الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


عزاء التحليل النفسي

حاتم تنحيرت

2014 / 1 / 29
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


هل فعلا حررنا التحليل النفسي ؟ لقد تمكن التحليل النفسي من ازاحة جبل الجليد النرجسي في الإنسان – على الأقل نظريا – و صفع صفعته لوهم مركزية الإنسان في الكون ، بعد الصفعتين الكوبرنيكية و الداروينية ، و لنتذكر أيضا تعرية ماركس لأشكال الاضطهاد التي تحوم حول الذات مضافا إليها مطرقة نيتشه الفلسفية ، لكن مع ذلك يبقى التحليل النفسي هو الأقرب في لمس الذات من الداخل ، فهل تمكنا من الحرية و تحرير الذات من أوهامها و هواماتها بعد أن أكلنا من شجرة المعرفة ؟ هل تلى ذلك ستر لعوراتنا بعد الطرد إلى ارض الوعي الشقي ؟
يقدم لنا التحليل النفسي خطة عقلانية لفضح اللاعقلاني في ذواتنا لازالة الغطاء الحميمي عن أكثر أوهامنا حميمية و التصاقا بنا ، عن الفانتازيا الجنسية و هوامات اللاشعور و رغباتنا المكبوتة و التي ظننا أننا احكمنا عليها الإغلاق الى الأبد في سرداب اللاشعور ، لكن يأتي فرويد و من بعده مدرسة التحليل النفسي لفضح مكبوت الحضارة و أوهامها . مع التحليل النفسي لم يعد الفن مجرد نشاط عفوي يعبر عن مكنونات جمالية بريئة ، بل يقترح خيطا ناظما لكشف سلطة المكبوت و التسامي ، أما الايديولوجيات الوثوقية فيكشف عن الثاوي خلفها من نزعة تدمير هوجاء تفضح بعد الإنسان التدميري صارخا "ليس الإنسان بذلك الكائن الطيب السمح، ذي القلب الظمآن إلى الحب، الذي يزعم الزاعمون أنه لا يُدافع عن نفسه إلا إذا هوجم، وإنما هو على العكس من ذلك كائن تنطوي مكوناته الغريزية على قدر لا يُستهان به من العدوانية. وعليه، ليس القريب، بالنسبة إليه مجرد مساعد مُمكن أو موضوع جنسي ممكن، بل هو أيضا موضوع إغراء وإغواء. وبالفعل فإن الإنسان نزّاع إلى تلبية حاجته العدوانية على حساب قريبه، وإلى استغلال عمله بلا تعويض، وإلى استعماله جنسيا بدون مشيئته.. وإلى إنزال الآلام به واضطهاده وقتله. الإنسان ذئب للإنسان.")1( و على مستوى الذات فقد أصبحت ذلك الصراع بين الهو بما يعنيه من رغبات جنسية و غريزية كما يجسدها " الليبيدو" و نزاعه للتحقق على أرض الواقع في مواجهة المبادئ و الأخلاقيات الساكنة في النفس و التي تملأ الأنا الأعلى و بينهما الإنسان الحائر بين رغبته الجامحة و متطلبات الواقع و مجموع الأسس الاخلاقية من جهة أخرى .
لقد حررنا التحليل النفسي من عبودية الحلم ، فلم يعد وعدا أو وعيدا مرعبا يجعلنا نتصبب عرقا في عتمة الليالي الباردة هلعين من مشاهد مرعبة تصور أشد رغباتنا الشبقية و الليبيدية المخجلة أو الهوجاء ، فاصبح اللاعقلي مفسرا كتعبير عن المكبوت الذي يعمل في خفية من رقابة الأنا الأعلى مستغلا تراخيه .
لم تعد مع التحليل النفسي نكاتنا بريئة اذ لو كانت كذلك لما عرفت هذا الحضور المهم للنكتة الجنسية ، بما هي تجلي للمكبوت الثاوي خلف أسوار اللاشعور ، حتى زلاتنا اللفظية احكم التحليل النفسي قبضته عليها عندما فسرها كتعبير عن مكبوت خلف ستار الوعي الهش و كامن مثل الجزء الأكبر من جبل الجليد كما صوره فرويد .
لكن أي عزاء يحمله لنا التحليل النفس بعدما كشف عوراتنا ، و ماذا بعد الصورة السالبة و معول الحفر في ذواتنا الحميمية و لاشعورها الثاوي خلف مظاهر الوعي ؟
يقال عادة أن معرفة الداء نصف الدواء ، لكن أيضا بالمقابل فان مجرد المعرفة بدون العمل على شفاء الداء تبقى جوفاء ، قد يقال إن التحليل النفسي ليس صيدلية أو كنيسة رهبان تقدم العزاءات للذوات الفاقدة لعذريتها البرائية الموهومة ، فليس من مهمتها ذلك و ما ينبغي لها .مع ذلك فان سؤال :ما العمل ؟ يبقى كامل الأهلية و لا يفقد أيا من موجبات طرحه ، فالعلاج النفسي كما يقدمه التحليل النفسي هو حالة قصوى للحالات التي اشتدت عليها أعطاب النفس ، لكن ماذا عن الذوات المنكسرة ؟ هنا يظهر نوع آخر من السيكولوجيا " التدخلية " ان صح التعبير ، كما تقدمه سيكولوجيا التنمية الذاتية مثلا ، و التي نمت في العقود الأخيرة بل و أصبحت كنيسة أو عقيدة لها احترامها في الكثير من بلدان العالم الثالث ، و ربما يفسر ذلك بهذا العطش النفسي للبديل للعزاء الى جانب تشخيص الداء ، مهما كان الثمن ، لكن ما هي المسلمة الجوهرية في سيكولوجيا التنمية الذاتية ؟ انها باختصار عقلك الباطن سر الأسرار ، غير ما به من أفكار يأتيك الكون ذليلا و هو حسير ، و اذا كان التحليل النفسي يعري الذات و نرجسيتها بنقد يعول على العقل –بغض النظر عن ما يمكن أن يآخد عليه – فان سيكولوجيا دعم الذات تقترح مجموعة من الأوهام – لكن المفيدة في معركة صراع البقاء إن استخدمنا عبارات نيتشه – من أجل التلاعب على الوعي و خداعه لتحصيل ما يوصف على انه " السعادة " . هذه الخطة البديلة تحمل عزاء و لاشك ، لكنه عزاء معطوب و موهوم بل يحمل عنصرا من الخداع و مع ذلك نتائج تقل بكثير عن وعوده ، فلا يكفي أن اعتقد أني بألف خير حتى يتداعى الكون ليصبح بخير ، كما ليس ترديدي لكلمات سحرية أمام المرآة من سيغير وعي بذاتي و "يبرمجها" على عقيدة النجاح ، لا يمكن أن ننكر تماما نجاعة بعض هذه الحيل النفسية لكن بالمقابل لا يمكننا أيضا أن نلصق بها صفة العلمية لكي نقدمها كعزاء سيكولوجي في كتب معلبة تقدم لجماهير بائسة جراء عوامل موضوعية مغايرة بالمرة ، فبؤس الناس الاقتصادي مثلا لا يمكن تسويقه كفشل في كتابة خطة للنجاح ، كما أن الفشل في الحصول على عمل ليس مره دائما –ولا حتى نادرا – الى أسلوب طلب العمل أو أفكاره السلبية ، اذ لا تغطى الشمس الغربال كما يقول المثل .
ايهما اذن يعزينا و يساعدنا في معركة الوجود اليومية ، الفضح و التعرية بلاعزاء تعويضي سوى عزاء الفهم لذواتنا و صراعاتها فيكون مصيرنا بأيدينا لنختار وجهتها بشجاعة ، أو عزاء سيوكولوجي مبني على وهم نعم لكن يضمن لذة و تسكيننا لآلام لطالما أوعجتنا و قضت مضاجعنا ، مع مجازفة أن يتحطم قصر الرمال هذا على رؤوسنا لأنه مبني على أسس غير موضوعية بل و نعتاش من تجاهلها و تثمين الفائدة على الحقيقة و المغزى على المعنى . قد يكون من المفيد أن نحجب عن مريض بالسرطان في مراحله المتأخرة خبر موته المحتم ، فلا عزاء في معرفة هذه الحقيقة ، و قد تكون الحقيقة مثالية أكثر مما يجب ، لكن الحقيقة سابقة على معرفة نتائجها المفيدة أو الهدامة و وقد كانت الأجرام و الطبيعة و الفصول في العهد الوثني تعني أكثر من مجرد أشياء يدرها العلم بل تحمل معنى و حياة يعيش على إيقاعها الناس فكذلك مركزية الأرض و نرجسية الإنسان لكنها ليست حقائق شئنا أم أبينا ، ذلك اننا كلما نضجنا فقدنا و كلما فقدنا بحثنا عن عزاء لفقدنا ، فلتكن عزاءاتنا ذات معاني نحن من يضيفها الى الأشياء عن وعي لا أن نكون مستلبين لأوهامنا .
لقد قيل : الحقيقة المؤلمة خير من الوهم الجميل

1-سيغموند فرويد ، قلق في الحضارة ، ترجمة جورج طرابيشي – بيروت دار الطليعة ، الطبعة الرابعة- 1996 ، ص : 72 .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. إمام وحاخام في مواجهة الإنقسام والتوترات في برلين | الأخبار


.. صناع الشهرة - كيف تجعل يوتيوب مصدر دخلك الأساسي؟ | حلقة 9




.. فيضانات البرازيل تشرد آلاف السكان وتعزل العديد من البلدات عن


.. تواصل فرز الأصوات بعد انتهاء التصويت في انتخابات تشاد




.. مدير CIA يصل القاهرة لإجراء مزيد من المحادثات بشأن غزة