الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


قصة شعبنا المنهار ... الجزء 2

سليم سوزه

2014 / 1 / 25
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


قلت في الجزء الاول من هذه المقالة انه من الصعب مواجهة الشعب بامراضه وعلله، وهذا ينطبق على جميع شعوب الارض وليس على الشعب العراقي فحسب. الصعوبة تكمن في ان الشعوب المنهارة والمأزومة تعيش دوماً وهم الكمال والمثالية. ترى نفسها مركز الكون وكل العالم يجري حولها. كل العالم يستهدفها ويحاول النيل منها ومن تاريخها وحضارتها فتفسّر كل شيء يقوم به الآخر “المعادي” بالمؤامرة المستهدِفة لوجودها ومبادئها وقيمها. ببساطة شديدة انها الافضل من بين كل المجتمعات وما يجري لها هو نتاج تدخل “الاعداء” ليس الاّ. الطائفية، التراجع، الانحطاط، العنف، التخلف، العدائية، الانقسام، الانهيارات، كلها لاسباب خارجية ولا وجود لاي سبب داخلي فيها. ان وُجِد، فهو بسبب ذلك العامل الخارجي ايضاً.

انها حالة شبيهة جداً باحدى الامراض النفسية التي يعيش فيها المريض النفسي واقعاً مؤلماً لا يقوى على مواجهته فيسعى دوماً للهروب منه، من خلال انكاره لذلك الواقع والعيش في مخيّلة الماضي الجميل. بالنسبة له، افضل وسيلة لمواجهة الازمة هي انكارها وعدم التصديق بها، ثم التأكيد والتكرار على انه كامل ومثالي وافضل من غيره تحت كل الظروف.
يوماً بعد يوم، يتقمّص الدور جيداً ويصل الى مرحلة القناعة التامة أنه سالم معافى، لا يعاني اي شيء. يندك في هذا الشعور اندكاك الدلالة باللفظ ويصبح من الصعب الفصل بينه وبين شعوره ذاك. هذه هي المشكلة.

هناك علاجان وضعهما المعالج النفسي لمثل هكذا حالة، الاول هو العلاج بالصدمة والثاني العلاج بالمداراة.

اما علاج الصدمة ففيه يواجه الطبيب مريضه بشكل مباشر دون اي مقدمات او مراوغات من انه ليس طبيعياً ويعاني من مرض. انه ليس الافضل وعليه الكف عن هذا الاعتقاد. فلو مثلاً كان المريض يعتقد نفسه افضل فنان وليس ثمّة فنان آخر يصل الى مستواه، فما على المعالج الاّ ضرب ذلك الاعتقاد داخله واخباره انه ليس فناناً اصلاً. ليس ما يقدّمه هو فن بل شخابيط. الفن مختلف والعالم لا يراك هكذا. عليك ان ترى وتتعلم الفن الحقيقي. مباشرية قوية لكنها ستجعل المريض ينهار في لحظة ضعف ويسقط على الارض باكياً معترفاً بأنه ليس فناناً بالفعل. بهذا يكون قد حقق الطبيب خطوة مهمة في العلاج النفسي. لعل مبدأ الاعتراف الكَنَسي الذي تقوم عليها الكنيسة الكاثوليكية مأخوذاً من هذا العلاج بالاساس، فحين يعترف المسيحي المذنب بخطيئته يكون قد تخلّص من جبل الهموم الذي حَمَلَه في ذلك اليوم. راحة نفسية وشعور بهيج بعد كل اعتراف يقدم عليه الكاثوليكي.

بعضهم يرى بالامكان استخدام هذا العلاج مع الشعب العراقي حيث مصارحته بشكل مستقيم وضرب كبريائه الواهم بكل مباشرية، انك لست الافضل، اخرج من الماضي وعش حاضرك. تعلّم من العالم واترك غرورك. تحمّل اخطاءك ولا تلقي بها على الآخرين. لست سوى شعباً مأزوماً لا يعرف العيش بسلام. لا يوجد مَن يريد بك السوء، بل لا يعرف الكثير خارطتك او حتى موقعك الجغرافي. لست مثالياً ولا كاملاً. انت مريض مثير للشفقة.
امور من هذا القبيل قد تشفي الشعب من ازمته لكنها خطيرة في نفس الوقت.
ثمّة مَن يعتقد ان مثل هكذا مباشرية قد تسبب ردة فعل عنيفة تجعل المريض يدخل في تعقيدات نفسانية اخرى لا يمكن تداركها. لهذا يقول اصحاب هذا الاعتقاد بضرورة العلاج الثاني وهو العلاج بالمداراة بدلاً من العلاج بالصدمة.

المداراة يعني ان يتماشى الطبيب مع مريضه بكل انسيابية ويداري ذلك الاعتقاد المتجذّر عنده كما لو انها حقيقة مطلقة. ففي مثالنا عن المريض الذي يرى نفسه فناناً عظيماً، يستمر الطبيب معه بل يجب ان يشجّعه على ذلك الاعتقاد ويقول نعم انت فنان عظيم، لك تاريخ كبير. ما اروع ما تنتج. لا يوجد منك اثنان. يبقى في هذه المداراة حتى يستدرجه شيئاً فشيئاً ويخبره بودية من ان ما تقدّمه انت هو عمل عظيم لكن هناك طريقة جديدة اخرى للفن، عليك ان تتعلمها ايضاً. كما انت بارع الآن ستكون بارعاً ومتميزاً اكثر ان تعلّمت طرقاً جديداً. ثم يمرّن الطبيب سمع وبصر مريضه على ماهية الفن الحقيقي بصورة غير مباشرة. يعطيه ما يُعتبر فناً حقيقياً ويجعله يقارن بنفسه بينه وبين اعماله دون ان ينبس ببنت شفة. سيدخل المريض دوامة صراع نفسي رهيب عاجلاً ام آجلاً، لا يخرج منها الاّ وهو مقتنع من انه ليس فناناً اساساً. ما كان يصنعه ليس سوى هراءً وضعه جنونه. انها وسيلة علاج مثلى عدا انها تحتاج الى وقت اطول بكثير من علاجنا الاول. فالاول (العلاج بالصدمة) هو علاج خاطف وسريع لكنه ينطوي على خوف من ردة فعل عنيفة وارتداد عكسي من المريض، اما الثاني (المداراة) فهو بطيء وطويل الاّ انه اقل خطورة بكثير من اي علاج آخر.

انا مع العلاج الثاني بالتأكيد.
ايها الشعب العراقي العظيم. انت عظيم ومثالي. كل العالم يطمح الوصول الى ما وصلت اليه من عظمة وحكمة واقتدار. تحتاج فقط الى صفعة بسيطة على خدك الايمن لتستقيظ من هذا الوهم محاولاً البحث عن اصلاح ذاتك.
على الاقل، هذا كل ما تحتاجه الآن.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. إسرائيل تسيطر على الجانب الفلسطيني من معبر رفح.. وتوقف دخول


.. بعد قتله جنديين.. حزب الله يستهدف مجدداً ضباطاً إسرائيليين ب




.. هل سيطرة إسرائيل على معبر رفح مقدمة للسيطرة على المدينة بكام


.. شقاق متزايد في علاقة الحليفين.. غضب إسرائيلي من -الفخ الأمير




.. ترامب يتهم بايدن بتزوير المحاكمة لأهداف سياسية