الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


قراءة في شكل الاستعباد الحديث.

نضال الربضي

2014 / 2 / 10
المجتمع المدني


قراءة في شكل الاستعباد الحديث.

تفيد معلومات منتشرة على شبكة الإنترنت أن 1% (سبعين مليون) من سكان العالم يمتلك أكثر من 65 ضعف ما يملكه النصف الأفقر (ستة مليارات و تسعمئة و ثلاثين مليون) من سكان العالم. و من هؤلاء ال 1% أي من السبعين مليونا ً هناك 85 شخصا ً يملكون بالضبط ما يملكه النصف الأفقر، و حتى يسهل فهم العبارة الأخيرة تخيل معي أيها القارئ الكريم السيناريو التالي:

- أمامك حافلتان كبيرتان (باص رحلة سياحية عدد 2)، صعد إليهما 85 شخص و جلسوا.

- فجأة انفتحت أمامك بوابة كونية كالتي تشاهدها في أفلام الخيال العلمي، و من داخل البوابة يظهر كوكب بحجم كوكب الأرض، و على هذا الكوكب حوالي ثلاث مليارات و نصف إنسان.

- ثم ظهر أمامك بحر ٌ عظيم جدا ً، خالي من الأسماك.

- و قرر الأشخاص الذين في الحافلتين، و الأشخاص الذين في الكوكب أن يساهموا في ملئ هذا البحر العظيم بالأسماك.

- و كلما رمى الناس الذين في الكوكب سمكة واحدة داخل البحر، يرمي الذين في الباصين سمكة مثلها.

- سمكة من الكوكب مقابل سمكة من الباصين.

هذا هو توزيع الثروة في كوكبنا الأرضي، مقابل كل دولار عند نصف العالم الأفقر هناك دولار مثله عند أغنى 85 شخص. و قد يعتقد بعض الأشخاص أن هذا التوزيع ناتج عن اجتهاد خارق لهؤلاء ال 85 يعتمد على عقليات فذة قادرة على استشراف المستقبل و تطويع الظروف و رؤية ما لا يراه غيرهم، و على الرغم من أن هذا الكلام صحيح جزئيا ً من جهة قدرتهم على فهم طبيعة التكوين البشري و التعامل مع مادية الطبيعة و ضغط الحاجة لدى الجموع و تزويدهم بما يسد الحاجات مقابل مردود مادي أو ولائي، إلا أن الحقيقة الأكبر و الأعظم هي في الطريقة التي ينظر فيها هؤلاء الأشخاص إلى بقية البشر.

تنظر هذه "النخبة" إلى العالم على أنه قائم على الطبقية كواقع لا يمكن تخطيه و لا يجب تخطيه، في هذا الواقع فئات راقية لكل منها قدرها و منزلتها و دورها، و ارقاها و أعظمها هي فئتهم و نخبتهم، و هي المختصة برسم توجهات الاقتصاد العالمي و العلاقات التجارية و التحكم في موارد الطاقة، وتتميز عن غيرها بنظرتها الشمولية للأمور بحيث تتعامل مع الواقع على شكل ارقام و سياسات و على مستوى الهدف و النتيجة و ماهية و شكل الواقع الموجود مقابل الماهية و الشكل المطلوبين لا على مستوى الإنسان الفردي أو العائلة.

و ينتج عن هذا بالضرورة أن يصبح إنسان الشارع، الموظف و العامل و المتقاعد و الطالب و العاطل عن العمل مجرد أدوات تنفيذ في يد رجال أعمال و سياسين صغار هم أنفسهم خدم ٌ على مستوى أعلى من مستوى إنسان الشارع بدرجات، يتمتعون بطريقة حياة "أرقى" نوعا ً ما و أكثر رفاهية ً، لكنهم في نفس الوقت ما يزالون خدما ً و بيادق تنفيذ في يد طبقة أعلى منهم، و هكذا حتى نصل إلى طبقة نخبة النخبة La Crème De La Crème هذه الطبقة التي لا تملا ً باصين سياحين لكن مقاليد العالم كله في يدها.

يرتبط إنسان الشارع بهذه المنظومة بتداخل نسيجي لا يمكن الفكاك منه لأنه يتغلغل في أبعاد وجوده كاملة ً، فبيته و سيارته و أملاكه البسيطة هي حاجات ٌ يلبيها تمويل ٌ بنكي هو في الحقيقة وجه النظام الإقطاعي و أداته "اللطيفة" "الحنونة" "مبسوطة اليد" "الجاهزة للعطاء"، بينما هي في حقيقة الأمر الأغلال التي تربط قدميه و تبقيه مغروسا ً في تلك التربة يضرب جذوره عميقا ً في الأرض التي يمتلكها أربابه ُ يغذيهم بطاقة الحياة مع كل نفس ٍ يستمده من سماء الحرية، في مشهد ٍ عجيب تـُعمـِّـق فيه حرية الفرد و إنسانيته عبوديته و تقويها و تجذرها، و ينقلب فيه الحر بطبيعته عبدا ً وسيما ً ببدلة ٍ أنيقة و سيارة جذابة و شقة ٍ لا بأس بها، يرتاد المطاعم و الأسواق و المولات و ينقر بأصابعه شاشة ً اللمس الخاصة بهاتفه الذكي الذي بواسطة تقنيات تحديد الموقع GPS يُقدم له برامج تواصل مجانية مع أقرانه لـ "يتصل" بهم كل الوقت.

هذا الخِدر ُ الساحر الخلاب الذي نعيش ُ فيه و يضرب بيننا و بين الحقيقة ِ حجابا ً حريريا ً ذا نقوش ٍ مزخرفة جميل براق ناعم الملمس، زكي ُّ الرائحة، هو مجرد الشكل الجديد الذي قُصد له أن يعطي "الأحرار" الجُدد، القطعان الجماهيرية، العبيد السابقين للإقطاعين السابقين، الثوار المتمدنين أحفاد الثورة الفرنسية و كل الثورات الحلمنتيشية البتنجانية الشعور بأنهم ما عادوا عبيدا ً كالسابق، لكنهم أحرار يتحكمون في حياتهم بأنفسهم و يتخذون خياراتهم بأنفسهم، و يسيرون شؤونهم بلا سادة و لا إقطاعين، لكن حسب أنظمة ديموقراطية تُقدس الإنسان و تجعل حقه فوق كل حق و أنظمة شرطة و قضاء تضمن العدالة و المساواة.

بينما تبقى الحقيقة ُ أن زريبة الحيوانات القديمة أصبحت شقة، و البغل و الحمار أصبحا سيارة، و فُتات الطعام الذي رماه السيد في عصر الإقطاع لعبده الكلب أو كلبه العبد لا فرق قد أصبح "المول" و الثوب البالي الُمرقع أصبح بدلة ً، و الجرس الذي كان في الساق يرن ُّ حيثما توجه العبد فلا يأبق من صاحبه أصبح ال GPS القادر على تحديد الموقع، بينما بقي السيد مُحتجبا ً كذلك الوقت ِ تماما ً يظهر ُ في مناسبات ٍ خاصة لا على حصان لكن في مؤتمرات ٍ و تصريحات ٍ خاصة، لكنه قد استبدل بتلك اللهجة َ القاسية و نظرة الاحتقار ابتسامة ً علمته وكالات الميديا و الإعلام أن يُتقنها، و لهجة ً ودودة ً حضارية ً مُستمدة ً من "قيم" العصر و ضروراته.

يغيب عن هذا العالم الكثير، يغيب الحب، تغيب الرحمة، يغيب العدل، يحتجب ُ المنطق، تتوارى الإنسانية، تُقتل ُ الطيبة، يُعلى من شأن ِ التنافس و يتقدم ُ الظلم ُ في موكب الألم ِ تحف ُّ بهم القسوة و تسهر ُ على ديمومتهم عفاريت ُ التسليم و التهميش ِ و اليأس ِ و العجز، و يرتفع الإنسان ُ على مذبح ِ الطبقية قُربانا ً و مُحرقة ً لنُخبة ٍ من العالم.

نحن الإنسان، من أنتم؟








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - وعيك زايد عن حده
samialmohami ( 2014 / 2 / 10 - 12:53 )
انت يا صديقي رائع واسلوبك بالكتابة ساحر وتتمتع بوعي لما يدور من حولك و ادراك لبيئتك اكثر مما هو مريح فاحيانا يكون من صالح المريض ان لا يعرف بمرضه خاصة اذا كان من النوع المزمن و الخطير فمعرفته لا تغير شيئا بل احيانا تغييرها يكون سلبيا ولكني لا الومك على شغفك .و توقك للمعرفة فهي متعة لا يضاهيها متعة حتى لو استتبعها خسائر


2 - استاذ نضال شكرا
امال طعمه ( 2014 / 2 / 10 - 20:59 )
شكرا لك على هذا المقال
يعجبني ما سطرته في مقالتك واقتبس
بينما تبقى الحقيقة ُ أن زريبة الحيوانات القديمة أصبحت شقة، و البغل و الحمار أصبحا سيارة، و فُتات الطعام الذي رماه السيد في عصر الإقطاع لعبده الكلب أو كلبه العبد لا فرق قد أصبح -المول- و الثوب البالي الُمرقع أصبح بدلة ً، و الجرس الذي كان في الساق يرن ُّ حيثما توجه العبد فلا يأبق من صاحبه أصبح ال GPS القادر على تحديد الموقع، بينما بقي السيد مُحتجبا ً كذلك الوقت ِ تماما ً يظهر ُ في مناسبات ٍ خاصة لا على حصان لكن في مؤتمرات ٍ و تصريحات ٍ
الخ...
لم يتغير شيء حقا


3 - إلى الأستاذ samialmohami
نضال الربضي ( 2014 / 2 / 11 - 09:34 )
تحية طيبة أستاذ samialmohami،

شكرا ً لكلماتك العذبة سيدي الكريم.

من واجبنا أن نلتزم بما نعلم أنه صواب و أن ننشره بالوعي و الحب و القوة الهادئة التي تعترف بحرية الخيار و تشجعه و تبتعد عن العنف و تنبذه إيمانا ً و فعلا ً.

قديما ً قال عملاق الأدب العربي و سابر النفس البشرية نجيب محفوظ طيب الذكر دائماً، على لسان شخصياته في ثلاثيته:

-أنا أؤمن بالحياة و الناس و أجد نفسي ملزما ً باتباع مثلهم العليا ما اعتقدت أنها الحق إذ النكوص عن ذلك جبن و هروب، و أرى نفسي ملزما ً بالثورة على مثلهم ما اعتقدت أنها باطل، إذ النكوص عن ذلك خيانة-


هذا واجبنا و حقنا و منهجنا.

أهلا ً بك دوما ً.


4 - إلى الأستاذة امال طعمه
نضال الربضي ( 2014 / 2 / 11 - 09:37 )
تحية طيبة أستاذة امال،

الجوهر لم يتغير فيه شئ، ذات ُ الطمع، ذات ُ الشهوة للسلطة و النفوذ و المال، ذات ُ الاستعباد، ذات ُ الجهات مع اختلاف ممثليها ووجوههم و مناهجها، ذات الخُنوع الإنساني، استمرارية ُ القطيع الأولى.

لنحارب كل هذا بالوعي و الحب.

أهلا ً بك ِ دوما ً.

اخر الافلام

.. بريطانيا.. تفاصيل خطة حكومة سوناك للتخلص من أزمة المهاجرين


.. مبادرة شبابية لتخفيف الحر على النازحين في الشمال السوري




.. رغم النزوح والا?عاقة.. فلسطيني في غزة يعلم الأطفال النازحين


.. ألمانيا.. تشديد في سياسة الهجرة وإجراءات لتنفير المهاجرين!




.. ”قرار تاريخي“.. القضاء الفرنسي يصادق على مذكرة اعتقال بشار ا