الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


من أيام الخبز البغدادي في الهند

سيلوس العراقي

2013 / 12 / 28
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات


قبل شهر من عيد الفصح اليهودي وتحت شمس كلكوتا الحارقة ، يبدأ الصخب والعمل والتهيئة للعيد في مجمّع السيناغوغ المسمى بـ "بيت ايل".
فيقوم اليهود البغداديون بعمل الهياكل الخيزرانية المؤقتة وهيكلها المصنوع من أغصان الأشجار التي يجمعونها في فترة سابقة لهذا الغرض. لتهيئة المكان الملائم والخاص لتحضير خبز الفصح للعائلات اليهودية البغدادي (البغدادي :كانت تسميتهم هكذا في الهند) في المدينة، ليتم فيما بعد بيعه ولتوزيعه مجانا للعوائل المعوزة. ويتم تهيئة الخبز على الطريقة اليهودية ـ العراقية.
ويتم عمله من القمح الذي تكون زراعته قد تمت خصيصا وفقا لتعاليم التلمود وشريعة الهالاكا اليهودية ، أي التعاليم الخاصة بشأن الزراعة بحسب التقليد اليهودي.
والقمح يكون قد تم جلبه الى كلكتا من المناطق الزراعية القريبة ، وغالبا كان من انتاج الفلاحين والمزارعين اليهود البغداديين، من أجل اعداد الخبز الخاص بالطقس السنوي لعيد الفصح.
تجلس النسوة اليهوديات (الفقيرات) على مقاعد خشبية منخفضة (تختات) ويبدأن بعجن العجين في (طشت) إناء كبير لعمل الخبز غير المخمّر.
بينما تجلس نسوة أخريات القرفصاء أو على ركبتيهن لتكتيل العجين وتكويره على شكل كرات صغيرة. ثم يستخدمن عصا رفيعة طويلة (شوبك) لشبك (تسطيح) كرات العجين على لوح رخامي كبير خاص يستخدم فقط لخبز عيد الفصح، و بعد انتهاء العمل وانقضاء الحاجة الى هذه الألواح يتم تنظيفها جيدا وحفظها بشكلٍ دقيق لتحافظ على طهارتها بحسب التقليد اليهودي، لغاية الحاجة اليها ثانية في عيد لاحق.
ويكون شكل العجينة المسطحة المشبوكة بقطر 15 انج ، وتقوم نسوة أخريات بخبزها بسرعة قبل أن تنتفخ.
بينما يقوم رجال يهود بمراقبة النار ويغذون التنور بالفحم. والتنور ، هو الفرن الطيني المعروف، الذي يقومون بعمله في ساحة السيناغوغ لهذا العيد.
ورجال آخرون من المتعلمين اليهود في الجماعة يقومون بالاشراف على كامل الانتاج للتأكد من أنه يتم وفق الالتزام الصارم لقواعد الماتزا (خبز من غير خميرة).
وتبدأ العائلات اليهودية بالمجيء الى ساحة مجمع السيناغوغ لشراء ووزن الخبز غير المخمر في الفناء الذي يمتليء بالكثيرين الذين يتبادلون الاخبار، والأحاديث والسوالف والنقاش حول تحضيراتهم للفصح.
بينما اللجنة أو المجلس المُشرف على تهيئة خبز العيد يقوم بمنح الخبز مجاناً لأعضاء الجماعة الأكثر فقراً لكي يتاح لكل يهودي الاشتراك بهذا العيد الكبير.
يوضع الخبز هذا، الهش والرقيق، قطعة فوق الأخرى ليتم وزنه بميزان كبير معمول من الخشب، مثل القبان وموازين العراق الخشبية أيام زمان.
وبعد أن يتم وزنه يوضع على شكل رزم في سلال مصنوعة من القصب.
الأثرياء يقومون بنقل الخبز الى بيوتهم بواسطة عربات، أما الفقراء فيضعون سلال الخبز فوق رؤوسهم ويشقون طرقهم في شوارع كلكوتا المزدحمة بالمارة والعربات.
كان هناك جماعة يهودية مزدهرة في كالكوتا في القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين.
في بداية قرننا الحالي، القرن الواحد والعشرين، لم يبقى في كلكوتا الا العدد القليل من المسنين اليهود البغداديين. وهؤلاء الباقون هم من العجزة الذين لا يمكنهم تحضير الخبز بأنفسهم. فيقوم بعض من غير اليهود بخبزه لكن تحت اشرافهم. وسوف ينحصر الطلب على خبز الفصح اليهودي في كلكوتا مع الوقت، والجماعة اليهودية البغدادية في المدينة بقيت منها أعداد جدا قليلة وهي ليست أكثر من ذكرى لماضٍ ، بالرغم من استمرار بقاء المباني اليهودية المهمة. أما بالنسبة للمؤسسات المجتمعية والكنيستات الضخمة التي لازالت فهي تعمل معتمدة على صناديق الائتمان اليهودية.
المدارس اليهودية للبنات لم تعد تنتظر البنات اليهوديات مثلما كان حالها سابقا. والسيناغوغات بدأت تمر في صعوبة عدم امكانية توفر الحد الأدنى من الحضور للقيام بفروض صلاة الجماعة التي تفترض وجود عشرة مؤمنين للقيام بها. والصروح الضخمة والمساحات اليهودية التي تدلّ على الوجود اليهودي (الماضي) أصبحت جوفاء لأنها مجردة من الجماعة اليهودية ومن علاقاتها الاجتماعية التي أعطتها في الماضي المعنى والغرض منها.
كيف أتى البغداديون واستقروا في كلكتا ولماذا غادروا المدينة حيث عاشوا فيها وازدهروا لمدة أكثر من 150 سنة ؟ لماذا يهجرون مكاناً لم يعرف حتى معاداة السامية، وحيث لعبوا دوراً مهماً في تطوير اقتصاده ؟
عاش البغداديون اليهود وعملوا في التجارة في جماعات يهودية صغيرة في كل الشرق الأوسط لعدة قرون. وفي القرن التاسع عشر فتحت السياسة الاستعمارية البريطانية المجال للأعمال الاقتصادية في الهند والشرق الأقصى، فبادر يهود الشرق الأوسط لاستثمار هذه الفرصة والاستفادة منها. ومنذ القرن التاسع عشر بدأت حركة كبيرة للاقامة في المنطقة الممتدة من البصرة الى شنغهاي.
وتطور مع مرور الزمن، وتغير أيضاّ ، حال هذا الشتات اليهودي البغدادي في الهند. وتغيرت معه الملامح الثقافية والاجتماعية. فمن مشاهد الحياة اليومية للنسوة مثلا ( وصور حياة اليهود البغدادي في هذا المقال مستوحاة من كتاب للكاتبة اليهودية البغدادية يائيل سليمان من كتابها روايات نسائية من شتات الأمل) في علاقاتهم الاجتماعية والسياسية وغيرها الى حد الغذاء الذي أكلوه والثياب التي ارتدوها ـ يمكن تتبع تطور الجماعة بابراز طبيعة الثقافة الحيوية والتوفيقية. لأن الثقافة هي "الطعام الذي نضعه على المائدة، طريقة طبخنا له، العلاقة بين الناس التي تجلس لتأكله وبين من طبخه وبين من يخدم، حول ماذا يتناقشون خلال تناول وجبة الطعام، أي موسيقى يسمعون، أي رقص يرقصون، الشعر والمسرح الذي يرافقهم، القيم الاجتماعية والروحية للناس، لأننا حين نقول ثقافة، فهذا يشتمل على الرؤى والأحلام والطموحات الانسانية".
فالاجيال الاولى من اليهوديات البغداديات في كلكوتا عشن بشكل لم يغيرن فيه أي شيء من طريقة حياتهن حين كنّ في بغداد أو الموصل أو البصرة أو غيرهم، وحافظن حتى على طراز لباسهن العراقي من دون أي تغيير، وعلى لهجتهم العراقية اليهودية ، وكل ماتغير بالنسبة لهن هو الموقع الجغرافي، بقين بغداديات لكن يعشن في الهند وليس في بغداد.
أما الجيل اللاحق فاستمر في العيش في عالم اليهود البغدادي في الهند، لكن بحكم الضرورة بدأ اهتمامه أكثر باللغة الانكليزية وبالطريقة الانكليزية أكثر من الجيل الأول، وتأثر بعض من هذا الجيل بالحياة الانكليزية في الهند المستعمرة البريطانية. لكن مع استمرار التمسك بقوة بالجماعة اليهودية المحلية، حتى ولو غادر بعضهم كلكوتا لكنه استمر في تواصله مع الجماعة البغدادية في كلكوتا.
ومع مرور الزمن انتقل غالبية المتعلمي والشباب الى اوربا واميريكا والى اسرائيل فيما بعد، وتغيرت ثقافتهم وعاداتهم بحسب البلد الذي انتقلوا للعيش فيه، وبالرغم من هذا بقي العديد منهم محافظين على عادات اليهود البغداديين في الهند وفي بغداد، في بعض الطبخات والاكلات التقليدية التي يعود أصلها الى بغداد والبصرة وكلكوتا، ولا زالت لغاية اليوم الاغاني البغدادية والمقامات والتراتيل اليهودية على التخت البغدادي والمقامات العراقية لكثير منهم وإن كانوا يعيشون في لندن أو نيويورك أو غيرهما، فان لها طعم خاص يذكرهم بأصلهم وبأصل أجدادهم في بعض المناسبات وبعض الأعياد. مع أنهم بشكل عام اقتبسوا ثقافة وعادات متعددة وكثيرة من البلد الذي يعيشون فيه اليوم، أو من عدة بلدان عاشوا فيها بعد مغادرتهم الهند. لكن مع كل هذا التغيير فلازالوا لغاية اليوم يحبون تسميتهم بـيهود (بغدادي).








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - تحية و تقدير
عبد الرضا حمد جاسم ( 2013 / 12 / 28 - 19:52 )
تقول
الشتات اليهودي البغدادي...لماذا البغدادي و ليس العراقي؟
ثم تقول بغداد و البصرة بخصوص الاكلات ...اين الموصل و انت كما اتوقع تعرفها و تعرف دهوك؟
ليست طشت و انما يقال عنها ال (مَعَجْنه) و اذا و جد الصاج الموصلي فلا حاجة الى التنور البصراوي كما اعتقد و اعرف
شكرا على ما تُقَدم
ننتظر الاكثر لكن الأدق


2 - اليهود البغدادي
سيلوس العراقي ( 2013 / 12 / 28 - 20:27 )
في الحقيقة ان اليهود من أينما أتوا من العراق الى الهند (كلكوتا او بومباي) تم اطلاق تسمية بغدادي
bagdadi
واستمرت تسميتهم كذلك حتى لو كانوا من يهود البصرة المهاجرين الى الهند ويبدو أن يهود بغداد كان لهم النفوذ الاكبر بشتى المجالات بحسب قراءاتي المتعددة حول يهود العراق في الهند

وتوجد لدى الشتات البغدادي العديد من المواقع الالكترونية يمكنك أن تبحث عنها وتطلع على تمسكهم بتراثهم الاصلي واغانيهم وفرقهم الموسيقية والجالغي الرائعة جدا
اما بخصوص الموصل ودهوك فلم يأت ذكر لهم في ما كتب حول اليهود المهاجرين الى الهند ربما لقلة عددهم في الهند، بل يأتي ذكر يهود من حلب في الهند

وإن أحببت فيمكنك الاكلاع على سلسلة مقالات لي حول اليهود العراقيين (البغدادي) كنت قد نشرتها في مواقع عراقية عديدة منها موقع الاخبار وموقع بحزاني
اما بخصوص الدقة فنحاول ان نكون دقيقين قدر الامكان

ذكرتني هذه بموضوع الدقة الدقة الدقة يا يعقوب
تحياتي


3 - مقالات حول اليهود في الهند
سيلوس العراقي ( 2013 / 12 / 28 - 20:42 )
هذا رابط لمقالاتي على موقع الاخبار
ومن بين المواضيع مقالات حول اليهود البغداديين (بغدادي) في الهند
تحياتي

http://alakhbaar.org/home/for-the-author/?auid=1439


4 - السيد سيلوس المحترم
عبد الرضا حمد جاسم ( 2013 / 12 / 29 - 08:56 )
تحية طيبه
اسمحلي ان اقدم التحية للاستاذ و الزميل يعقوب ابراهامي
واقدم التهنئة لكما بقدوم العام الميلادي الجديد
اشكر لك ما تفضلت به من رد
وارجو ان لا تكون كلمة الدقة قد ازعجتك لكني اقصدها لأن الموضوع جديد عليّ و هو مهم لذلك تمنيت الدقه حتى يتم الاعتماد عليه
اكرر التحية


5 - الى السيد عبدالرضا
سيلوس العراقي ( 2013 / 12 / 29 - 09:56 )
السيد عبد الرضا المحترم
تحية
انها كانت للمزح فقط
الدقة مكلوبة دائما
وكل عام وانت ايضا بخير واحبابك والعراق العزيز وكل البشرية بخير


6 - مطلوبة
سيلوس العراقي ( 2013 / 12 / 29 - 10:00 )
أرأيت كيف أن الدقة مطلوبة
هههه
فتم ارسال التعليق بخطأ في كلمة مطلوبة التي أصبحت خطأ مكلوبة
آسف
تحية أخرى

اخر الافلام

.. فـرنـسـا - أفـريـقـيـا: هـل طـويت صـفحة الوجود العسكري؟ • فر


.. أولى مناظرات الانتخابات الرئاسية الأميركية 28 يونيو 01:00 GM




.. بوتين قد لا يتوقف عند أوكرانيا..ما هي الدول الأخرى التي قد ي


.. حسن نصر الله يراهن على اللبنانيين -كسلاح-... وإسرائيل تعلم م




.. أبرز ما جاء في مقابلة المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي دانيال ه