هذا هو النبل و العدالة الطبيعية. يقول كاليكلس في هذا الصدد: "إن من يريد الحياة حقا يجب أن يسمح لرغباته في الانطلاق إلى أبعد مدى، و لكن عند بلوغ هذه الرغبات مداها الأقصى، ينبغي أن تتوفر لديه الشجاعة و الذكاء في توجيهها و إشباعها، و أؤكد أن هذا هو النبل و العدالة الطبيعية"6.
و يرى كاليكلس أن سبب لوم كثير من الناس مثل هؤلاء الأشخاص الأقوياء، هو كونهم جبناء و ضعفاء، و يظهر هذا جليا في قوله: "إنهم يستعبدون الطبائع النبيلة، و يمدحون العدالة لأنهم جبناء".7
و يحدد كاليكلس فضيلة الرجل الحقيقية في كونها هي الشجاعة و الذكاء، ذلك لأنه يرى أن العدالة ليست للرجال، بل لأقزام الرجال، إضافة إلى كونها أخلاق العبيد و ليست أخلاق الأبطال.
و بهذا فالعدالة كما يراها كاليكلس تكمن في أن يكون للأفضل أكثر مما للمفضول، و للأقوى أكثر مما للضعيف، و أمارة العدل بالنسبة له هي أن يسود الأقوى من هو أقل قوة منه، و بالتالي فالقوة هي أساس العدالة.
و كخلاصة لهذين الرأيين، يمكن القول إن رأي تراسيماخوس كان ينادي بمصلحة الأقوى، مهملا بذلك فئة تمثل الأغلبية و هي الرعية، والعدالة بالنسبة له تتمثل في احترام الناس للقوانين التي تسنها الحكومات، و العادل هو من يخضع للقوانين دون مزايدة، و الظالم هو من يخرج عن تلك القوانين.
و بالنظر إلى الجانب الأخلاقي و المعياري نجد أن التصور الذي قدمه تراسيماخوس يخلو من الجوانب المهمة في بناء نظرية للعدالة. أما بالنسبة لرأي كاليكلس فهو بدوره تصور لا-أخلاقي، و ذلك باعتباه أن القوة هي أساس العدالة، و تسمى هذه النظرية ب"نظرية الحق للأقوى" التي قال بها جورجياس و تبناها تلميذه كاليكلس و "طبقا لهذه النظرية فإن الأخلاقيات و القوانين هي عمل الضعفاء من البشر، بيد أن الطبيعة و التاريخ لا يتفقان مع هذا، فالرجل القوي سيعرف ذلك حين يتحقق من الخداع؛ خداع البشر، و سيحطم ما أقاموه من قيود، و سيجعل من نفسه سيدا على الضعفاء، و بذلك يسود قانون الطبيعة بين البشر"8.
إن الغرض من موضوعنا هذا ليس الدفاع عن القوة و الظلم، بل إبراز طبيعة الأنظمة السياسية القائمة، و العدالة الممارسة؛ أو بالأحري التي يجبر الناس على ممارستها. و لكي نوضح أيضا دور الفكر السوفسطائي و مدى تجليه في الواقع. "فيا شعوب العالم دافعوا عن العدالة ليس خوفا من الأقوياء، بل غرضا في سيادة هذا المبدأ الأخلاقي الأسمى"


المصادر:
1= أفلاطون، الجمهورية، دراسة و ترجمة د. فؤاد زكريا، دار الوفاء لدنيا الطباعة و النشر، الإسكندرية 2004 م. ص. 191
2= أفلاطون، الجمهورية، ص. 191
3= ليو ستراوس و جوزيف كروبسي، تاريخ الفلسفة السياسية، الجزء الأول، ترجمة محمود سيد أحمد، مراجعة و تقديم إمام عبد الفتاح إمام، المجلس الأعلى للثقافة، 2005 م. ص.69
4= أفلاطون، الجمهورية، ص.191
5= أفلاطون، الجمهورية، 198
6= ول ديورانت، قصة الفلسفة، ترجمة فتح الله مشعشع، مكتبة المعارف، بيروت-لبنان، الطبعة الأولى المجددة 2005 م. ص. 21
7= ول ديورانت، قصة الفلسفة، ص. 21
8=zeller, e., outlinses of the history of greek philosophy, translated, by L.R, palmer, dover publications inc, edit, london 1920. p.88. نقلا عن كتاب "ملامح الفكر الفلسفي" للدكتور حربي عباس عطيتو، كلية الأداب – جامعتي الإسكندرية و بيروت العربية، دار المعرفة الجامعية، 1992 م. ص. 189

عبد العالي كركوب
أستاذ الفلسفة








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فيديو: الكوفية الفلسطينية تتحول لرمز دولي للتضامن مع المدنيي


.. مراسلنا يكشف تفاصيل المرحلة الرابعة من تصعيد الحوثيين ضد الس




.. تصاعد حدة الاشتباكات على طول خط الجبهة بين القوات الأوكرانية


.. برز ما ورد في الصحف والمواقع العالمية بشأن الحرب الإسرائيلية




.. غارات إسرائيلية على حي الجنينة في مدينة رفح