الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


رائحة القبور ..

حامد حمودي عباس

2014 / 1 / 9
الادب والفن



هواء معفر برائحة القبور ، يسبح في فضاء سجن كبير ، لا يبيح لساكنيه أن يهبط الحجاب الحاجز اسفل صدورهم الى مدياته الطبيعية ، حيث يشيع اختناق ممل ، لا يريد ان ينتهي ليل نهار .. الاخبار تتوالى من وراء الافق ، وهي تحمل صورا اختفت منها كل الالوان ، الا لون واحد هو لون الدم .. مسميات لا حصر لها لجماعات مسلحة راحت تذبح الناس ، وهم يسيرون على ارصفة الشوارع وفي البيوت قربانا للرب في الاعالي .. شعوب بكاملها تفر من مدنها لتسكن وراء الحدود ، يستضيفها الهوان ، وتقتلها المذلة ..
ثمة حصار يمتد سوره ليغطي كل المساحات .. تطفو فوق فضائه شعارات تحدد لمن يراها مسالك حياته ( لا تمزح فالمزاح يذهب الهيبة ..لا تضحك فذلك باب من ابواب الهلاك .. لا تغني فالغناء ضرب من ضروب النفاق .. ) وفوق تلك الشعارات ، يبرز القول المأثور ( الموت حق ، والحياة باطلة ) .
انه جو تفسده رائحة الزفير الطاغية ، فرت منه اسماء الله الحسنى ، واستقرت بداخله نواميس الشيطان ، لتقرر وعلى رؤوس الأشهاد ، بأن الدنيا فانية ، ولا حاجة لأحد أن يسعد فيها ، كي لا يكون وقود للنار يوم يستدعى العباد ليوم الحشر .
صدري يضيق .. وينحسر بداخله حيز الاحساس بطعم الهواء النقي .. ثمة غصة غريبة تعترض حلقومي لتمنع عني الاقدام على أي فعل يختص به البشر دون الحيوان ، فأنا مستعد لالتهام أي لون من الوان الطعام لغاية الشعور بالقيء ، غير انني ابدو عاجزا عن التحرك صوب ما أريد ، لا ما يريده لي عالم الحزن ..
( لا تتنفسوا على سجيتكم يوم الاثنين القادم ، واحرصوا على وضع الكمامات على افواهكم وانوفكم خشية استنشاق رذاذ اليورانيوم ، فيصيبكم مرض السرطان .. فلقد اعلن العارفون بتقلبات المناخ ، بأن عاصفة رعدية سوف تغطي سماء البلاد خلال ذلك اليوم ) .. بهذا أفصح الرجل الذي يدير مصبغة للجلود غير بعيد عن مقهى الحي .. فقابله زميل له ( بعفطة ) هزت اركان المكان قائلا ( ومن قال لك بان اليورانيوم قادر على تخريب جسد لعربي ؟؟ ) ..
في الطرف الايسر من الزقاق ، بدت الامور اكثر تأثيرا على المشهد المفعم بالاحتقان ، حين راح الاطفال يجرون صوب مكان ما ، كي لا تفوتهم المساهمة في تلوين الحدث .. وحين وصلت على اعقابهم الى هناك ، علمت بان الحاج اسماعيل ، قد اخرجه عن طوره قط مهووس وعنيد ، أصر على ان يحتاط من برد الشتاء ، لينام داخل محرك سيارته عندما يجن الليل ، فيفسد عليه تشغيل المحرك فجرا .. وعندما حاول الحاج ، كعادته كل يوم ، مطاردة القط ليبعده عن مكانه ، ضربه في خاصرته نتوء خشبي كان عالق بجدار بيت جاره ، فسقط على الارض ، وانكسرت ساقه ..
سرب من الطائرات المروحية الامريكية ، تحوم في سماء المدينة ..
- متى يغادرنا أولاد القحبة هؤلاء ؟ .
قالها بائع الخضار ، وهو يدفع بعربته جانبا ، لكي يتفادى مجموعة من الصبية المسرعين خلف احدهم ، وكان يحمل كرة من المطاط ..
فضيلة أم الشاي ، هكذا يسمونها لانها اعتادت ان تبيع الشاي في نهاية الزقاق ، مفترشة الارض ، وكان اغلب زبائنها هم من سائقي سيارات الاجرة المتجمعين بالقرب من سياراتهم منتظرين ادوارهم في النقل .. فضيلة لم يتعدى عمرها الخامسة والثلاثين ، وهي مطلقة ولها ولد واحد فقط ، طالما اشتكت منه كونه لا يعينها ومنشغل في تناول حبوب الهلوسة مع شلته من غير الاسوياء .. جمالها عرضها لمشاكل مع بعض الزبائن ، دون ان ينال احد منها شيء .. حين قررت ان اشرب شايا منها ذات مرة ، وكانت لوحدها ، حاولت اثارتها ، فحاورتها قائلا :
- لا اعرف بماذا أكنيك ، قصدي ما اسم ابنك ؟ .
- ما لك وابني من يكون ، وماذا يكون اسمه ؟ .. اشرب شايك وتوكل على الله .
- طيب ..
وعندما ناولتها كأس الشاي الفارغة ، شممت منها رائحة غير مستساغة ، هي اشبه برائحة التبن المتعفن .
تحركت عدة خطوات لابتعد عنها ، متطلعا الى الشارع المقابل .. مستندا الى جدار يصطبغ بسواد يافطات تعلن عن استشهاد أو وفاة أو رحيل انسان .. هكذا كانت العناوين .. استشهاد ووفاة ورحيل .. اما النساء ، فليس هناك ما يبيح الاعلان عن وفاتهن بأسمائهن ، بل بأسماء ازواجهن حتى ولو كانوا موتى ..
مواكب من الناس تتوالى بالظهور امامي ، وكل واحد منها يحمل نعشا في المقدمة ، ومنادي يكبر وينعى صاحب او صاحبة النعش .. المشيعون يبدون على غير اهتمام بالحدث ، فهم في حوار عابر بين بعضهم البعض ، ويسيرون بتثاقل واضح وكل منهم يود لو دسوا الجسد المتوفي تحت التراب على عجل ، ليتحرروا من تلك المهمة المملة .
سيارات الاسعاف المسرعة في كل الاتجاهات توحي بقتامة المنظر .. في حين لا تتردد العجلات العسكرية من نوع ( همر ) في دهس أو قتل أي هدف تشم منه رائحة الاعتراض غير المقبول ..
صبي يمر من امامي ، وعلى ظهر قميصه ( جيفارا ) ، وقد بدا لي وكأنه ينظر الي ليحفزني على العودة الى بيتي قبل ان تطالني رصاصة ضالة ، أو شظية قنبلة حاقدة .
أدرت ظهري لبلدي الذي بان لي موحشاً ، وطفقت انقل خطاي ببطيء صوب المنزل ، لأجد الاخبار المدافة برائحة الموت ، تقذف بها شاشة التلفزيون المحلي ..
السرير اذن ، هو الملاذ الوحيد لأنام ، رغم ان الوقت كان في الصباح ..








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. تجمع لعرض ثقافات وفنون الدول في العاصمة واشنطن | أميركا هذا


.. أون سيت - فيلم Moana 2 يتصدر إيرادات الافلام الاجنبية في مصر




.. أون سيت - عودة النجم محمد سعد للسينما المصرية بفيلم الدشاش


.. أون سيت - فيلم جدران على ووتش أت.. فيلم رعب ترشيح الأسبوع ده




.. أون سيت - لقاء خاص مع الفنان عمر السعيد | اللقاء الكامل