الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


التباعد بين يهود الشرق والغرب في الحقبة الهللينية

سيلوس العراقي

2014 / 1 / 3
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات


ان الشتات اليهودي في بلاد بين النهرين (الذي كانت بداياته في القرن الثامن قبل الميلاد الى نينوى الآشورية والى بابل في القرن السادس قبل الميلاد، وفي الحقبة الفارسية رجع بعض منهم من بابل الى أرض اسرائيل وبقي عدد كبير منهم في بلاد فارس وبلاد النهرين بحدودهما القديمة)، لم يكن الشتات الوحيد للشعب اليهودي.
هُجّر اليهود عنوة من أرض اسرائيل كما هاجر بعض منهم لأسباب مختلفة في الحقبة اليونانية ابتداءا منذ القرن الرابع قبل الميلاد، الى مناطق أخرى من الأراضي الواقعة تحت الهيمنة اليونانية. وتسمى هذه الحقبة غالبا من قبل الباحثين والمؤرخين بالحقبة الهللينية أو الهللينيستية لأنها طغت وأثرت بثقافتها ولغتها وحضارتها على مجمل شعوب دول البحر المتوسط لغاية القرون الأولى من الحقبة الميلادية. ولم يكن الشعب اليهودي بمنأى من هذا التأثير. فكانت له جالياته في الانتشار في انطاكيا وآسيا الصغرى. كما تواجد اليهود بأعداد كبيرة في مصر ، وفي الاسكندرية على وجه الخصوص في بداية الحقبة اليونانية الهللينية، وتؤكد ذلك الكثير من المراجع والوثائق. أصبح اليهود في مصر جماعة إثنية متميزة بحضورها وعددها كمجموعة اثنية وتأثيرها كان واضحا للعيان ولاهتمام المؤرخين، فالمؤرخ فلافيوس يوسيفوس مثلا يتوسع كثيراً في وصف يهود مصر.
ولم يقتصر ذلك على مصر بل أنه ، في القرنين الثالث والثاني قبل الميلاد، نمى الوجود اليهودي في مناطق النفوذ اليوناني ـ الروماني مثل: اليونان، جزيرة ردودس وجزر بحر ايجا وفي آسيا الصغرى، وفي روما وفي صقليا ومدن أخرى من الامبراطورية الرومانية الأخرى (الايطالية حاليا).
وتشير الى هذا التواجد والانتشار الآثار والوثائق العديدة ومن ضمنها الكتب الابوغريفية اليهودية والتاريخية. كما يمكن استخلاص الكثير عن حالة يهود الشتات في الحقبة الهللينية من خلال كتابات الفيلسوف فيلون الاسكندري. والأمر الآخر الذي له أهمية خاصة في هذا المجال هو ظهور الترجمة السبعينية للكتاب المقدس اليهودي باللغة اليونانية في تلك الحقبة (القرن الثالث قبل الميلاد)، التي تدل على حاجة الجاليات اليهودية في تلك الحقبة الى توفر كتابها المقدس باللغة اليونانية التي أصبحت تجيدها وتتعامل بها يوميا في المحيط اليوناني، إضافة الى اهتمام ذوي الثقافة الاغريقية من اليونانيين للاطلاع على ثقافة اليهود وأصولها.
ومن مصادر القرنين الأول قبل الميلاد والأول الميلادي، تبقى كتابات يوسيفوس والقديس بولس الطرسوسي وكتاب أعمال الرسل (من العهد الجديد ـ المسيحي) كمصادر مهمة لمعرفة مدى الانتشار اليهودي في الفترة الهللينية ـ الرومانية.
يُمكن أن تتميز الجماعات اليهودية خارج أرض اسرائيل (الشتات) ببعض الميزات ومنها: أولا من خلال الحياة الجماعية ، ومن ايمانها وشريعتها اليهودية، ومن خلال التزامها بالكتاب المقدس اليهودي، وفي سيناغوغ الجماعة. اضافة الى القاسم المشترك وهو العامل القوي المتمثل بارتباطها بالأرض المقدسة ومؤسساتها. فالجماعات اليهودية في شتاتها لم يتوقف بتاتا شوقها وحنينها لتجتمع ثانية في أرض اسرائيل مع شعبها.
هذه الميزات شكلت العناصر الرئيسية والمركزية للثيولوجيا اليهودية في الشتات في تلك الأزمنة. ومما ساعد الشعب اليهودي في شتاته على الالتزام بهذه العناصر الرئيسية بقوة، عنصر آخر هو العنصر الخارجي (السلبي) الذي يتمثل بتعرض الشعب للاضطهادات الجسدية و المعنوية، وإن كانت متقطعة وبين فترة وأخرى ومختلفة من بلد لآخر من بلدان الشتات، لكنها جعلت الشعب المتعرض لهذه الاضطهادات يلتصق أكثر بكتبه وتقاليده المقدسة وبأرضه وتاريخه ـ بحسب بحث للكاتب اليهودي آرييه ايدريل تم اعتماده كثيرا في مقالنا هذا. وبذلك حافظ يهود الشتات على صلة قوية ومتينة جداً بهويتهم، ويمكن ملاحظة هذه الصفات والميزات في يهود الشتات من خلال الاشارة الى ذلك في كتب المؤرخين (الرومان واليونانيين) ومنهم المعادين لليهود كذلك. وبخصوص هؤلاء الأخيرين سيتم التعرض الى ما كتبوه بالتفصيل في مقال منفصل لاحق.
ومع كل هذا لا يمكننا القول بأن يهود الشتات كانوا متطابقين تماماً في كافة دول الشتات. حيث تلاحظ الفوارق الكبيرة أحياناً كثيرة بين يهود شتات الشرق مع اولئك الذين في الغرب (ليس المقصود بالغرب المعروف حالياً اليوم، بل دول المتوسط المتحدثة باليونانية حينها) ضمنيا وظاهريا. مع الأخذ بالاعتبار أن تقسيم شتات تلك الحقبة شرقا وغربا ليس المقصود منه جغرافيا وأفقيا فقط، لأن تأثيره كان عموديا أيضا مما أحدث فرقا واضحا في بعض نواحيه.
لم تعد ذات المتانة بين شتات الغرب والشرق وبالخصوص بعد خراب الهيكل وسقوط اورشليم سنة 70 م . بل ازدادت على اثر ذلك الفوارق، وساعد في ازدياد الفوارق الاختلاف في اللغة بين شتات الشرق والغرب. ففي الغرب كانت اللغة هي اليونانية واليهود تحدثوا وكتبوا باليونانية، بينما في أرض اسرائيل والشرق كانت لغتهم هي العبرية والآرامية (مع أن بعض الجماعات كتبت وتحدثت اليونانية). وأصبحت أرض يسرائيل كالحاجز (أو المركز) بين مجموعتي الشتات.

ان الاختلاف في اللغة بين شتات الشرق والغرب كان سببا مهماً في خلق هوة ثقافية بين المجموعتين، والذي كانت له تأثيراته على الواقع العملي. وما أضاف تعقيداً على التباعد هو عدم تمكن معلمي (رابيين) أرض اسرائيل من التواصل مع اخوتهم الغربيين، ربما كان من أسباب ذلك هو اللغة اليونانية التي لم يكونوا يجيدونها، واقتصرت تواصلاتهم بشكل كبير مع شتات الشرق.
ويبدو واضحا أن سقوط اورشليم ودمار هيكلها في 70 ميلادية أضعف من متانتها كمركز وحيد ومرجع ثقافي وديني موحد، ونشأ بدلا منها ، عقب السقوط ، المرجع الرابيني والأدب الرابيني. وهذا المرجع الجديد لم يكن من السهل التواصل معه من قبل يهود شتات الغرب لأسباب متعددة لكن يأتي في مقدمها عامل اللغة. ربما لا يميل البعض لوضع عامل اختلاف اللغة في مقدمة الأسباب، لكن الوقائع التاريخية تؤشر الى أهميته البالغة.
إن عامل اللغة ـ اليونانية هو الذي ساعد في انتشار المسيحية الأولى (الوليدة) بين يهود شتات الغرب المتحدثين باليونانية، التي استخدمها الرسل المسيحيين الأوائل (ليس جميعهم بل قلة منهم) الذين كانوا يجيدون اليونانية وعلى رأسهم بولس، في تبشير يهود شتات الغرب وتحويلهم الى الايمان (الجديد) بالمسيحية. بينما الرسل الأوائل الذين كانوا يجيدون الآرامية أو العبرية لم يتمكنوا من التبشير بالايمان المسيحاني الجديد بين شتات الغرب، فاتجهوا نحو الشتات اليهودي في الشرق.
بعد سقوط الهيكل، استمر اعتماد الكتاب المقدس لكلا الشتاتين في الشرق والغرب. لكن ما حدث في أرض اسرائيل وشتات الشرق هو أنْ بزغ الأدب (أو التقليد) الرابيني : المشناه والجمارا والمدراش وفيما بعد التلمود. كان هذا النتاج الجديد قد أصبح معروفا في أرض اسرائيل ويهود الشتات في الشرق وبابل التي أصبحت تدريجياً شريكا كاملا لمدرسة الأدب الرابيني والتلمودي الذي ولد في أرض اسرائيل. وكان من السهل على شتات الشرق التواصل المستمر مع الأدب الرابيني الجديد كونه مكتوب بلغتهم العبرانية. لكن لم يكن الحال بهذه السهولة مع شتات الغرب الذي يفهم اللغة اليونانية بغالبيته.
وبنفس الوقت ظهر الأدب الأبوكريفي بين شتات الغرب، الذي كان مرفوضا تماما من قبل حكماء اليهود في شتات الشرق. اضافة الى كونه مكتوب باللغة اليونانية. تماما مثلما كان الأدب اللاهوتي الاخلاقي ـ الهلاكا الشفهي والادب الهجادي الديني الشفهي محفوظان لدى الشرقيين باللغة العبرية فقط . بينما اعتمد الغربيون على الارث المكتوب باليونانية. ومازاد تعقيد الفوارق، عدم ترجمة الموروث الشرقي الى اليونانية مباشرة منذ القرنين الميلاديين الأولين. ولا يمكن معرفة السبب الحقيقي لعدم توفر الجهود في تأمين ترجمات مبكرة للتقاليد الشفوية وللأدب الرابيني الشرقي الى اليونانية أو حتى الى اللاتينية لشتات الغرب، مع ضرورة الاعتراف بعدم سهولة العملية في ذاك الوقت.
اذن، يمكن القول بأن ما حدث في الحقبة الهللينية قبل الميلاد وفي القرنينن الميلاديين الاول والثاني ة هو نوع من التباعد في تبادل الأدب الرابيني بين الشرق والغرب، فلا الشرقيون تمكنوا من التعرف على الأدب الابوكريفي (اليوناني اللغة) باللغة العبرية او الآرامية، ولا الغربيون تمكنوا من التعرف على الأدب الرابيني وتقليده العبراني الشرقي باللغة اليونانية.
فالمطلعون على التلمودين مثلا، إن كان البابلي منهما أو الاورشليمي، لا يمكنهم العثور فيهما على اشارات واقتباسات ذات أهمية من الأدب اليهودي الآبوكرفي الذي نما بين شتات الغرب، خاصة وأن الشرقيين اعتبروا الأدب اليهودي اليوناني خارجا عن قانونية الكتب والأرث الرسمي.
وجدير بالذكر بأن كل التقليد المعتمد من قبل الغربيين كان التقليد الموروث المكتوب فقط ، ليس كما كان الحال لدى الشرقيين الذين اعتمدوا بشكل كبير على التقليدين الأدبيين الشفهي والمكتوب .
فظروف التباعد وصعوبة التواصل وحواجز اللغة في الحقبة اليونانية الهللينية خلقت الفوارق العملية بين حياة الشرقيين والغربيين في ممارسة الشريعة بشكل كامل بشقيها (المكتوب والشفهي). فانعكس الاختلاف على تحديد الاعياد مثلا وفروض الشريعة التي تخص عمليات الطهارة والتطهير والزراعة والمأكل والليتورجيا وغيرها، كلها تأثرت بذلك ولم تكن متطابقة بين الشتاتين في تلك الحقبة. فكانت الصلوات والليتوجيا والتوراه (السبعينية اليونانية المترجمة منذ القرن الثالث قبل الميلاد) في جماعات شتات الغرب كانت تتم باللغة اليونانية وليس بالعبرية أو الآرامية.
شعر حكماء بني اسرائيل لاحقا الى خطورة هذا التباعد، فبدأوا بالتفكير بترجمة الكتاب المقدس العبري الى اليونانية بشكل يتطابق مع الكتاب العبري، ترجمة بديلة عن الترجمة السبعينية غير المعترف بها ، فكانت ترجمة "أكويلا " الكتابية، التي وافق عليها الحكماء. ومع هذا بقي الأدب الرابيني المكتوب والشفهي ، المدراش والمشناه، مكتوب بالعبرية والآرامية في المرحلة الهللينية.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فـرنـسـا - أفـريـقـيـا: هـل طـويت صـفحة الوجود العسكري؟ • فر


.. أولى مناظرات الانتخابات الرئاسية الأميركية 28 يونيو 01:00 GM




.. بوتين قد لا يتوقف عند أوكرانيا..ما هي الدول الأخرى التي قد ي


.. حسن نصر الله يراهن على اللبنانيين -كسلاح-... وإسرائيل تعلم م




.. أبرز ما جاء في مقابلة المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي دانيال ه