الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الانسياق خلف الخرافة

رمضان عيسى

2014 / 1 / 9
التربية والتعليم والبحث العلمي


مع الطغيان الجارف للعلم والعلوم يظن الكثير من الناس أن عصر الخرافة انتهى ، ويظنون أيضا أن الخرافة والأساطير مظهر فكري طارئ على الشعوب ، وذلك لاعتقادهم أن التفكير المنطقي والعقلاني هو الأصل ، وأنه وُجد مع الانسان منذ خروجه من عالم الوحشية والبربرية الى عالم الأنسنة . ولكن أمثال هذه الظنون غير صحيحة .
إن البنية العقلية العميقة لبني الانسان هي بنية خرافية بامتياز ، والخرافة والاسطورة سابقة في وجودها على كل من العلم والفلسفة معا ، إذ لما كان الانسان موجود طبيعي - مثله مثل جميع الكائنات الحية - ويعيش في أحضان الطبيعة ، ولم يُصدَّر اليها من الخارج ، لذا كان لمظاهر الطبيعة المتعددة الأشكال والتي أثارت الدهشة والفضولية لدى الانسان ، أثرا كبيرا في رسم انطباعات متعددة في دماغه الجنيني النشأة والتفاعل .
إن الفضولية والخوف والجهل والأحلام والصراع من أجل البقاء ، قد خلقت لدى الانسان شوقا عارما لتفسير وايجاد مبررات لما يجري حوله في الطبيعة ، كما خلقت لدى الانسان نزوعا قويا لاجتراح عتمة المستقبل والمصير ، وعلى طول التاريخ كان نزوعه هذا في ازدياد وتشعب ، ولم يكن لديه من العلم ما يكفي لمجموع التساؤلات وهذه النوازع ، لهذا وجد في الخرافات والأساطير وسائل مثالية لبلوغ ما يصبو إليه .
فالخرافات عبارة عن أفكار وممارسات وروايات وعادات لا تستند الى تسويغ عقلي ، ولا تخضع لأي مفهوم علمي ، لا على مستوى النظرية ولا على مستوى التطبيق ، ومن ثم فإنها بعيدة عن المنطق وعن الموضوعية ، ولا يستطيع الذي يتمتع بتفكير منطقي عال أن يعصم ذهنه من الخرافة إذا لم يكن يملك حصيلة ووفرة من المعلومات العلمية .
إن المنطق والمنهجية والتجربة هي القواعد الفكرية والعملية التي نستنتج بواسطتها المعارف اليقينية وتساعدنا في الخروج من إطار المسلمات المعرفية السابقة المختلطة بالخرافة والعادة .
إن الخرافة تستقي وجودها وتتعزز من مجموعة من الأوهام التي يحتفظ بها المجتمع بسبب ما عاناه من جهل وفقدان للمنهجية العلمية وتخلف سياسي واجتماعي واقتصادي .
إن هناك من يعتقد أن الميراث الفكري المقدس خال من الخرافات والأساطير . إن مراقبة لسلوك الناس في مجتمع تسيطر عليه منظومة من المواريث نجد أنها مختلطة بكثير من الروايات والحكايات ، ومع الزمن ارتدت صفة القداسة وأصبحت من المسلمات التي لا يرقى اليها الشك ، مثل عادات الزواج والقضاء العشائري والثأر وتصورات كثيرة خاطئة عن الأرض والسماء والجبال والبحار والأنهار والفيضان والزلازل .
من هنا نرى أن الخرافة والسحر والشعوذة وقراءة الكف والفنجان والايمان بقوة وتأثير النصوص المقدسة على حاضر الانسان ومستقبله ورزقة ونجاح عمله ، أكثر من تأثير علم الشخص وواقعية التفكير ومنهجية التخطيط ، ولا نوعية البلد الذي يعيش فيها الشخص والتي لديها التقدير والتشجيع للعلم والعلماء .
وقد لاحظ علماء الاجتماع أن انتشار الخرافة يتسع كلما زادت درجة الجهل والقهر والتسلط والخوف وفقدان الأمان، كل هذا يُورث العجز ويزرع فقدان الثقة بالنفس عند الأجيال الناشئة ، وينأى بالإنسان عن البحث الموضوعي والمنهجي لمشكلاته ، مما يجعله يلجأ الى الخرافة بوصفها أداة جيدة وسهلة لتفسير الظواهر .
إن عولمة الاتصالات لها وجهان ليس نشر النظريات العلمية والعلم بآخر المكتشفات والمخترعات ، بل إن إتاحة وسائل الاتصال للصغير والكبير وللأُمي والمتعلم ساعد على نشر الكثير من الخرافات عن طريق المواقع التي تعالج بالنصوص المقدسة والطلاسم السحرية واشاعة الكثير من الوصفات العلاجية وفوائد الأعشاب ويتبادلون الكثير عما يسمونه براهين على قدرة الخالق ، والترويج أن القرآن موسوعة علمية ، وأن كل المكتشفات العلمية موجودة ضمن الآيات القرآنية ، والمهم أن يفسرها أحد الفقهاء التفسير الصحيح لها ، كما يتناقل من هم اقرب الى الجهل ، أو من لديهم بعض قشور من المعرفة أخبارا عن مصائب حلت بفلان لتركه الصلاة ، او فلان لشربه الخمر .. مما لا ينهض على ثبوته دليل ، ولا يصمد للتمحيص والتجربة .
إن القاعدة الأساسية للتعامل مع المعلومة يبدأ من عالميتها ، أي أن يكون قد جرى تجريبها واختبارها وظهرت نتيجتها الايجابية سواء في الصناعة أو التكنولوجيا او الطب ، واعتُرف بها على المستوى العالمي في الكثير من مراكز الأبحاث العلمية ، حيث لا يصبح العلم علما إلا إذا صار عالميا ، ولا يصبح عالميا إلا بعد نجاحه في التجربة ووضوح نتائجه وفوائده .
فإذا جاء من يدعي خصائص وفوائد لطعام أو شراب أو أي شيء ، دون أن ينال موافقة الطب ، فإن علينا أن نقف من ادعاءاته موقف الشك والرفض الى ان يُثبت الطب ادعاءه أو ينفيه .
في بعض الأحيان تُحاك قصة خرافية لأسباب صحية دون ان يصل الى السامعين أن هناك أسباب مرضية تختفي خلف الحدث .مثلا ، فان مريض الفصام المصاب باضطراب في الادراك ، حيث يتصور أو ينتابه شعور أن في بابه من يحاول التجسس عليه ، أو من يريد به السوء ، فتراه يسمع بعض الأصوات ، فيأخذ في تحليلها ، مع أن ليس لها وجود في الواقع . واذا حدث وجود ورم في منطقة البصر في الدماغ فان المريض يختل عنده العصب المختص بالإبصار ، وبالتالي تختل عنده عملية نقل المرئيات والصوتيات ، فتصبح إما مضخمة أو مصغرة أو على غير طبيعتها ، كأن يتصور أن هناك ثعبان خلف الجدار ، أو أن شخصا يتربص لإلحاق الأذى به أو لاغتياله . فاذا لم يكن لدى السامع معرفة سابقة عن حالته المرضية هذه وكان مرضه لا يزال غير مكشوف لدى الآخرين ، فحتما سيداخله التصديق بما يقول خصوصا اذا كان الشخص ذو سمعة حسنة ، فان السامع سيأخذ كلامه على أنه حدث فعلا ، فيبدأ بنقلها على أنها حقيقة راسخة ، وإذ بنا أمام خرافة لأنها صدرت عن شخص أهل ثقة وسمعة حسنة .
إن الناس ليسوا على قدر واحد وعالٍ من المعرفة ، وهذا النقص المعرفي يجعلهم يروون الكثير من القصص والحكايات والآراء مطعمة ومغلفة بغلاف تكميلي نتيجة للنقص المعرفي ، حيث لا يرى الناس إلا القليل مما يروون من أحداث ويقومون بتكملة الرواية من بناة أفكارهم ، وهو ما يسمى بتعبئة الفراغات المعرفية ، وإذ بنا أمام حكاية أو مجموعة حكايات لا تزيد عن كونها أوهام وأباطيل نتيجة لحالة القصور المعرفي والتفسيري للأحداث .
ولكن كيف يمكننا الخروج من مأزق الانسياق خلف الخرافة ؟
1- التخلص من السرعة في التفكير واعتماد أسس التفكير المنهجي العلمي .
2- التخلص من الكسل الذهني واسلوب التلقين والحفظ وتنشيط التفكير والجاهدة والتمرين وتكثير التساؤل والبحث عن الحل .
3- اعتماد مبدأ النقد والنقد الذاتي والاعتراف بالقصور ، فلا حلول صحيحة اذا لم يسبقها الاعتراف بالخطأ .
4- التخلص من وهم الاكتفاء المعرفي والاعتقاد أن ما لدينا يكفينا ولا نحتاج لعلوم وتجربة غيرنا .
5- أن يكون لدينا الجاهزية لقبول الجديد والمتطور ليس في التكنولوجيا فقط بل وفي القوانين الادارية والدستورية .
6- التخلص من وهم الخصوصية والعصبية الدينية أو القومية أو العرقية ، فالعلم ليس له حدود جغرافية أو قومية ، انه نتاج النشاط العقلي الانساني ككل .
7- الاعتراف بالحقيقة والالتزام بها مهما كانت نتائجها ، ويجب عدم مجاملة العادات والنصوص التراثية والفتاوي على حساب الحقيقة .
هذه هي المبادئ التي يجب أن تتعلمها وتلتزم وتسترشد بها المؤسسات المسئولة عن تربية وتعليم الأجيال الناشئة ، وبدون هذا سيبقى المجتمع العربي والاسلامي أسيراً للخرافة ، وبالتالي يسهل تفشي الاشاعات الدينية بين ظهرانيه ولن يتخلص من التخلف الفكري والاجتماعي والاقتصادي في الزمن المنظور .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - تعريفات لمعنى الخرافة
رمضان عيسى ( 2014 / 5 / 6 - 22:58 )
هي -الحالة الذهنية لمن يعتقد خطأً أن بعض الأفعال، وبعض الأقوال، وبعض الأرقام، تجلب السعادة أوالتعاسة-. كما ذكرها لالاند في موسوعته الفلسفية،
في قاموس ميريام وبستر، يوجد تعريف للخرافات بصورة أدق وأعمق فهي -الاعتقاد أو السلوك المبني على أساس من الخوف والجهل، والسحر، والتنبؤ، وخطأ الاعتقاد
بالعلاقات السببية.
وفي المعجم الفلسفي -تنشأ الخرافة حين يتوهم الإنسان علاقة علية ضرورية بين ظاهرتين، بينما تكون هذه العلاقة عرضية طارئة-
ان نزوع الانسان للمعرفة العلمية لا يهدف الى معرفة العلم من أجل استخداماته العملية في الحياة فقط ، بل يهدف الى التخلص من الخرافة ، بشقيها الفكري والسلوكي ، -----فكل تاريخ التطور المعرفي للبشرية هو الطريق الذي تسلكه البشرية للتخلص من الخرافة وأثرها على عقول الأجيال

اخر الافلام

.. دول عربية تدرس فكرة إنشاء قوة حفظ سلام في غزة والضفة الغربية


.. أسباب قبول حماس بالمقترح المصري القطري




.. جهود مصرية لإقناع إسرائيل بقبول صفقة حماس


.. لماذا تدهورت العلاقات التجارية بين الصين وأوروبا؟




.. إسماعيل هنية يجري اتصالات مع أمير قطر والرئيس التركي لاطلاعه