الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الدروس الخصوصية..أسبابها ومخاطرها

الطيب طهوري

2013 / 12 / 24
التربية والتعليم والبحث العلمي


تمهيد لا بد منه :
تتوسع رقعة الدروس الخصوصية في منظومتنا التربوية في السنوات الأخيرة بشكل كبير..كانت في بعض المواد فقط فصارت في كلها تقريبا..كانت في أقسام الامتحانات في الابتدائي والمتوسط والثانوي فصارت في كل المستويات..كانت تقدم مساءات يومي العطلة الأسبوعية فأصبحت تقدم في كل الأيام..كانت تتم في المدن الكبرى – غالبا – فصرنا نراها في الأحياء الشعبية والقرى..
باختصار شديد صارت ظاهرة اجتماعية ،يلجا إليها التلميد المجتهد والتلميذ الكسول..التلميذ الذكي والتلميذ الغبي..ويباركها اولياء التلاميذ .. التلميذ الذي لا يلجأ إليها يخجل من زملائه..إنها بمعنى ما تعكس ظاهرة قابلية مجتمعنا للاستغلال..وإلا كيف نفسر وضع التلاميذ في مستودعات بأعداد كبيرة تصل إلى حد الـ 80 تلميذا أحيانا، وهم يحكون ويأكلون المكسرات ويشربون الشاي والقهوة أثناء الحصة؟..هذه حقيقة حدثني عنها اكثر من أستاذ؟..كيف نفسر تلقيهم تلك الدروس الخصوصية على السادسة صباحا أو التاسعة مساء..
وباختصار أشد :صارت الدروس الخصوصية عادة..سلوكا عاما..ظاهرة اجتماعية سلبية في معظم الحالات..مثلها مثل الكثير من الظواهر الاجتماعية السلبية التي يصر مجتمعنا على التمسك بها..؟..
في المقابل نجد مستوى التعليم ، وفي كل المستويات أيضا يزداد ضعفا على ضعف كلما ازداد انتشار تلك الدروس..
فما الأسباب التي أدت إلى انتشار تلك الدروس ياترى؟ ماعلاقتها بذلك الضعف الفضيع الذي أطبق على رؤوس أبنائنا؟
ب- الأسباب :
في تصوري ، تتعدد الأسباب وتختلط..منها ماهو اجتماعي وتربوي ومنها ماهو نفسي ومنها ما هو سياسي..إلخ..وعلى العموم يمكن إجمال الأسباب في :
1-الإنجاب الكثير وغير المسؤول للأبناء والمرتبط بعدم إدراك الناس عندنا أن كل مولود يحتاج إلى مقعد دراسي ثم منصب عمل فسكن إلى ازدياد أعداد المتمدرسين بشكل كبير لا يتناسب وما بني ويبنى من هياكل استقبال مدرسية ، الوضع الذي ادى إلى الاكتظاظ في الأقسام ..والاكتظاظ كما هو معروف لا يتناسب أبدا مع طريقة التدريس بالكفاءات التي تحتم وجود عدد لا يتجاوز ربما الـ 20 تلميذا في القسم..وهو وضع أدى بدوره إلى عدم تحكم الأساتذة في أقسامهم بشكل جيد وتقديم الدروس كما يجب أن تقدم ، إفهاما وتحكما في الوقت.
2- عدم تجانس التلاميذ في مستوياتهم المعرفية وقدرات تلقيهم لما يقدم لهم من دروس ، وهو ما يؤثر حتما وبشكل سلبي على الدروس ، حيث يجد الأستاذ نفسه بين وضعين أحلاهما مر: إما أن يشرح أكثر ، ويعيد الشرح ، إذا أراد أن يُفهم تلامذته الدرس فعلا، أو يعمل على إنهاء الدرس حتى ولو لم يفهمه تلامذته ، من أجل أن ينهي برنامج المادة المكلف بتدريسها ، وفي الغالب يختار مكرها الطريقة الثانية حتى يتفادى الاتهام بالتقاعس من قبل المشرفين عليه ، أو العقوبة على تأخره في إنهاء ذلك البرنامج .. 3- عمل السلطة على شراء السلم الاجتماعي بأي شكل، حتى ولو كان ذلك مؤديا إلى إفلاس المنظومة التربوية كلها ، والقضاء من ثمة على مستقبل البلاد ،وفي هذا الإطار تحرص تلك السلطة على جعل اغلبية التلاميذ يبقون في مقاعد الدراسة مهما كانت مستوياتهم وأخلاقهم ،بدل توجيههم إلى الشارع الاجتماعي خوفا ، وذلك خوفا مما يترتب عن ذلك من بعض المظاهر السيئة التي يمكن ان تتحول تدريجيا إلى سلوكات جماعية منظمة تسبب الكثير من المشاكل الاجتماعية وبالتاكيد السياسية بعد ذلك،وهو نفس السبب الذي جعل السلطة تتدخل في عملية إنجاح التلاميذ في مختلف المستويات والشهادات حيث ترفع نسبة النجاح باستمرار حتى لا يزداد الاكتظاظ أكثر في الأقسام أو تضطر إلى توظيف آلاف الأساتذة وبناء الكثير من المؤسسات التعليمية من جديد .. أضف إلى ذلك أن السلطة في حاجة ماسة إلى إبعاد التلاميذ عن عيش مرحلة المراهقة والشباب في الشارع ، بل تفضل عيشهم إياها في المؤسسات التعليمية أساسا، إدراكا منها بأن تلك المرحلة تعتبر من أصعب مراحل العمر بالنسبة لها ، حيث إنها مرحلة حيوية الشباب واندفاعهم فإذا تجاوزوها أمكن للسلطة أن تتحكم فيهم اكثر..
4-إدراك التلاميذ أن بذلهم لمجهود محدود يضمن لهم النجاح وأن ارتقاءهم إلى المستويات الموالية شبه مضمون ،فلماذا يتعبون أنفسهم إذن ويسهرون الليالي وينتبهون كثيرا في القسم ويتعبون عقولهم في تأمل الدروس والانتباه للأستاذ وهو يشرح وتحضير الدروس مسبقا في المنازل ليفهموا دروسهم بشكل جيد وجدي ..إلخ..وهو ما يعني مساهمتهم ، بل وتعمدهم احيانا في إحداث الفوضى في الأقسام والتأخر عن الالتحاق بها.. وهي كلها أسباب ساهمت في إفساد الدروس النظامية بشكل كبير ..
5- ضعف بعض الأساتذة أو عدم جديتهم في أعمالهم الدراسية أو مللهم نتيجة ما يعانونه مع تلامذتهم شبه المتمردين نتيجة ضعفهم وتعبهم وعدم وجود أوقات راحة في يومياتهم تخفف عنهم عناء ذلك التعب المتولد من امتلاء كل أوقاتهم بالدروس بما فيها أيام العطل الأسبوعية والعطل الفصلية ... إلخ..إلخ
6- جهل معظم الأولياء وعجزهم عن التحكم في أبنائهم وجعلهم يراجعون دروسهم ويحضرونها في المنازل ، من جهة ، واعتقادهم بأن الدروس الخصوصية هي الطريق التي تضمن لهم النجاح ، من جهة أخرى، يدفع بهم إلى الإصرار مكرهين في الغالب على دفع أبنائهم إلى تلك الدروس ..
7- ثقافة الاستهلاك الغازية لنفوسهم وعقولهم بإشهارها البراق المغري تملأهم بطموحات لا محدودية لها مقابل مالديهم وما لدى أوليائهم من إمكانيات محدودة ، وهو ما يجعلهم اكثر تمزقا نفسيا ، ومن ثمة يأسا، خاصة وأن أبناء البرجوازيين يتباهون بمنتجات تلك الثقافة أمامهم في كل لحظة وحين. . 8
-انقلاب القيم رأسا على عقب ، حيث لم تعد للعلم والمعلم والمتعلم المكانة التي كانت لهم فيما مضى ، بل صارت المكانة تتحقق بالطرق غير الشرعية غالبا ( رشوة ومحسوبية ونهب مال عام والتعامل مع منصب المسؤولية كغنيمة تدر على صاحبها الأموال..إلخ..إلخ ، خاصة والريع البترولي يتدفق على السلطة التي به تشتري الذمم وتعمم الفساد عموديا وأفقيا ، وتقضي من ثمة على كل معارضة يمكن أن تكون جادة لها ،حتى تبقى في الحكم وتحافظ على مصالحها المتجذرة جدا جدا.. كما لم تعد الكفاءة المعرفية هي طريق الحصول على منصب العمل ، بل الواسطة والرشوة وأسماء النجوم هي وسائل الحصول عليها..ولأن تلامذتنا يدركون جيدا ذلك كونهم ليسوا منعزلين عما يحدث أمامهم في الواقع ، بل هم أبناء هؤلاء المستفيدين من ذلك الفساد او أولائك المتضررين منه ، خاصة وهم في سن تجعلهم اكثر تأثرا بما يحدث أمامهم كان ميلهم إلى اللامبالاة بما يقدم لهم من دروس نظامية..
9- تحول التوجه إلى الدروس الخصوصية في غالب الأحيان إلى مظهر تباه لدى الكثير من تلاميذ الأغنياء على زملائهم من أبناء الفقراء ، خاصة وقد صارت تلك الدروس تقد في المنازل وبأثمان باهضة من قبل الكثير من الأساتذة الجشعين الذين لا يتورعون حتى عن إعطاء حلول الفروض والاختبارات لتلامذتهم الخصوصيين ، حيث يحلون لهم التمارين التي ستأتيهم في تلك الفروض والاختبارات ، وهو ما يجعلهم يأخذون علامات أعلى من الذين لا يتلقون تلك الدروس..
ج – المخاطر:
- في بداية مشواري التدريسي كنت أتطوع مساء الإثنين فأقدم لتلامذتي دروسا خارج المقرر..أفكك رموز قصص قصيرة لزكرياء ثامر أو ياسين رفاعية أو المرحوم عمار بلحسن او عبد العزيز غرمول ..إلخ ..أو رموز قصائد لأدونيس أو المرحوم محمود درويش او شوقي بزيع او محمد علي شمس الدين او المرحوم نجيب سرور..إلخ ..وأكتشف معهم جماليات وأبعاد ما أقدمه لهم..كان القسم يمتلئ عن آخره..كان حتى تلامذة الأقسام التي لا أدرسها يحضرون..وكانت تلك الدروس تمر مفعمة بالكثير من الفرح، فرح التلاميذ وهم يتأملون ويتخيلون ويكتشفون ما كان مجهولا بالنسبة لهم..كنت أوزع عليهم الروايات والمجموعات القصصية والشعرية والكتب الفكرية المختلفة..كانوا يطالعونها بنهم ويسألون عما لم يفهموه منها..كان وقتهم يسمح لهم بكل ذلك..لأنهم لم يكونوا يعرفون الدروس الخصوصية ..
- كنا أيضا نقيم من حين لآخر أمسية فنية ما ، تقدم فيها بعض المحاولات المسرحية من إبداع التلاميذ أو محاضرات من قبل الأساتذة ..تقدم أيضا بعض الأناشيد والوصلات الموسيقية..كان مدرج الثانوية يمتلئ عن آخره..نخرج بعد نهاية تلك الأمسيات ويخرج التلاميذ وكلنا فرح وشعور بالحياة ..نخرج وزخم فرح الأمسية يشدنا إليه أكثر ويدفعنا إلى التفكير في التحضير لأمسية أخرى..
- كنا نقيم بعض الرحلات إلى بعض المناطق من ربوع بلادنا ..نستأجر حافلة أو حافلتين ونتوجه بتلامذتنا إليها..نربطهم أكثر بجمال الطبيعة، بجمال الحياة..نروِّح عنهم تعب أيامهم الدراسية..نجدد فيهم الاستعداد لدروس الأسبوع المقبل..نفتح امامهم آفاق الوجود على مصاريعها..يتعرفون على مناطق كانوا يجهلونها..يتأملون جمالها وبعض مظاهر حياة أهلها..نجعل حب الوطن يزداد انغراسا فيهم اكثر أكثر.. ما يؤلم حقا أن كل هذه البهجة الحياتية لم يعد لها وجود في منظومة اليوم التربوية..
منذ سنوات قليلة توقفت عن مد تلامذتي بكتب الإبداع والفكر..لم يعودو يقرأونها..أعطي التلميذ أو التلميذة كتابا ما..يعيدان الكتاب بعد أسابيع ..هل قرأتَه؟..هل قرأتِه؟..لا وقت لي، يجيبان..غالبا مايعود الكتاب إلي وقد مُزقت بعض أوراقه..في سنوات الثمانيات يعيد التلميذ الكتاب وقد غلفه بشكل جميل مبهر بعد أن يكون قد قرأه وألم بما فيه ، وناقشني في بعض محتوياته..
من هذه الملاحظة الأخيرة تأتي مخاطر الدروس الخصوصية :
تقدم تلك الدروس يومي الجمعة والسبت ومساء الثلاثاء وبعد الرابعة بقية الأيام الأخرى وحتى قبل السابعة صباحا أحيانا..وهو مايعني:
1- لا راحة إطلاقا للتلميذ ..لا فرصة متاحة له للمراجعة الفردية او الثنائية أو الثلاثة او حل التمارين التي يكلف بها من قبل أساتذته..لا تحضير لدروسه.. هو جهاز استقبال منذ أن ينهض صباحا من نومه ..حتى ينام..
2- لا إمكانية له أبدا لمطالعة ما هو خارج المقرر من كتب فكرية أو إبداعية أو مجلات..لا إمكانية له إذن لتطوير معارفه الفكرية..لتحسين ذوقه الجمالي..للتامل والتخيل..لتحسين أسلوبه التعبيري..كل ذلك صار في خبر كان.. بتعبير آخر : يزداد تلامذتنا بلادة عقول وجفاف مشاعر وضحالة خيال كلما اكثروا من تلك الدروس التي تاخذ كل وقتهم ولا تسمح لهم بمطالعة ما ينمي عقولهم ومشاعرهم وأخيلتهم ويؤنسنهم ،ويجعلهم من ثمة أناسا أصحاب ضمائر حية وعقول واعية يتحملون بها مسؤولياتهم في بناء مستقبل مجتمعهم..
3- هو محاصر طوال يومه..متعب جسديا ونفسيا.. ولأنه كذلك تتضخم انفعالية وتضعف عقلانيته ، ويصبح أكثر حساسية..أكثرميلا للغضب والعنف..ومن هنا كانت ظاهرة العنف التي صارت تنتشر في مؤسساتنا التعليمية بشكل كبير..
4- هو أكثر اتكالية ، لأنه أقل مسؤولية ..وهو أقل مسؤولية لأنه أقل استعمالا لعقله..وهو أقل استعمالا لعقله لأن أستاذ الدروس الخصوصية هو من يحل له تمارينه ويحشو رأسه بالمعلومات دون أن يبذل هو( التلميذ ) أي مجهود عقلي ذاتي..
- لا فرصة امام التلاميذ للقيام برحلات جماعية مع بعضهم يخففون بها عن أنفسهم ضغوط وتعب الأسبوع الدراسي ..لا فرصة لهم أيضا للمشاركة الجماعية في نشاطات ثقافية يبرزون فيها قدراتهم الإبداعية ويتنافسون من خلالها على تقديم الأفضل إبداعا وتنظيما..لا..لا..
اذكر في هذا الإطار اننا أقمنا مسابقة بين تلامذة السنة الأولى ثانوي في العام الماضي على مستوى ثانويتنا لاختيار الأقسام الثلاثة الأولى ، مخصصين لذلك جوائز كتبية مغرية ( كما كنا نعتقد )..كل أسبوع يشارك في المسابقة أربعة أفواج من عدد فوجي يقدر ب 22 فوجا/ قسما..لم يكن يحضر من التلاميذ ( شبه المرغمين ) إلا الذين هم أعضاء في مجموعات الإجابة..الآخرون لا وقت لهم..إنهم في الدروس الخصوصية..
6- علينا أن نقول أخيرا لا آخرا: إن هناك من يعمل على تكسير المنظومة التربوية العمومية بجعل عقول أبنائها عقولا ضحلة فارغة، أقل تفكيرا ووعيا وأكثر انفعالية وخضوعا للإغراء..أي أكثر أنانية ولا مبالاة بما هو من الشأن العام..
علينا أن نضيف : الفساد عم..والدروس الخصوصية بالكيفية التي تتم بها والكثافة التي تتميز بها لا يمكن أن تكون إلا فساد أيضا ، يجب أن يحارب كما تحارب كل مظاهر الفساد الأخرى..








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. من المفاوض المصري المتهم بتخريب المفاوضات بين حماس وإسرائيل؟


.. غزة: ما الجديد في خطاب بايدن؟ وكيف رد نتنياهو؟




.. روسيا تستهدف مواقع لتخزين الذخيرة والسلاح منشآت الطاقة بأوكر


.. وليام بيرنز يواجه أصعب مهمة دبلوماسية في تاريخه على خلفية ال




.. ردود الفعل على المستويات الإسرائيلية المختلفة عقب خطاب بايدن