الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


العراق: دولة دينية، دولة مدنية...؟

فالح عبد الجبار

2005 / 6 / 21
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


تتعالى منذ حين اصوات باسم ثلة من علماء الحوزة تنادي بولاية الفقيه مبدأ للجمهورية الخامسة في العراق. وبذا بدأت المعركة الدستورية لتحديد ماهية النظام السياسي المقبل.
المناداة بولاية الفقيه ظهرت من دون اسماء محددة. ومرت من دون اي اعتراض سياسي او فكري، او اي ايضاح من جهة المرجعية العليا، نعني بالتحديد السيد السيستاني.
نعرف من فتاوى سابقة، ان السيد السيستاني حرّم على رجال الدين الشيعة احتلال اي منصب حكومي، مثلما افتى بوجوب اسناد كتابة الدستور الى هيئة منتخبة، وذلك منذ الثامن والعشرين من حزيران (يونيو) 2003.
وقتها نشرت صحيفة «المؤتمر» البغدادية تلك الفتوى بمانشيت عريض كأنها البشارة المنتظرة.
نعلم من تطمينات كثيرة ان السيد السيستاني شأن استاذه وراعيه آيه الله العظمى السيد ابو القاسم الخوئي، لا يقرّ بالولاية المطلقة للفقيه. فهو، حسب هذا المنطوق، يرى ان الولاية، اي الحكم السياسي، حق محصور بالامام الغائب، لا يدانيه فيه احد. وهذا الموقف استمرار للرؤية التاريخية في الفقه الشيعي.
لم يخرج على هذه الرؤية غير فقيهين، الاول هو الملا احمد النراقي (ت 1828) الذي كان اول من يصوغ مفهوم «ولاية الفقيه» كتطوير لفكرة ان الفقيه نائب الامام الغائب.
والثاني هو السيد الخميني، الذي وسّع الفكرة لتشمل الميدان السياسي، او بالتحديد ليضع الفقيه في موقع الرقابة على الدولة.
وثمة لبس في ما يخص فهم الخميني لشكل تطبيق مبدأ ولاية الفقيه. الواقع ان الصيغة الحالية، كما نراها مجسدة في دستور الجمهورية الاسلامية الايرانية، لم تكن واردة في ذهن الخميني يوم آب ظافراً من نوفيل لوشاتو الى طهران بداية عام 1979. فقد أقال بختيار من منصبه باسم الشعب (حسب منطوق بيانه) لا باسم الامام ولا باسم باريه. ويوم اسند رئاسة الوزراء الى الليبرالي المخضرم المهدي بازركان، ابلغ مساعديه، حسب رواية احدهم (السيد محمد الموسوي البروجنوردي ـ عميد كلية الفلسفة في طهران حالياً) بان «ولاية الفقيه قد تحققت» وعبّر عن عزمه الذهاب الى قم ليواصل تأمله الروحي. هذه واقعة معروفة لدارسي تاريخ ايران، غير ان النسيان يطويها لما تثيره من اهواء متضاربة، ابرزها هوى السلطة والثراء. واذا كان الخميني، صاحب ولاية الفقيه، يرى دوره اخلاقياً تعبوياً، فكيف عدل عن رأيه؟ الجواب يأتي من الاتباع المقلدين من صغار ومتوسطي رجال الدين الذين احاطوا به، ووجدوا سلطة الدولة النفطية تقع غنيمة سهلة، فصعب عليهم مفارقتها.
هذا الوسط الاجتماعي المحكوم عليه باقتسام موارد الخمس الشحيحة، ليس منزهاً عن الغرض وهو يمثل فئة اجتماعية طماعة، بل احياناً شرهة، تدرك انها لا تملك سبيلاً الى الصعود لقمة الهرم المراتبي، فذلك حكر على قلّة ذات صفات قد تكون نادرة احياناً.
وبضغط هذه الفئة التي بقيت بمنأى عن ضربات السافاك، امكن لها استثمار المرجعية، ودفعها في اتجاه دمج المنصب الديني (الفقيه الولي) بجهاز الدولة. والمرجعية هنا ينبغي الا تفهم على انها شخص فرد، بل مؤسسة ذات قواعد وأسس تتمتع بموارد الخمس (بيت المال) وهياكل ارتكازية (جوامع وحسينيات، وجمعيات خيرية) وشبكة وكلاء ومقلدين. انها اشبه بدولة الفاتيكان، مع فارق انها ليست رسمية، واذا كان المرجع هو باني هذه المؤسسة وراعيها فهو ايضاً، بمعنى من المعاني، نتاجها وثمرتها.
استطاعت فئات رجال الدين الصغار والمتوسطين في ايران ان تحقق دمج المقدس بالدنيوي. وطلع علينا دستور ايران فريداً في بابه. فهو يعتمد تقسيم السلطات الحديثة: تنفيذاً وتشريعاً وقضاء. وهو يعتمد مبدأ ان الشعب مصدر السلطات، لكنه يضع الفقيه الولي فوق المؤسسات كلها.
يعترف الدستور الايراني بأن «الله منح الانسان حق السيادة على مصيره الاجتماعي، ولا يحق لأحد سلب الانسان هذا الحق الالهي» (المادة 56 من الدستور).
وتنص المواد 56 و58 و114 على ان الشعب يمارس هذا الحق، والشعب يختار نوابه، والشعب يختار رئيس الجمهورية، والشعب ينتخب اعضاء المجلس الاعلى للقضاء (المادة 158)، لكنها جميعاً مشروطة بموافقة الفقيه الولي، كما ان مجلس النواب (الشورى) مقيد بهيئة رقابية اسمها مجلس صيانة الدستور (المواد 96 و98).
رضخ الخميني لهذا التحول من الجمهورية المدنية الى الجمهورية المقدسة. ونرى اليوم في العراق بوادر تحرك مماثل يأتي من منابع شتى، من داخل جهاز مرجعية السيد السيستاني، رغم انه اعلن انه يؤمن بـ«ولاية الا مه»، على عهدة بعض الوفود التي زارته.
هل يشهد العراق محاولة لتكرار المثال الايراني؟ قطعاً نعم. بل ان هذه المحاولة جارية منذ الآن، تغذيها مراكز قوى عديدة تضم الى جانب بعض النافذين في جهاز المرجعية ، قياديين اسلاميين، ونخباً سياسية واجتماعية طموحة. وتغتذي هذه الشخصيات على تعمق الهوية الشيعية وسيلة احتجاج على اقصاء تاريخي مديد من مقاليد السلطة في دولة يشكل فيها توزيع السلطة توزيعاً للثروة في آن: ذلك انها دولة مترعة بالنفط.
لقد كان تأسيس الهوية الشيعية اداة احتجاج مشروعة في عهد عبدالسلام عارف المعروف بتحيّزه الطائفي وعهد البعث، الذي حكر ثروة الامة على اسرة ضيقة. وكانت الهوية الشيعية ايضاً دريئة حماية أمام غول دولة شرسة، ومسكناً مخففاً لأهوال فترة الحصار.
اما اليوم فإن العملية السياسية السلمية تفتح باب المشاركة من دون اي عائق، ولم يعد للهوية الشيعية، بمعناها السياسي لا الديني (فالهوية الدينية لن تتغير) من وظيفة سوى التعبئة الانتخابية. وقد استثمرها سياسيون طامحون في الحكم خير استثمار. وامكن للضغط المتواصل ان يزج المرجعية بإرادة منها او بغير ذلك، وبعلم المرجعية او بخلافه، في اعداد قائمة انتخابية موحدة. وبذا تحولت المرجعية من راع شامل متجرد الى طرف منحاز. وحرمت جمهور الشيعة قبل غيره من تطوير ملكته الديموقراطية باختياره القادة، وعزلهم، ومحاسبتهم. هذه سابقة غير حميدة، حسب رأي الكثير من المراقبين. فالسياسة فن دنيوي فيه من الاهواء والمصالح المبتذلة، ما لا يجوز ربطه بمكانة دينية سامية.
ولقد رأينا الجوامع تتحول على هذا الخط الى مستودعات سلاح. وعلى ذلك الخط الى مراكز دعاية انتخابية. ومعروف ان الجوامع هي بالتعريف الفقهي، وقف لعموم المسلمين، وليست مكاناً لهذا الواعظ او ذاك الحزب. وجاء فك دور العبادة عن أسر جهاز الدولة صيف عام 2003، لا ليحرر دور العبادة من الدولة، بل ليضع الدولة تحت رحمة دور العبادة.
لا ندري كم من المقترعين صوّت لإسم السيد السيستاني بذاته، وكم صوّت لهذا الحزب او ذاك. لعلنا سنحظى بمثل هذا التفصيل في الانتخابات القادمة، عندما تمضي العملية بزخمها لخاص. ولا ندري بالتحديد كيف سيؤول تفسير دعوة السيد السيستاني الى «احترام الاسلام» في الدستور القادم، فكلمة احترام كلمة عريضة، حمالة اوجه، وقد تعني الشيء ونقيضه. ومسودة الدستور الحالي (قانون ادار الدولة) شأن الدستور الملكي، تنص على ان الاسلام دين الدولة، كما تنص على ان الشريعة مصدر للتشريع: نكرر «مصدر» وليس «المصدر الوحيد» وهذا وارد في الدساتير السابقة، رغم ان الاسلاميين يقيمون الدنيا ولا يقعدونها طلباً لوحدانية مصدر التشريع في عالم الاسلام الموزع الى ملل ونحل، ومذاهب وطوائف واجتهادات لا حصر لها والى مناطق فراغ في التشريع لها اول وليس لها آخر. وقد رأينا من تجربة ايران الاسلامية عجز المشرعين عن تقنين اصلاح زراعي، او حقوق النقابات، بدعوى انها لم تكن موجودة في الاسلام، ورأينا ايضاً لأول مرة في التاريخ الشيعي، نزع المرجعية عن آية الله كاظم شريعتمداري، واقصاء آية الله منتظري. فالسلطة عقيم لا تلد. والصراع على سدة الحكم قوّض مبدأ الأعلمية الذي ترتكز عليه اي مرجعية، واستبدله بمبدأ «التصدي السياسي»، معطياً لكل من هبّ ودبّ الحق في القيادة.
ومن حسن حظ العراق انقسامه الاثني والديني الذي يربأ بأي تطبيق لمبدأ الولاية في الصيغة الايرانية. وثمة حقيقة اخرى: لا القوى الليبرالية ولا الديموقراطية ميّالة الى تكرار غلطة الكتلة الليبرالية ـ اليسارية في ايران عام 1979.
واخيراً، الدولة الدينية في عراق اليوم هي محض انتحار سياسي.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. وصول البابا تواضروس الثاني للكاتدرائية المرقسية بالعباسية ل


.. قوات الاحتلال تمنع مقدسيين مسيحيين من الوصول ا?لى كنيسة القي




.. وزيرة الهجرة السابقة نبيلة مكرم تصل لقداس عيد القيامة بكاتدر


.. المسيحيون الأرثوذكس يحتفلون بمراسم -النار المقدسة- في كنيسة




.. ما سبب الاختلاف بين الطوائف المسيحية في الاحتفال بعيد الفصح؟