الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مفهوم الصليب والقيامة في المسيحية

صبري المقدسي

2013 / 12 / 30
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات


مفهوم الصليب والقيامة في المسيحية
شكل يسوع خطراً كبيراً على قادة اليهود، إذ كان عمله التخريبي في الهيكل بنظرهم، دليلا كافيا على أنه يشتهي القيادة السياسية للشعب، وخطاباته التي أعلنها أمام الملأ بدنو حكم الله، كانت تتضمن رسالة سياسيّة عميقة ومُخيفة بالنسبة إليهم. وقد شكل طرد الباعة والصّرافين من الهيكل تهديداً مُباشراً لهم وللأيمان اليهودي الذي يُمثلونه، لأن الهيكل كان رمزاً للإيمان اليهودي بكامله، وكذلك بالنسبة الى السلطة الدينية التي تديره.
وقد يكون دخول يسوع في الهيكل، وقلبه للموائد وضربه الصرّافين، السبب المُباشر الذي أدى بالسلطات اليهودية الى أخذ الموقف الصارم ضده. إذ أن الهيكل كان مركزاً إقتصادياً مهمّاً بالنسبة الى التجار والكهنة والفريسيين، الذين كانوا يأخذون حصتهم من التجارة في الهيكل.
ولذلك كان دخول يسوع الهيكل لآخر مرة راكبا اتاناً، عملا مسيحانيّا رمزيا بحسّب التقاليد اليهودية، وذلك في أهم موسم من مواسم الأعياد اليهودية وهو عيد الفصح. وكان مؤيدو يسوع قد رتبّوا الفصح في الغرفة العليّة له ولتلاميذه، فيما يُدعى اليوم بالعشاء الأخير. وهناك في العليّة أسس يسوع العهد الجديد الذي يُدعى عهد الافخارستية(القربان المُقدس)، وبمشاركة تلاميذه، إذ أخذ الخبز وبارك وقال لهم: "هذا هو جسدي"، ثم أخذ كأس الخمر وقال لهم: "هذا هو دمي". ثم قال لهم: "إفعلوا هذا لذكري". لذا أصبحت الأفخارستية منذ القرن المسيحي الأول، الرمز الأعظم لذبيحة الصليب في المسيحية والى يومنا هذا، يعُاد ذكرها عند غالبية الكنائس المسيحية، ذبيحة غير دموية يحتفل بها الكاهن أو المطران مع الشعب المُؤمن كل يوم.
والخطر الثاني، الذي كان يمثله يسوع بالنسبة الى اليهود، هو الأعلان عن كون الله هو آب للجميع، وليس بعيداً كما كانوا يُصوّرونه. وبهذا المفهوم يكون بإستطاعة كل يهودي التقرّب من الله مباشرة. وهذا ما يجعل الشعب في المستوى نفسه مع الكهنة والفريسيّين، من دون وجود طبقات أو درجات. ولا ننسى ما يُشكل فقدان هذه السيطرة على الشعوب، من هلع وخوف على الكراسي وعلى المصالح الاقتصادية بالنسبة الى رجال الدين آنذاك.
والخطر الثالث وهو أن الشعب أعجب بشخصيّة المسيح وتعاليمه وعجائبه، التي كان يصنعها حتى في الهيكل أمام مسمع ومرأى من القادة والمسؤولين الدينيّين، ولاسيّما قصة الأعمى منذ مولده الذي شفاه يسوع، والذي نزل مثل الصاعقة على رؤوس الكهنة والفريسيّن، الذين أجروا محكمة على الأعمى وعلى أهله، وأرادوا تكذيب الخبر بالقوّة والتزوير، ولكنهم لم ينجحوا في مؤامرتهم.
وعلى أي حال، لم تكن كل تلك الأسباب تعني شيئا بالنسبة الى الحاكم الروماني (بيلاطس البنطي) والسلطات الرومانية الأخرى، التي لم تكن تهتم كثيرا بالصراعات الدينية داخل المُجتمع اليهودي، إلا أن التهمة الثلاثية التي ألصقت بيسوع، والتي كان فحواها تحريض الشعب ضد الرومان ومنعهم من دفع الضرائب وإتهام يسوع بإدعائه ملكاً لليهود، كانت كافية على إدانته وصلبه.
وبالرغم من أن يسوع لم يكن يهتم بتأسيس دولة سياسيّة، ولكن تعاليمه الروحية عن الله وحكمه وملكوته على الأرض شكلت تحديّاً صارخا بالنسبة الى المؤسسة اليهودية التقليدية وممارساتها السلطويّة اليومية. فكان لابد من التخلص منه بأية وسيلة، حيث أدين وعلق على خشبة الصليب، وكانت هذه الطريقة الرومانية المعروفة في إعدام الأشرار والمُجرمين والثورييّن والخارجين عن القانون.
وقد يتبادر الى الذهن؟ أما كان بالإمكان أن يفتدي يسوع البشر بكلمة واحدة أو بفعل سجود بسيط بإسم البشرية جمعاء، من دون أن يُقاسي الآلام الفادحة والإهانات القاسيّة. والجواب، يكمن في كوّن البشر لا يتأثرون إلا بما يقع تحت الحواس، لكونهم بشرا من لحم ودم تحكمهم الأحاسيس والمشاعر البشرية.
فكان لابد من الموت بهذه الطريقة المؤلمة بسبب فظاعة الخطيئة التي استوجبت التجسّد والموت على الصليب ثمنا للمُصالحة مع البشر الخاطىء، وإلا لما كان للتضحية من معنىً يُذكر، ولا للموت حُبا بالآخرين من هدف يبتغيه الأنبياء والسياسيّون والثوريّون من أجل أديانهم وأوطانهم وشعوبهم من دلالة لها إعتبار.
ولكن الصليب لم يكن إلا بداية المشوار في المسيحية، إذ عندما ذهبت النسوة بحسب عادة اليهود في اليوم الثالث ليطيّبن جسده، وفي غداة يوم الأحد وجدنَ القبر فارغاً، فبشّرنَ بطرس وإخوته(التلاميذ) أن يسوع ليس في القبر. إذ كان القبر فارغاً، والكفن والمنديل، ملقيان في الداخل. عندئذ فقط، خطرت ببالهما (بطرس ويوحنا) الكلمات التي تنبأ بها يسوع عن قيامته في اليوم الثالث وإنتصاره على الموت. وعندما ظهر لهم يسوع وهم مجتمعون، أزال شكوكهم وأوهامهم التي لازمتهم وقال لهم كلماته الأخيرة:"اني قد أُعطيت كل سلطان في السماء والأرض. اذهبوا الآن، وتلمذوا كل الأمم، مُعمّدين أياهم بإسم الآب والأبن والروح القدس، وعلمّوهم أن يحفظوا جميع ما أوصيتكم به وها أنا معكم كل يوم الى منتهى الأجيال" متى 28/ 18ـ 20.
لقد كانت قيامة المسيح حدثاً ظاهراً في العلن، الحدث الذي لا مثيل له في التاريخ الإنساني، إذ كيف يُسيطر الموت على من صرّح علانية أنه:"الطريق والحق والحياة"، وكان لا بدّ لمن هو الحياة أن ينتصر على الموت بالحياة، لأن الناس لا يعبدون ميّتا يظل في قبضة الموت، ولا يمكن أن يموتوا من أجل من يحكم عليه الموت، من دون أن ينتصر على شوكة الموت.
ولذلك أصبح المؤمن المسيحي بعد القيامة شجاعا لا يهاب الموت بعد أن تأكد أن معلمه يسوع هو صاحب السلطان على الموت وأنه بقيامته كسر شوكة الموت وغلب الجحيم وصار الموت بالنسبة له، إنتقالا من الحياة الأرضية الزمنية الى الحياة الأبدية: "فأين نصرك يا موت وأين يا موت شوكتك؟ إن شوكة الموت هي الخطيئة وقوة الخطيئة هي الشريعة، فالشكر لله الذي أتانا النصر على يد ربنا يسوع المسيح" كورنثوس الاولى 15/ 55ـ 57. وأصبحت قيامة المسيح مصدرا لحياة الله في شعبه. إذ لولاها لما كانت المسيحية نفسها، ولما كانت الشهادة من أجلها رمزا للبطولة والفداء. ولا تزال الشهادة جزءاً مهماً من التبشير بالمسيحية، إذ لا يزال يستشهد في سبيلها كل يوم عشرات المُبشرين في كل أصقاع العالم.
فالقيامة إذن هي بيان صدق رسالة يسوع ورفعه الى المجد وكشفه عن ذاته وقدرته على الموت. لأن موت المسيح على الصليب كان يبدو لأول وهلة وكأنه دليل على أن الله أباه قد أهمله، لولا القيامة التي أظهر الله بها صدق رسالة إبنه يسوع عندما أقامه من الموت.
وقد أصبحت القيامة ومنذ اليوم الاول من إنتشار المسيحية، عيدا تحتفل به المسيحية كل سنة طقسيّة، وهو عيد الغلبة والنصر على الخطيئة، وعيد انتصار الخير على الشر والحُب على البغض والحياة على الموت. وأصبح المسيحيون يتبادلون التحيّة الجديدة(المسيح قام ... حقا قام)... تحية لطيفة... تحية الاخوّة الحقة، تنبض بالمحبة والتسامح والسلام.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - الفريسون ومصالحهم في الهيكل
سيلوس العراقي ( 2013 / 12 / 30 - 12:04 )
السيد صبري المحترم
كل عام وانت بخير
يرد في مقالك
أن الهيكل كان مركزاً إقتصادياً مهمّاً بالنسبة الى التجار والكهنة والفريسيين،
وتتردد عبارة الفريسيين كجماعة لها مصالحا في الهيكل
هل يمكن أن تبين مصالح الفريسيين الاقتصادية بالهيكل ؟ واذا أمكن أن تشير الى مراجع
اعتقد ان الصدوقيين (الارستقراطيين حينذاك) هم الذين يرتبطون بقوة بالكهنة وبالمصالح السياسية والاقتصادية
أما اذا كانت لديك مراجع يهودية ومسيحية تثبت أنه للفريسيين مصالح سياسية واقتصادية وبالهيكل على وجه الخصوص فساكون شاكرا لك
لانه من المعروف عن الفريسيين نفوذهم الاكبر في السيناغوغات وفي وسط عامة الشعب روحيا أكثر من جميع الفئات اليهودية الاخرى التي كانت بشكل من الاشكال تخدم مصالح الرومان والطبقات الثرية التي كانوا على خلاف كبير معها وبالتحديد مع الصدوقيين
لكن بعد سقوط الهيكل أصبح للفريسيين الدور الروحي الاول والوحيد تقريبا في تعليم وقيادة الشعب بعد انتهاء مهمة الكهنة والصدوقيين عمليا. حيث خلت الساحة للفريسيين الرواد في ظهور الادب الرابيني منذ القرن الاول بعد سقوط الهيكل ومنذ زمن رابي يوحنان بن زكاي
تحياتي

اخر الافلام

.. -أسلحة الناتو أصبحت خردة-.. معرض روسي لـ-غنائم- حرب أوكرانيا


.. تهجير الفلسطينيين.. حلم إسرائيلي لا يتوقف وهاجس فلسطيني وعرب




.. زيارة بلينكن لإسرائيل تفشل في تغيير موقف نتنياهو حيال رفح |


.. مصدر فلسطيني يكشف.. ورقة السداسية العربية تتضمن خريطة طريق ل




.. الحوثيون يوجهون رسالة للسعودية بشأن -التباطؤ- في مسار التفاو