الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ياقة قميصي المتسخ.

مختار سعد شحاته

2014 / 2 / 14
المجتمع المدني


أخي المغترب نسى العربية:
حدثني أخي المغترب لما يربو عقدي من الزمن، وسألني عن معنى عبارة قراها في العربية في واحدة من الصفحات على موقع التواصل الاجتماعي، في أول الأمر تصورت أن عربيته خانته، وان إهماله لمفرداتها استخدامًا بين النطق والكتابة سر التباس الفهم، وحين أعدت قراءة العبارة، فهمت السر، لكن ما ردف فهمي هذه استعجابه ودهشته كان صادمًا لي. سألني أخي عن الشخص الذي يكتب عبارة تقول "إن رجلا يخلو من الحقد أحقر من رجل يحمل بعض الحقد"، حاولت في البداية فلسفة الأمر، وأن أستعرض قدرات فهمي للعربية عن أخي الذي انقطع عن ممارستها لسنوات خلت، ولم أتدارك أنه استبدل ثقافتنا وتكويننا العربي بآخر اسكندنافيًا حتى وإن أنكره. حتى صدمني حقيقة ما أنا عليه.
كنت أدعو في بعض كتاباتي إلى تصفية النفس البشرية من ظلام يحجب أصل النور فيها، ويعبث بطيفه في روحنا، حتى غفلت عن ظلمتي ذاتها، ربما انشغلت بالعملية نفسها وتنبيه الناس إليها حولي، ونسيت نفسي، نعم نسيت نفسي، فعرفت في نهاية الأمر أن بعض الحقد هو أعظم حقارة من تلاشيه المطلق، إذ غضبت حين مسّ كرامتي اتهام سخيف، وبدلا من رحابة صدر تعالج غضبي الذي يستولد الحقد، تركت روحي تتمرغ في الغضب، فظهر حجم الظلام المرعب في داخلي، وإن روحى كادت تخلو من النور، فازداد غضبي وتصاعد، وكانني وفي ثورة غضبي اكتشفت الأمر فدفع بي نحو حافة الانهيار العصبي.

لا تأخذوا عني شيئًا:
كذبت إذن حين ادعيت لأخي أن فهمه للعربية قاصر، نعم اكتشفت أنني ما كانت إجابتي إلا ميكانيزمًا دفاعيًا عما عرّاه أخي بسؤاله عن كيف يصبح الرجل وبه بعض الحقد أعظم من رجل تلاشى فيه الحقد. هنا ربما بصيص أمل في هذا النور هو ما أيقظني من فورة غضبي، وجعلني أتمالك نفسي لكتابة هذا الاعتراف الضمني بأني رجل كان به بعض الحقد، وإلا فكيف غضبت؟! كيف اندفعت في ثورة غضبي حين كان يمكنني علاج تلك الاتهامات السخيفة بشيء من هذا الذي أدعو إليه؟ أنا يا عزيزي القاريء محض رجل يغضب، فلا تأخذ عني من كلامي أي شيء، ولا تتوسم في أن أكون مخلصًا بكتاباتي لك من بعض الحقد والغضب، أو أنني سأفلح في استبدال كل غضبك ببعض الترويح والتطهير. لا تأخذ عني فأنا أولاكم بالنصيحة لنفسي.
كنت أتعجب من أمي العجورز، والتي تصوغ الحكمة بعفوية لا يأتيها الباطل أبدًا، كانت ترفض غسيل قمصاننا البيضاء أو ياقات قمصاننا في "غسالتنا الأوتوماتيكية"، وتدعي بأن غسالاتنا "لا أنف لها لتشم العرق أو عين ترى وسخ ياقاتنا البيضاء"، وكانت تُصر على إعادة غسلها بل بالأحرى تطهيرها كما كانت تحب القول. كيف تأتي لتلك العجوز حكمة الغسيل تلك؟ ومن جاءها هذا الفيض حين كانت ترى وتشم العرق على بعد أمتار، فتأمر بتطهير الملابس وغسل ياقاتها يدويًا حتى تطهر تماما. كان أمي كانت تعرف أن "تكونولوجية" عصرنا، لن تشم ولن ترى، ونحن من نتباهي بأننا اولاد التكنولوجيا تلك كانت تُصر على زجرنا "المكن ده هيبوظ عينيكم ومناخيركم اللي بتشموا بيها". رحم الله كل أم شمت بانفها، وأصرت ان تغسل ياقتنا البيضاء من أدراننا التي لا تطهرها تكنولوجيا حديثة لا روح فيها.

أجازة في قريتي الأم:
لا أعرف الرابط بين ما كتبت في بداية المقال وما سيتلو في تلك السطور، إلا أنني أراه مرتبطًا بصلة ما ربما لا أدركها الآن، لكن أجزم بوجودها حتى وإن لم تتضح بعد، إذ قررت بين نفسي أن أقاطع كل الحقد في حياتي، وأن أتبرا منه للأبد، وهو ما دعاني لالتزام موقف أسره إلى نفسي وحدها في خصوص الحالة السياسية والمجتمعية في مصر، وكلما تقترب انتخابات الرئاسة أدرك بين نفسي حتمية الثيات على موقفي، وهي ثوابت أضطر إلى دفع ثمنها غاليًا من علاقاتي الإنسانية، وهي ما تجعلني أتأكد للمرة المليون بأن فهم أخي المغترب للجملة جاء صحيحًا وفهمي –أنا المشتغل باللغة العربية- هو ما حدث فيه كل الالتباس. في الفترة القليلة الماضية، كُنت في أجازة من العمل، وقررت الاختفاء في قريتي الأم، والتي تتقطع صلاتي بها يومًا بعد آخر، رغم كونها ملهمًا لكثير من خيالاتي وأفكاري التي أتحدث عنها، بل هي في الحقيقة أم هذا المقال جملة وتفصيلا، أو ليس أخي المغترب منها، أو ليس الاتهامات السخيفة التي طالتني منها، أو ليس الغضب كله ياتيني منها؟ نعم أحملها معي في كل سطر، وأعنيها في كل كلمة أكتبها. أعود فأقول أنني في تلك الأجازة الأخيرة فيها، حاولت فهم حيثيات أمر كان يشغل الكثير هناك، إذ جاءت تهديدات من حساب إلكتروني يسمي نفسه "أنا إرهابي"، للكثير، وأخذ يتهم الناس مرة بالكذب ويعود فيعتذر ومرة بالصدق لفضح الكثيرين ويفتش في خبايا وخصوصيات الناس.
لا أدعي العلم ولا أدعي معرفتي له، لكن أدعي معرفتي بما رأيته في حوارات بين الناس من حجم الغضب والكراهية لبعضهم البعض وهو ما يؤسس لمعنى الحقد بالأساس، في مجتمع أذكر دراستي له في ثانويتي العامة بأن أهم ما يميزه علاقاته الأولية، وجدتها مهترئة، كميات هائلة من السباب والقذف للآخرين بالباطل وتشويه السمعة، وفجأة تحول الأمر إلى فتنة في القرية الهادئة، بعد ظهور حسابات جديدة على الفيس بوك تحمل الاسم نفسه وتهاجم بعضها البعض وتهاجم كل الناس بلا استثناءات، بل وصل الأمر أن أحدهم أخبرني هناك بأنه يوجد حساب جديد يسمي نفسه "أنا الكافر"، ويسير على نهج هؤلاء.
إذن فهمي لجملة أخي هو المغلوط، أخي الذي ساعده بعده عن بلدنا، ونقحته الغربة من درن الحقد تعجب من إعجاب الناس بالجملة بمئات "اللايك"، وظل يتساءل كيف يكون الحقد بدرجة أفضل من "لا حقد" على الإطلاق. يمكن لتجربة القرية الصغيرة تلك أن أخلعها على عموم مصر، وأن أضيف إليها جملا لن يفهمها أخي عن الكذب، وعن التلون وعن صناعة الآلهة وعن الطمع وعن الغيرة وغيرها العشرات مما بات يحكم أصل الطبائع في مجتمعنا المصري، وهو ما لم يخلو منه زعيم او خفير في عموم مصر، إلا من رحم ربي.

اعتذار واجب:
أحتاج الآن إلى أمي كي تغسل لي قميصًا أبيض، أو تعيد غسيل ياقة قميصي التي وسخها الغضب، فتراكم، فاستفزه الحقد، فانفجر في وجه أحبتي، وسأدفع ثمنه غير قليل من علاقات أحرص عليها، وتؤسس لكل معنى تعلمته معهم أو منهم، لكنها أبدًا –وللأسف- لن تفلح من ناحيتي في تخريز ما تم تمّ شرخه في علاقتنا للأبد. أكتب الآن متمنيًا حكمة أمي الحبيبة وهي تقول "اللي اتكسر يتصلح"، "وتبات نار تصبح رماد"، وأتمنى ان تظل حكمتها على بصيرة ونور لم يخطأ يومًا، وإنما نحن من ابتعدنا عن هدي هذا النور، فضل بنا الطريق وتاهت خطانا.
عسى الله أن يخلص الكاذب من كذبه، وأن يخلص المُدلس من تدليسه، وأن يخلص الحاقد من حقده، وأن يخلص الغاضب من غضبه، وأن يخلص روحي من كل هذا، وأن تصيبني الدهشة يومًا مثل أخي الذ لم يستوعب كل أدراننا بعدما كانت أمي قد أعادت له غسيل ياقة قميصه بطريقة إسكندنافية رائعة.
بقى أن أعترف بأن الغضب مازال يقدر علي، لكنه أبدًا لم يكن حقدًا، وبقى أن أعتذر لكل من نالهم هذا الغضب الذي استفزه اتهام سخيف، وبقى أن أنبه نفسي إلى حاجتي ليس وفقط إلى خبز محبة أمي كما يقول الرائع درويش، بل أحن إلى غسيل أمي، فمن يغسل عني قمصاني ويزيل رائحة عرقي المخلوط بالغضب والعصبية، والذي عودتني على غُسل يديها لا غُسل آلات لا روح فيها كلها صناعة رأس المال؟!!.
أمي، أخي الأكبر، أخواتي، زوجتي، أختي المغترب، ابنتي ميمو، كل من رفضت طلب صداقته تحت اسمه المستعار، كل بلدتي الأم، كل عالمي، كل العالم، كل الكون:
أنا محض رجل مازل يغضب، وهو دليل نبت بعض الحقد، وهو ما أرجوكم ألا تسامحوني عليه، بل تدعو الرب أن يخلصني منه، فإن الرجل بلا حقد هو أعظم الرجال. جميعكم فلتقبلوا أسفي.
مختار سعد شحاته.

Bo Mima
روائي.
الإسكندرية/ مصر.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. اللاجئون السوريون -يواجهون- أردوغان! | #التاسعة


.. الاعتداءات على اللاجئين السوريين في قيصري بتركيا .. لماذا ال




.. الاعتداءات على اللاجئين السوريين في قيصري بتركيا .. لماذا ال


.. الحكم بالإعدام على الناشطة الإيرانية شريفة محمدي بتهمة الخيا




.. طفل يخترق الحكومة التركية ويسرب وثائق وجوازات سفر ملايين الس