الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


قصة شعبنا المنهار

سليم سوزه

2014 / 1 / 24
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


كتبنا عن الطبقة السياسية العراقية كثيراً. انتقدناهم مراراً، شتمناهم، تجاوزنا عليهم باقلامنا والسننا. اعتقد آن الآوان ان نتحدث عن الشعب العراقي قليلاً. قضية خطرة لكن تستحق ان نخوض فيها.
العاقل لا يرى مشكلة في انتقاد الشعب العراقي رغم انه تحوّل في نظر الكثير الى تابو مقدّس لايمكن المساس به، وإن أي كلمة “قاسية” بحق هذا الشعب هي سُبَّة ومهانة تستحق معاقبة الكاتب عليها، على الاقل لعنه وشتمه ومصادرة وطنيته وانتمائه كلما ذُكر اسمه.

اقول ليس الشعب العراقي اقدس من القرآن او الكتب السماوية الاخرى وهي تُنتقد من العشرات يومياً، سواء في مقالاتهم ام احاديثهم، فما الضير اذا سلطنا جزءاً من حبرنا على مشاكل هذا الشعب وعقده النفسية! بشرط ان نتجنّب التجريح والاساءة، اذ ان اي اساءة للشعب ستكون اساءة للفكرة المطروحة وللكاتب نفسه طالما هو منهم. انا بدوري اكره استخدام الشتائم او تلك الالفاظ التي يجيدها جالدو الذات.

سأدخل في صلب الموضوع واقول ما اعتقد به حول الشعب العراقي والذي انا واحد منه. شعبنا طيب ومسالم .. نعم، لكنه مأزوم، منهار نفسياً ولديه عقدة من اللاشيء. هو يعيش الازمة قبل حتى وقوعها. يحوّل اي حوار بريء الى مشكلة، يعاني من امراض في السمع والبصر ولا يجيد قراءة الماضي جيداً. يتعرّف على المشكلة الحقيقية لكنه يتجاهلها ليناقش قضية اخرى وموضوع آخر. اي كلام او ايحاء يصدر من احد يتلقّاه بعين الريبة والشك، لا يتفق معه الاّ اذا عرضه على مرشحات الطائفة والقومية، بل لا يحملك على محمل حسن حين تبدي رأياً او قولاً معيناً. من نظرة بسيطة على تصرفات شرائح واسعة منه، سنجد مقدار العدائية والتشنج في سلوكياته العامة، في كتاباته، في ادبياته.
شعب صعب لا يتفق حتى مع نفسه. يعترض على كل شيء حتى مع عدم امتلاكه الحلول.

باختصار انه فقد انفتاحه واريحيته وخفة دمه لصالح الانغلاق والتطرّف. فالشخصية “السنية” لا ترى نفسها خارج اطارها الاستعلائي المتسلّط، ومازالت غير مقتنعة بموقع “المحكوم” بعد ان كانت “الحاكم” طوال كل تلك السنين من تاريخها. بالمقابل، بقي “الشيعي” متردداً خائفاً حبيس عقدة الخوف من الزوال حتى حين حكم البلد. يحيل اي تصرّف يقوم به “الآخر” الى سياق تاريخي خلافي ويفسّره على انه نيل من معتقده وعقيدته. اما الكردي، فهو لا ينتمي الاّ الى جبله وحلمه في الدولة الناشئة. عنيف وفض لدرجة لا يفرّق فيها بين صديقٍ وعدو. يتحسّس وينتفض من اي كلمة تقترب من اراضيه “المتنازع عليها” او من زعاماته السياسية. انه يعيش لحظة التقديس لهؤلاء الزعماء في “دولته” الفتية، نفس اللحظة التي عاشها العرب بعد خروجهم من الاحتلالات البريطانية والفرنسية والتركية وتشكيلهم دويلاتهم المستقلة. من الصعب وقتئذ ان ينتقد احدهم قادة التحرير العربي.

هذا اللاتجانس الواضح في افكار كل شريحة انعكس بدوره على شخصية الفرد العراقي وولّد انقساماً حاداً في الهوية العراقية الوطنية، عاشت في الظاهر موحدة تحت “الدكتاتورية” في حين برزت منقسمة متقاتلة فيما بينها في عصر “الديمقراطية”.
المؤسف بعد كل هذا التاريخ من التداخل الاجتماعي العريق بين مكونات العراق يرجع فيها العراقي اخيراً الى بدوية منغلقة لا تسمع لاي شيء خارج ما يراه الحشد. اصبح المجتمع بأغلبيته كتلة ضاغطة بقوة على نخبتها، جرفتها بمثقفيها وفنانيها ومبدعيها تجاه ما يريد عوامها وبسطاؤها. الشجاع مَن بقي صامداً يدافع عن عقله وحمكته. وهم القلّة التي سلب الجمهور هويتهم وصاروا خونة يروّجون لمَن يدفع اكثر كما يعتقد ذلك الجمهور.

ما هو السر يا ترى وراء هذا “العنف” الفكري الذي بات يتحلّى به عوام شعب العراق اليوم؟
اسباب معقدة ومتداخلة قد يصعب حصرها في مقالةٍ واحدة كهذه، لكن بنيوياً هيكلية اي مجتمع قائمة على خمس ركائز اساسية، الاقتصاد، النظام التربوي، النظام السياسي، الدين، العائلة. الخلل في احداها خللٌ في بنية المجتمع ككل، خللٌ في سلوك افراده وتصرّفاته. تعالوا معي لنتعرف على ركائزنا الخمس.

اقتصادياً نحن نعيش دون مستوى خط الفقر وهذا ربما اهم اسباب العنف كما يستخلص علماء الاجتماع، فالفقر والحرمان وقلة الموارد سببٌ كافيٌ للانسان ان يرهب انساناً آخراً، ولعل تجربتنا في العراق مشابهة لتلك التي حصلت في رواندا منتصف التسعينيات ايام تناحر الهوتو والتوتسي. فنسبة الروانديين ازدادت بشكل مذهل قياساً الى مساحة ذلك البلد الصغير الفقير وما عاد هم البعض الاّ قتل جاره واغتنام حلاله. انها الوسيلة الوحيدة للبقاء على قيد الحياة والانتهاء من “الآخر” المخالف.

نظامنا التربوي فشل ان يواكب العالم نظراً للحصار الاقتصادي السابق وظروف ما بعد سقوط البعث، حتى ان مناهجنا بقيت على قدمها غير مطلعة على ما توصل اليه العالم الآن. قلة الموارد وسوء ادارة العاملين في الحقل التربوي جعل مدارس الطين تزدهر في وجه مدارس الحضر.

اما النظام السياسي فلا حاجة للتذكير اننا نعيش فترة انحطاط سياسية بكل معنى الكلمة، لا وجود للحكمة او العقل في حل النزاعات. الغلبة للذي يصرخ اقوى. كنّا قبل ذلك تحت يد اعتى دكتاتور عرفه العالم. خَنَقَنا في حفرته وخنق نفسه فيها بالنهاية.

لم يعد الدين هو الآخر محترماً من قبل الكثير. يرى اغلبية المجتمع اليوم “المعمم” شيطاناً جديداً خرّب المدينة وشوّه الفن وزيّن للباطل. لم يعد يمتلك تلك القدسية التي كان يملكها سابقاً. انه سبب من اسباب الازمة وليس مفتاحاً للحل والحكمة.

ربما وحدها العائلة العراقية هي مَن بقت تجاهد في الدفاع عن مبادئها وقيمها في تربيتها لابنائها، لكنها تعاني كما البقية، فالتيار اقوى منها بكثير. اقوى منا جميعنا.

اربع ركائز من خمس خربت في هيكلية مجتمعنا فماذا عسى هذا الشعب ان يفعل؟
سينهار اي مجتمع في العالم حال انهيار ركيزة واحدة من ركائزه الخمس، فكيف بالذي انهارت اربعٌ منها؟؟
أهي النهاية؟ بالتأكيد لا. اصلاح تلك الركائز كفيل باصلاح المجتمع لكن السؤال هو هل يعرف الشعب العراقي انه غير طبيعي وبحاجة الى علاج؟ هذا هو الاهم في هذه الفترة.
مواجهة الشعب ومصارحته بعلله مهمة صعبة. هناك طرق مختلفة يتخذها اصحاب التحليل النفسي في علاج مرضاهم وسأتطرق لعلاجين رئيسيين في مقالتي القادمة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. نتنياهو بين إرضاء حلفائه في الحكومة وقبول -صفقة الهدنة-؟| ال


.. فورين أفارز: لهذه الأسباب، على إسرائيل إعلان وقف إطلاق النار




.. حزب الله يرفض المبادرة الفرنسية و-فصل المسارات- بين غزة ولبن


.. السعودية.. المدينة المنورة تشهد أمطارا غير مسبوقة




.. وزير الخارجية الفرنسي في القاهرة، مقاربة مشتركة حول غزة