الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


في نظرية رأس المال الاجتماعي 5 /5(*)

حسني إبراهيم عبد العظيم

2014 / 1 / 2
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع



3- روبرت بوتنام (1941 - )

طور بوتنام – وهو أستاذ العلوم السياسية بجامعة هارفارد - رؤيته لرأس المال الاجتماعي استنادا لما طرحه "كوليمان" حيث تتمثل فكرته الأساسية في أن الشبكات الاجتماعية تتضمن قيمة للأفراد، فالعلاقات الاجتماعية تشبه رأس المال البشري والطبيعي في أنها تؤثر في انتاجية الأفراد والجماعات، فرأس المال الطبيعي يوجد في الأدوات الطبيعية، ورأس المال البشري هو ما يملكه الأفراد من قدرات، ورأس المال الاجتماعي يتمثل في العلاقات بين الأفراد. إن العلاقات بين الأفراد تشكل الشبكات الاجتماعية، ومعايير التبادل الاجتماعي، والثقة بين أفراد المجتمع. إن خصائص الحياة الاجتماعية تلك تمثل جوهررأس المال الاجتماعي، وهي التي تسمح للأفراد بالعمل معا بشكل أكثر كفاءة لتحقيق الأهداف المجتمعية. (Hauberer 2011:53)

وقد جاءت الأفكار الرئيسية لبوتنام حول رأس المال الاجتماعي، في ثلاثة أعمال، الأول كان كتابا بعنوان جعل الديموقراطية تعمل: التقاليد المدنية في إيطاليا الحديثة Making Democracy Work: Civic Traditions in Modern Italy في عام 1993، والثاني مقال نشر في مجلة الديموقراطية عام 1995بعنوان لعب البولينج منفردا: رأس المال الاجتماعي الأمريكي المتدهور Bowling alone: America Declining Social Capital أما العمل الثالث فجاء في كتاب لعب البولينج منفردا: إنهيار وإحياء المجتمع الأمريكي Bowling alone: The collapse and revival of American community وصدر في عام 2000.

لقد حازت دراسات "بوتنام" عن رأس المال الاجتماعي ودوره في تعميق الديموقراطية في إيطاليا على اهتمام كبير، وأثارت جدلاً واسعاً، ووضعت المفهوم في دائرة الضوء، وكذلك كان الحال مع دراسته الثانية التي تناولت تراجع رأس المال الاجتماعي في الولايات المتحدة، وأفول نزعة المشاركة التي ميزت المجتمع الأمريكي، التي كان قد تحدث عنها "توكفيل". (إنجي عبد الحميد 18:2009)

إن أهم ما يميز تحليل بوتنام لرأس المال الاجتماعي عن بورديو هو نقله من المستوى الفردي إلى المستوى المجتمعي، بمعنى أن بورديو تناول رأس المال الاجتماعي باعتباره رأسمال فردي، أما بوتنام فقد نظر إليه باعتباره رأس مال مجتمعي، فقد ربط بين رأس المال الاجتماعي ومستوى المدنية في المجتمعات المحلية كالبلدة والمدينة وحتى المجتمع العام. (نصر وهلال 12:2007وأنظر كذلك Portes 1998:18)

في كتاب جعل الديموقراطية تعمل حاول بوتنام تفسير الفجوة التاريخية بين شمال إيطاليا وجنوبها من حيث الأداء الاقتصادي والفعالية الحكومية، فوجد في مفهوم رأس المال الاجتماعي ضالته، حيث أكد أن التقاليد الطويلة من المشاركة المدنية التي ميزت شمال إيطاليا والتي تجسدت في المستويات العالية من المشاركة في النوادي الرياضية الجمعيات التطوعية وأنماط التعاون الاجتماعي منذ القرن الثالث عشر هي التي أنتجت أكبر مخزون من من رأس المال الاجتماعي، وهو ما أسهم بدوره في التقدم الملحوظ للشمال الإيطالي. (أبو زاهر7:2010 وأيضا (Boix and Posner:1996:14

إن القضية الأساسية التي يطرحها بوتنام في هذا السياق أننا إذا أردنا أن نتنبأ بكفاءة التعاون الاجتماعي في مجتمع ما، فإننا يجب أن نحصي عدد المؤسسات المدنية فيه، فكلما زاد عدد تلك المؤسسات، كلما تعاظمت قدرة أعضاء المجتمع على تجاوز العقبات، والتكافل من أجل المصلحة العامة، ولذا فإن مثل ذلك التعاون والتكافل يعد مكونا جوهريا للحكم الصالح، أو على الأقل فإن كثافة المشاركة المدنية في مجتمع ما لها نتائج عميقة على نوعية حياتها السياسية. (Boix and Posner:1996:3)

وقدم "بوتنام" تعريفه المبدئي لرأس المال الاجتماعي بناء على دراسته للمجتمع الإيطالي بأنه: سمات التنظيم الاجتماعي مثل الشبكات والمعايير والثقة التي تيسر الفعل والتعاون من أجل تحقيق المنافع المتبادلة، يمكن أن تحسن من كفاءة المجتمع في تسهيل أعمال منسقة، إن العمل المشترك يعد أمرا سهلا في مجتمع ينعم بمخزون كبير من رأس المال الاجتماعي. (Portes 1998:18)

ويرى "بوتنام" أن رأس المال الاجتماعي يتضمن جوانب فردية وأخرى اجتماعية، فالأفراد يقيمون علاقات اجتماعية لدعم مصالحهم، فالكثير من الأفراد قد لا يجدون عملا مناسبا بسبب ضعف شبكة علاقاتهم رغم امتلاكهم رأس مال بشري جيد، ومن ناحية أخرى يعد رأس المال الاجتماعي سببا مهما للعمل في الوظائف المرموقة في الدولة أو القطاع الخاص، وأوضح بوتنام أن رأس المال الاجتماعي أكثر أهمية في استقرار الحكومات وكفاءتها من رأس المال الطبيعي والبشري. (Hauberer 2011:54)

وفي مقالة لعب البولينج منفردا: رأس المال الاجتماعي الأمريكي المتدهور واصل بوتنام تحليله لرأس المال الاجتماعي منطلقا من الواقع الاجتماعي الأمريكي، فعرض التعريف نفسه لرأس المال الاجتماعي الذي ورد في كتاب جعل الديوقراطية تعمل، ثم أوضح أن المجتمع الأمريكي قد شهد انهيارا غير مسبوق في الحياة المدنية والاجتماعية والسياسية، منذ ستينيات القرن العشرين مما أفرز نتائج خطيرة على المجتمع.

فقد لاحظ أن نسبة المشاركة في الانتخابات العامة والمحلية الأمريكية قد انخفضت بمقدار الربع تقريبا خلال العقود الثلاثة الأخيرة من القرن العشرين، وانخفضت نسبة المشاركين في اجتماعات عامة خاصة بالمدينة أو الشئون المدرسية من 22% عام 1973 إلى 13%عام 1993، وحدث انخفاض مماثل في نسبة حضور خطبة سياسية أو المشاركة في لجنة بمنظمة محلية أو الانضمام لحزب سياسي، وارتفعت نسبة الذين لا يثقون في الحكومة أو يثقون فيها بعض الوقت من 30% عام 1966 إلى 75%عام 1992، وانخفض معدل المترددين على الكنائس أسبوعيا من 48% عام 1950 إلى حوالي 41 %عام 1970، وانخفض معدل أعضاء الاتحادات العمالية من 32.5% عام 1953 إلى 15.8% عام 1992، ورصد بوتنام ملاحظة دقيقة وهي أنه على الرغم من زيادة عدد الأمريكيين الذين يلعبون البولينج في الفترة من 1980 حتى 1993بنسبة 10% إلا أن الذين يلعبونها كفريق قد انخفضت بنسبة40%. وأوضح تراجع قيمة الثقة بين الأمريكيين بشكل عام من58%عام 1960 إلى 37% عام 1993. (Putnam 1995:68-70)

ودعا بوتنام استنادا للمؤشرات السابقة إلى أن يكون على أولويات البحث الأكاديمي في العلوم الاجتماعية كيفية وقف التراجع في رأس المال الاجتماعي، واستعادة المشاركة المدنية والثقة اللتين تعرضتا للتآكل Eroding بشكل كبير وذلك من خلال فهم أسباب ذلك التراجع، ويرى "بوتنام" أن مفهوم المجتمع المدني Civil Society يمثل كلمة السر في استعادة رأس المال الاجتماعي. (Putnam 1995:78)

وفي كتابه: لعب البولينج منفردا: إنهيار وإحياء المجتمع الأمريكي يطرح بوتنام أهم رؤاه النظرية في رأس المال الاجتماعي بعد أن جمع مزيدا من الشواهد على انهيار رأس المال الاجتماعي الأمريكي، فيطرح تعريفا آخر لرأس المال الاجتماعي بأنه يشير إلى الترابط بين الأفراد، وإلى الشبكات الاجتماعية، ومعايير التبادلية والثقة التي تنتج عن تلك الشبكات، بهذا المعنى فإن رأس المال الاجتماعي قريب الصلة بما سماه البعض بالفضيلة المدنية Civic virtue ويكمن الفرق بينهما في أن رأس المال الاجتماعي يشير إلى حقيقة أن الفضيلة المدنية تكون على أشد حالاتها عندما تكون مغروسة في شبكة علاقات متبادلة، فالمجتمع الذي يضم العديد من الأفراد الأفاضل ن ولكنهم منعزلين لا يكون بالضرورة مجتمعا غنيا برأس المال الاجتماعي. (نصر وهلال:12:2007)

وقد أحدثت رؤية "بوتنام" تحولا في المفهوم، بحيث لم يعد التركيز منصبا على وجود علاقات السلطة واللامساواة الناتجة عن تباين الأفراد فيما يملكونه من رأس المال بأنواعه المختلفة، وإنما أضحى التركيز على توجهات وقيم عامة كالثقة بالآخرين، والتسامح، والتبادلية القائمة على الانتماء المشترك. (نصر وهلال:12:2007)

وفي سياق تحليله لرأس المال الاجتماعي يفرق "بوتنام" بين شكلين لرأس المال الاجتماعي: الأول أطلق عليه رأس المال الاجتماعي الترابطي Bondingوأطلق على الثاني رأس المال الاجتماعي التجسيري Bridging الأول يربط بين أفراد متشابهين، ويظهر في التنظيمات الدينية والإثنية، وموجه إلى داخل الجماعة، ويعمل على تأكيد الهوية وتدعيم التجانس داخل الجماعة، أما الثاني فيربط بين أفراد شديدي التباين، ويوجه إلى خارج الجماعة ويربط بين أفراد من مختلف الطبقات الاجتماعية ويتجلى ذلك الشكل في الحركات المدنية، والجماعات الدينية المسكونية (العالمية) التي تدعو للتقارب والتفاهم بين مختلف الكنائس. . (Hauberer 2011:57)

ويرى "بوتنام " أن رأس المال الاجتماعي الترابطي يتشكل من شبكات ذات علاقات اجتماعية شخصية وحميمية، تقوم بين أفراد العائلة والأصدقاء المقربين، أما في النوع الثاني فإن العلاقات أقل حميمية مثل علاقات العمل وعلاقات المعارف وأصدقاء الأصدقاء، ويترتب على كل شكل من رأس المال صورة ما من المنافع التي يمكن للفرد الحصول عليها، فقد يترتب على الشكل الأول توفير الرعاية الصحية للفرد في مرحلة الطفولة والشيخوخة والمرض، وقد يترتب على الشكل الثاني خلق فرص للعمل . . . وهكذا. (نصر وهلال:12:2007) ويؤكد "بوتنام" أن رأس المال الاجتماعي التجسيري هو الذي يكون رأس مال اجتماعي إيجابي يسهم في تحقيق الديموقراطية، إذ يكتسب الأفراد من خلال عضويتهم مجموعة من المهارات والمعارف والعلاقات الاجتماعية، بما يولد لديهم نوعاً من الثقة المجتمعية تدفعهم للمشاركة في الحياة العامة، والتأثير في صنع القرار، بما يدعم الديموقراطية. (إنجي عبد الحميد 45:2009)

ويحدد "بوتنام" أهم العناصر المكونة لرأس المال الاجتماعي في ثلاثة مؤشرات أساسية وهي الثقة التي يعتبرها أهم مكونات رأس المال الاجتماعي، وثمة علاقة طردية بين ارتفاع معدل الثقة بين الأفراد وحدوث التعاون الاجتماعي، وهناك عاملان مترابطان يسهمان في نمو الثقة في المجتمع الحديث المعقد وهما معايير التبادلية والمشاركة المدنية، وهما بدوريهما يمثلان المؤشرين الآخرين لرأس المال الاجتماعي، ويوضح بوتنام أن عمق شبكات المشاركة المدنية يسهم في تعزيز الثقة من جهة وتعزير معايير التبادلية من جهة أخرى، كما أن معايير التبادلية يرسخ قيمة الثقة المجتمعية. (Hauberer 2011:54-59)

إن الاستخلاص الذي خرج به بوتنام ووجهه لصانعي القرارات هو أن للانتماء لمجموعات منظمة والمشاركة المنتظمة في نشاطاتها مردود إيجابي على صحة الفرد وعمره وعلى رفاهيته. كما يترتب عن تقوية رأس المال الاجتماعي، فيما يترتب، تحسين الأداء التعليمي وتراجع معدلات الجريمة بما يوفره هذا على موازنة الدولة (وهو بالتالي يقلص من تدخل الدولة في الرعاية الاجتماعية) كما أن تراجع النشاط الذي يتم ضمن مجموعات )انتساب ونشاط أقل في النوادي، ممارسة أقل للمراسيم الدينية المنتظمة، مشاركة أقل في النقابات والروابط المهنية، تخصيص وقت أقل للتسامر الاجتماعي، المساهمة الأقل في النشاطات الخيرية من حيث نسبتها من الدخل، وثقة أقل في الجيران) يهدد ليس نوعية الحياة فحسب، بل والحياة الديمقراطية. (نصر وهلال:14:2007-15)

ونخلص من كل ما سبق أن ثمة تكاملا بين رؤى المنظرين الثلاثة، بحيث يمكن القول إن أطروحاتهم على تنوعها تمثل قوام نظرية رأس المال الاجتماعي، فما أهمله بورديو على سبيل المثال، تداركه كوليمان، وما تجاهله "كوليمان" اهتم به بوتنام.
ـــــــــــــــــــــــــــ
(*)هذا المقال جزء من دراسة سابقة للباحث في المصدر التالي: حسني إبراهيم عبد العظيم(بالاشتراك) دور العمل التطوعي في تنمية رأس المال الاجتماعي للمرأة: دراسة ميدانية على عينة من المشاركات في العمل الاجتماعي بمحافظة بني سويف، بحث مقدم إلى المؤتمر العلمي التاسع لكلية الآداب جامعة بني سويف بعنوان العلوم الإنسانية وتفعيل دور مؤسسات العمل التطوعي المنعقد في الفترة من 9-10/4/2013 بجامعة بني سويف بجمهورية مصر العربية.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. رئيس الوزراء الاسرائيلي يستبق رد حماس على مقترح الهدنة | الأ


.. فرنسا : أي علاقة بين الأطفال والشاشات • فرانس 24 / FRANCE 24




.. بعد مقتل -أم فهد-.. جدل حول مصير البلوغرز في العراق | #منصات


.. كيف تصف علاقتك بـمأكولات -الديلفري- وتطبيقات طلبات الطعام؟




.. الصين والولايات المتحدة.. مقارنة بين الجيشين| #التاسعة