الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


إشكالية الحرية في الفكر الفلسفي

عبد العالي كركوب

2014 / 1 / 17
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


إشكالية الحرية في الفكر الفلسفي
طرحت إشكالية الحرية نقاشا واسعا في الفكر الفلسفي، و ذلك منذ القدم، فهي كانت حاضرة في الفلسفة الإغريقية مع أرسطو و الرواقيين ثم الأبيقوريين... و انتقل النقاش بعد ذلك إلى دائرة الفكر الإسلامي مع الفرق الكلامية... لكن النقاش لم يحسم في هذه المرحلة مما سيجعله يمتد إلى الفلسفة الحديثة و المعاصرة.
فما الحرية إذن؟ و هل هناك اختلاف لدلالاتها بين الدارسين لها؟ و هل يمكن القول بوجود حرية أم لا؟

إن مفهوم الحرية في دلالته المطلقة يعني القدرة على إتيان الفعل أو السلوك دون أن تكون هناك معيقات أو إكراهات، لكن إذا تحدثنا عن الحرية كإشكال فلسفي، فإنه يجب علينا النظر إلى القوى الطبيعية و الاجتماعية .. التي تحكمها، فهناك مجموعة من الإكراهات التي تحد منها: كالإكراهات البيولوجية، السيكولوجية، السياسية، و الدينية... مما يجعلنا نقر بأنه ليست هناك حرية مطلقة و ذلك في ارتباطها بهذه الإكراهات.
و في تحديدنا لمفهوم الحرية كإشكال فلسفي في سياقه التاريخي، سنتطرق إلى موقف أرسطو الذي يبرز في مؤلفه "الأخلاق إلى نيقوماخوس". فقد حاول أرسطو من خلال تحديده للفضيلة باعتبارها موضوع الانفعالات و الأفعال أن يميز بين الأفعال الإرادية و الأفعال اللاإرادية، و يمكن القول - مع أرسطو- أن هناك أفعالا لاإرادية حقا، و هي التي تقع بالعنف أو بالجهل، فهناك مبدأ خارجي يمارس عنفه على الأشخاص بحيث لا نجد أثرا للفاعل أو المنفعل، و لا علاقة للإنسان بها. أما الأفعال الإرادية فهي الأفعال التي تتم حسب إرادة الشخص، أي نابعة من إرادته. لكن هناك أفعال يمكن اعتبارها مختلطة؛ فهي في ظاهرها أفعال إرادية، إلا أنه يمكن اعتبارها لاإرادية لأنها تقع إما بالطمع أو الخوف و اجتناب الضرر. و من هنا - و حسب أرسطو- فالأفعال الإرادية هي عكس ذلك؛ أي أنها أفعال لاإرادية، فرغم أن الإنسان حر في اختياره لها، إلا أن حريته تكون مقيدة بإكراهات تتمثل في الخوف من الضرر أو الطمع...
و أما الابيقوريين فيقدمون نظرة مغايرة، فالحرية بالنسبة لهم ترتبط بالبحث عن اللذة و اجتناب الألم، فالتصور الأبيقوري يذهب إلى القول أن غرائز الإنسان و ميولاته تسبب له الألم، لذلك علينا البحث عن اللذة، و هذه اللذة تتحقق باجتناب أوامر الغرائز و الأهواء، و بذلك اجتناب الألم. و من هنا فحرية الإنسان مرتبطة بقدرته على البحث عن اللذة و الابتعاد عن مسببات الألم.
و بالنسبة للرواقية فهي تدعو إلى العيش وفقا للقانون الطبيعي، فالرواقيون يتبنون فضيلة واحدة تعرف ب"فضيلة واقع الحال"؛ أي تجنب التحسر على الماضي و استشراف المستقبل، و تحث على عيش الحاضر فقط، كيفما كان.
و بانتقالنا إلى دائرة الفكر الإسلامي، نجد مواقف عديدة حاولت معالجة هذا الإشكال، و التي ارتبطت بالجانب الديني؛ أي معالجة إشكال الحرية كإشكال ديني أكثر من كونه إشكالا فلسفيا... و يمكننا أن نشير إلى موقف القدرية التي مثلها كل من معبد الجهني و غيلان الدمشقي، و يذهب هذا الموقف إلى اعتبار الإنسان له القدرة على اختيار أفعاله و سلوكاته، فهو ليس محكوما بضوابط و لا إكراهات أو حتميات، بل قادر على التصرف وفق مشيئته، و هنا إلغاء للمشيئة الإلهية. أما الموقف الثاني و الذي يتعارض مع الأول فهو موقف الجبرية و التي يمثلها بالأساس جهم بن صفوان الذي يرى أن الإنسان لا يملك القدرة على الاختيار، بل يخضع للقدرة الإلهية، فكل الأفعال التي يقوم بها الإنسان هي من عند الله، حتى أن جهم بن صفوان ذهب إلى تشبيه الإنسان بالحيوانات و الجمادات، رغم أنه استدرك ذلك بقوله إن الإنسان له عقل و قوة، لكن مع ذلك فهو يخضع للمشيئة الإلهية.
بالإضافة إلى هذين الموقفين، هناك موقفين أخرين يتمثلان في فرقتين كلاميتين، و هما: المعتزلة و الأشعرية (الأشاعرة).
فالمعتزلة تنادي بالحرية الإنسانية، فالإنسان حر في أفعاله و سلوكاته، فكما أن الله قادر على الخلق، فإن الإنسان قادر على خلق أفعاله. و من هنا، و بالنظر إلى كون الإنسان قادر على خلق أفعاله فهو حر حرية مطلقة. و ما يوضح هذه الفكرة هو نظرية العدل الإلهي عند المعتزلة، و التي مفادها أن الله أعطى استقلالية للإنسان في اختيار أفعاله، فليس من العدل أن يكون الله هو مصدر أفعال الإنسان أو مجبر على إتباعها.
أما بالنسبة للأشعرية فقد دافعوا عن وحدانية الخالق، و يرون بأنه لو كان للإنسان القدرة على الخلق لخلق أفعاله، إلا أن صفة الخلق تحضر عند الله فقط دون غيره، و إذا سلمنا بالفكرة الأولى لسقطنا في الشرك. وكحل لهذه الإشكالية تقترح الأشعرية "مبدأ الكسب" أي أن الإنسان يكتسب أفعاله و لا يخلقها، و قد قال الغزالي عن الكسب بأنه جبر(إكراه) في الاختيار.
هكذا تضاربت الآراء بين المفكرين المسلمين غير منتهين إلى إجابة شافية شاملة لإشكالية الحرية، مما سيجعل النقاش يمتد في انفتاحه مع فلاسفة العصر الحديث و المعاصر، حيث نجد الفيلسوف العقلاني رينيه ديكارت يسمي الشيء الحر بأنه كل ما هو إرادي، و بالتالي فالحرية ترتبط بالإرادة، و هذا ما دفع ديكارت إلى اعتبار الحيوانات كائنات لا حرة، إن الحرية إذن هي خاصية إنسانية، أما رائد الفلسفة الوجودية كيركيغارد فيتحدث عن الحرية كاختيار مطلق، و ينطلق من اعتبار اختيار اللا اختيار هو اختيار المطلق، و يعرف المطلق بقوله إنه ذاتي كما تتجلى في مصداقيتي الخالدة، فما يمكن اختياره هو أنا ذاتي و ذلك لأنها تجسد المطلق، و اختيار شيء آخر هو اختيار لشيء منتهي و ليس اختيار شيء مطلق، و يقصد بأنا ذاتي ما يكون في نفس الوقت أكثر تجريدا و أكثر تشخيصا كذلك، و يعني بذلك الحرية.

خلاصة القول، هو أن إشكالية الحرية تعد من الإشكالات الجدلية التي لازالت حاضرة إلى اليوم، و سبب تعقد هذه الإشكالية كونها لها أبعاد مختلفة و متنوعة، كالبعد الميثافيزيقي، البعد الديني، البعد السياسي، و البعد الأخلاقي... فالحرية عند كانط هي خضوع للواجب الأخلاقي الذي تعتبر الإرادة الخيرة أساس تشريعه، لكن ألا يمكن أن نحدد معنى واحدا للحرية؟ و أليست الحرية المطلقة مجرد وهم لإبراز استقلاليتنا، إذا كان الإنسان مجبرا على الاختيار و أن عدم اختياره هو في حد ذاته اختيار؟ "فيا شعوب العالم دافعوا عن حريتكم السياسية ، الاجتماعية، الثقافية، و الدينية شريطة أن تكون عقلانية و واقعية".
عبد العالي كركوب
أستاذ الفلسفة








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الحوثيون يعلنون بدء تنفيذ -المرحلة الرابعة- من التصعيد ضد إس


.. تقارير: الحرب الإسرائيلية على غزة دمرت ربع الأراضي الزراعية




.. مصادر لبنانية: الرد اللبناني على المبادرة الفرنسية المعدّلة


.. مقررة أممية: هدف العمليات العسكرية الإسرائيلية منذ البداية ت




.. شهداء وجرحى في قصف إسرائيلي على خان يونس