الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


زمنُ الطوائف (2-2)

عيبان السامعي

2014 / 2 / 10
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


تعليقاً على الصراع الدائر بين "الحوثي ـ وآل الأحمر" في اليمن

الإهداء إلى الرفيق/ مطيع دماج.. تعبيراً عن اندهاشي بفرّادتِهِ ووعيهِ المتميز...


-;- مجتمع وراثة أم مجتمع مواطنة :

إن مكمن الخطورة في الصراعات, أنها توفر فرص فعلية لهذه الجماعات الطائفية والقبائلية لإعادة إنتاج نفسها كـ "كيانات مستقلة قائمة بذاتها, متماسكة بلحمتها الداخلية"(1) خارج شروط الدولة, فيصبح لها تشريعاتها الخاصة, ومؤسساتها الخاصة, وتمويلاتها الخاصة وحتى شعبها الخاص..! أي أنها تصبح وحدة اجتماعية يتشكل منها المجتمع. ونتيجة لذلك, يتم إلغاء الدولة ودورها, فوجود طوائف وقبائل مستقلة عن الدولة يفرغ الدولة من محتواها الحقيقي, فتغدو كما يصفها المفكر الهام مهدي عامل "ممثلاً" لا " فاعلاً", أي أنها تمثل الطوائف وتخضع لرغباتها, وتصبح علاقتها بالطوائف علاقة تبعية, وهي في الآن ذاته حقل تنافسها.
إن الدولة في طابعها التمثيلي هذا, ليست واحدة, بل متعددة بتعدد الطوائف ومواقعها فيها. كأنها إطار خارجي تتعايش فيه الطوائف تعايش كيانات مستقلة وقائمة بذاتها. فهي, إذن, قابلة في كل لحظة, للتفكك, إن لم نقل للتفتت, بحسب شروط التعايش.(2)
وفيما تغدو الطائفية هي التعبير السياسي في مجتمع عصبوي كهذا, فإنها في المقابل تؤدي إلى انحسار تأثير وفاعلية الأحزاب بما هي أدوات سياسية مدنية حديثة, ما يعني إلغاءً للسياسة, فالسياسة مدنية بطبعها بحسب د.أبوبكر السقاف, وهي فعل اجتماعي تشاركي تنافسي خلاق قائم على تمثيل المصالح الاجتماعية للشعب من خلال برامج سياسية معاصرة, وخطاب وطني ديمقراطي يترجم المبرر الموضوعي للحزب ووظيفته. وهو ما يستحيل تحقيقه في "الدولة الطائفية"؛ إذ يصبح القرار السياسي ومصير البلد برمته رهناً لنخب مسيطرة ومراكز نفوذ, هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى فإن الطائفية بطبيعتها كبنية تخلفية لا تتسق مع شروط الديمقراطية والمجتمع الديمقراطي؛ ذلك أن الديمقراطية تقتضي المشاركة الواسعة للأفراد ـ كأفراد ـ في صناعة مستقبلهم وتقرير مصائرهم من خلال تمتعهم وممارستهم لحقوقهم السياسية والمدنية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية.
ويشكّل الفرد في المجتمع الديمقراطي النواة الأساسية التي يتشكّل منها المجتمع ككل, بيد أن بنية المجتمع الطائفي/ القبائلي(3) لا تقر بوجوده بل تلغيه, لأنها تتركب في الأساس من جماعات معزولة, "حيث تعيش هذه الجماعات بجوار بعضها البعض؛ لكنها تظل ضعيفة التبادل والتواصل فيما بينها. وهي تشكل إلى حد ما الطريقة الخاصة بالتواصل الذي هو في ذاته نوع من التواصل الصراعي. في هذا المجتمع المتحلل والفاقد ليس فقط للصعيد الموحد السياسي أو الأيديولوجي أو الاقتصادي ولكن أيضاً لكل إجماع على أي مستوى من مستويات البنية الاجتماعية." (4)
يتضح ذلك من طبيعة العلاقات التي تحكم المجتمع الطائفي بما هي"علاقات خارجية, لا وحدة بينها سوى ما تقيمه الدولة من أطر تعايشها السلمي. حيث لا وجود لشعب, مادام الشعب طوائف, ولا وجود معه لوطن.." (5)
إن المجتمع الطائفي يجعل الفرد تابعاً وكائناً منتقصاً, فيما يجعل المواطنين مجرد رعايا. فالشيخ والسيد هما المرجع, وعندهما ينتهي الأمر كله. فالمجتمع بناسه وعلاقاته ومنظومته نابع منهما, ولهما الحق في أن يورِّثاه للأبناء والأحفاد.. لأنه ببساطة "مجتمع وراثة" يقوم على فكرة النقاء السلالي والعرقي في الانتساب إلى صلب واحد, وجد واحد (كقحطان, وعدنان وغيرهما). وما حركة التاريخ إلا عملية حتمية في إطارها, فلا تقدم إلا بما يقتضي تأكيد هذه الفكرة "الميثولوجية", وبما تنطوي عليه من إدعاء الأحقية التاريخية واللاهوتية في الحكم, ووجود فوارق بيولوجية تجعل من صفة الشيخ مصدر وجود الرعية, ومن لقب السيد معادلاً موضوعياً للعبيد. إنه مجتمع عنصري وقهري بكل المقاييس..!

-;- وعي زائف:
بناء على ما تقدم, يصبح من البداهة القول: إن الطائفة كما هي القبيلة تمثل "وحدة" إعاقة للدولة ومجتمع المواطنة, ولا يمكنها بأي حالٍ من الأحوال أن تكون بديلاً اجتماعياً وطنياً, بل على العكس من ذلك تماماً يستحيل أن تكون وطنية, لأسباب موضوعية كامنة في طبيعة بنيتها, وفي ممارساتها؛ لأنها مجبولة على الارتهان والتبعية.
أقول هذا للذين يبتهجون اليوم بـ"انتصارات" الحوثي, وهم للأسف كثر, ولديهم دوافع مختلفة. فالغالب منهم مبتهجون لأن الحوثي يأخذ بثأرهم من عيال الأحمر فقد كسر شوكتهم, وأذلَّهم في عقر دارهم. وبعضهم لديهم مبعث آخر, يتمثل بأن هذا الصراع هو في نهاية المطاف سيؤول لصالح الناس, في إطار مفهوم صراع "الظالمين بالظالمين" و(الذي يكون سبباً في هلاكهم جميعاً!!). إنه منطق عاجز ضعيف, ويجسد "وعياً زائفاً" بحسب المفكر المصري المهم محمود أمين العالم, وعي لا يمكنه أن يدرك مصلحته الاجتماعية(6).
وهناك صنف ثالث, ممن يتوهمون بأنهم يمتلكون تفسيراً علمياً لما يجري, فيؤكدون على أن هذا النوع من الصراع ضرورة تاريخية, لأنه يجسد مرحلة تاريخية انتقالية في سياق تطور المجتمع, وأن الصراع الطائفي سيقود حتماً إلى العلمنة, مسترشدين في ذلك بالتجربة الأوروبية ليؤكدوا صوابية تفسيرهم هذا. متجاهلين الحقائق التاريخية والشروط المادية التي مرت بها أوروبا في صراعها الطويل والمرير مع الكنيسة وانتقالها إلى المجتمع الحديث, حيث لم يكن الصراع الطائفي أو الحرب الأهلية وحدها وراء انتقال أوروبا إلى العصر الحديث, بل إن جملة من الظروف المادية والموضوعية المتمثلة بالاكتشافات الجغرافية والاختراعات العلمية وعصر من التنوير ودخول العلم كعامل حاسم في تشكيل الحياة, علاوة على اندلاع الثورة البورجوازية التي قضت على الإقطاع الكنسي والدنيوي, كل ذلك كان وراء تطور المجتمع الأوروبي وانبثاق الحياة المعاصرة.

-;- ما العمل؟
يتعين القول ابتداءً أن بروز الأشكال التخلفية (الأصوليات والقبائليات) في حياة أي مجتمع من المجتمعات هو ناتج في الأساس عن ضعف وغياب المعادل الموضوعي لهذه الأشكال, وأقصد بذلك التيارات الديمقراطية الوطنية والمدنية, الذي بضعفها وانحسار تأثيرها على الصعيد العام ترك فراغاً سياسياً واجتماعياً فادحاً, أتاح للقوى التقليدية أن تملئه بسهولة. أقول هذا الكلام للتأكيد على حقيقة مؤداها إن أي تغيير ديمقراطي سياسي في البلاد يهدف إلى تحقيق المواطنة المتساوية والعدالة الاجتماعية لا يمكنه أن يتحقق في ظل الأزمة التي تعيشها الأحزاب التقدمية وقوى الحداثة بصفة عامة, وهو ما يفرض إجراء إصلاحات فعلية في البنى الحداثية والتقدمية بما يتيح لها التصدي للمهام الوطنية والتاريخية وامتلاك مشروع وطني ديمقراطي بديل يتخطى العناوين الضيقة والحسابات الخاصة سعياً إلى تحقيق تحول نوعي في مستوى المجتمع والدولة, وفي مستوى العلاقات التي تربط بينهما. حيث لا قيمة فعلية لأي برنامج تحولي ما لم يأخذ بعين الاعتبار إجراء تغيير جذري في مستوى العلاقات التي تنتظم فيها الدولة والمجتمع. ذلك أن من الأسباب الجوهرية وراء الأزمة المستديمة التي يعانيها المجتمع اليمني تكمن في شكل العلاقات الاجتماعية والسياسية المتمثلة في وجود أشكال توسطية "كزعماء القبائل والطوائف" والتي تقف حائلاً أمام إمكانية بناء علاقة مباشرة تربط المواطن بمؤسسات الدولة, وهو ما يعني, تحديات تحقيق الديمقراطية والمواطنة المتساوية.
فالمواطنة تقتضي محو كل الأشكال التوسطية وتفتيت كل عصبية "وحدة اجتماعية" سواء أكانت طائفية, أم قبلية, أم عائلية, أم جهوية, أم مناطقية, وأن يشكّل المواطن الفرد نواة المجتمع, وهو شرط أساسي وأوّلي في سبيل تحقيق مجتمع المواطنة أو "المجتمع المتجانس حيث يوجد فيه الفرد كمواطن, مستقلاً بذاته, في علاقته المباشرة بالدولة. وشرط وجوده في هذه العلاقة الحقوقية, أن يكون حراً من كل انتماء آخر (ديني, أو طبقي, مثلاً) غير انتمائه إلى ذاته التي هو فيها, وبها, في علاقته بالدولة, ذرة اجتماعية. ولا وجود له خارج علاقته بهذه الدولة." (7)
كما أنه وفي إطار تغيير جملة الشروط الموضوعية والمادية المنتجة للدولة الطائفية, لابد من تجسيد القيمة الجوهرية للدولة ككيان كلي جامع, يحتضن, ولا يهيمن, كيان يعبّر عن المصالح الاجتماعية والسياسية والإنسانية لعموم الناس ويسعى إلى تحقيق قدر عالٍ من الرضا العام, وسيادة القانون, والعدالة الاجتماعية, وحقوق الإنسان.
كما يتعين عليها أيضاً, أن ترعى قيم التعدد وحق الاختلاف لجميع مواطنيها, بل وللجماعات التي تحمل هوية دينية وثقافية ما, لكن وفقاً لمضامين القانون العام الذي ينبغي لكل الجماعات بمختلف تلاوينها السياسية والاجتماعية والدينية والثقافية أن تخضع له, فليس هناك مشكلة في وجود طوائف لها معتقدات وشعائر دينية خاصة بها, وليست المشكلة كذلك في وجود قبائل كتكوينات اجتماعية لها أعرافها وتقاليدها, لكن المشكلة الفعلية في تحول أدوارهما (أي القبيلة والطائفة) من سياقهما الخاص الذي يميزانهما إلى سياق سياسي عام يفرض وجودهما ككيانات مستقلة, تأخذ امتيازاتها على حساب قوة القانون والدولة وعلى حساب الفرد المواطن, بل المجتمع برمته. وهذا بالضبط ما يجري. (وسيكون لنا عودة في تناولات قادمة لتوضيح تفصيلي جملة هذه الشروط التي تقع على عاتق الدولة أن تحققها).
في الختام بقي لنا أن نقول بأن الصراع الأخير قد ألجأ الطرف الضعيف إلى الدولة ليستنجد بها, وهي مفارقة عجيبة حقاً, استفزت رجلاً أكاديمياً يمنياً فعلّق قائلاً: "أضعفتم الدولة في السراء فعجزت عن إنقاذكم في الضراء. الدولة في اليمن دولة عنقودية، تتكون من غلاف خارجي موحد، يحوي بداخله عدد كبير من الدويلات الصغيرة المتنازعة، التي ينكر زعماءها على الدولة حقها في فرض سيادة القانون، ويسلبونها سيادتها في مناطق نفوذهم، وعندما يضعف أحدهم ويشارف على الهزيمة أمام زعيم دويلة أخرى، يطالب الدولة بالتدخل لإنقاذه، متناسياً أنه ساهم في إضعافها، وجعلها غير قادرة على فعل شيء." (8)

------
هوامش:
1. في الدولة الطائفية, مهدي عامل, دار الفارابي, بيروت, ط3, 2003م, ص73.
2. انظر: المصدر نفسه, ص91.
3. نذكر المجتمع الطائفي بما هو مجتمع قبائلي في الأساس, فبنيتهما واحدة, وطبيعة العلاقات التي تنظمهما واحدة.
4. المسألة الطائفية ومشكلة الأقليات, د.برهان غليون, دار الطليعة, بيروت, ط1, 1979م, ص74.
5. في الدولة الطائفية, مصدر سابق, ص323.
6. كنا قد رددنا في وقت سابق على هؤلاء وأثبتنا هشاشة منطقهم وخطئه. (راجع الجزء الأول من هذه التناولة).
7. في الدولة الطائفية, مصدر سابق, ص28.
8. د.عادل الشرجبي تعليقاً على الصراع الدائر في عمران بين الحوثيين وآل الأحمر _ من صفحته على الفيس بوك.














التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كاهن الأبرشية الكاثوليكية الوحيد في قطاع غزة يدعو إلى وقف إط


.. الجماعة الإسلامية في لبنان: استشهاد اثنين من قادة الجناح الع




.. شاهد: الأقلية المسلمة تنتقد ازدواج معايير الشرطة الأسترالية


.. منظمات إسلامية ترفض -ازدواجية الشرطة الأسترالية-




.. صابرين الروح.. وفاة الرضيعة التي خطفت أنظار العالم بإخراجها