الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


في اللاوعي الإدراكي و تأثيره على الإنسان – الحنين، و الجنة و النار.

نضال الربضي

2014 / 2 / 23
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


في اللاوعي الإدراكي و تأثيره على الإنسان – الحنين، و الجنة و النار.

أستمع ُ إلى فيروز و هي تغني، و أفكر بدون إرادتي بكلمات أغانيها. فيها دقة شديدة لكنها مُنسابة و عذبة، دِقة إنسانية تدخل النفس دون استئذان و تستحضر ُ مكنون العُمق البشري. تقول في إحداها " فايق علي ِّ؟ فايق عليِّ؟ إحنا اللي كِنَّا بهاك العلية.... وقت الشتوية "، و "فايق" معناها "أتذكُر؟"، فهي تخاطب الحبيب أو الصديق القادم من بعيد بعد سنين، بقولها "أتذكرني؟ أتذكر أوقاتنا الجميلة في الماضي، في الشتاء؟"

يحن ِّ الإنسان ُ دوما ً نحو الماضي، فهو يعتقد أنه كان أكثر سعادة ً وقتها و أن ذاك الماضي كان أقل َّ مشقة ً و ثِقلا ً و أكثر امتلاء ً. يحلم الإنسان بالعودة في الزمن نحو وقت ٍ كان يُحس ُّ فيه بمتطلبات ٍ أقل في الجهد، و تلقائية ٍ أكثر حضورا ً في الفعل، مقابل الحاضر الذي تزيد ُ استحقاقاتُه مع مضي الوقت، و يتطلب تفكيرا ً أكثر في الفعل و حسابا ً للممكنات من النتائج ثم اختيارا ً مدروسا ً حسب قياس أوزان النتائج الممكنة و الثمن الذي تطلبه كل نتيجة و استعداد الشخص لدفع هذا الثمن مقابل المرود النفسي أو الإجتماعي أو المادي.

في البشر رغبتان مُتعاكستان مُتضادتان، لكن وجودهما ضروري لسد "احتياج ٍ" واحد هو احتياج "الكينونة" بآلية غريزة ِ البقاء. هاتان الرغبتان تدفعان به إلى سلوكين متناقضين يتنازعان أفعاله و يقسِّم بينهما نفسه، و تنتج عنهما بنفس المقياس ردود أفعاله و يسوق بحسبهما و لتلبيتهما شكل تفاعله الاجتماعي و نمط حياته.

أول هاتين الرغبتين هي رغبة "الاجتماع" فالإنسان كما يُعرِّفه العلم هو "حيوان ناطق" أو "حيوان اجتماعي"، و هذا و إن لم يكن التعبير الوحيد إلا أنه التعبير الأبلغ الذي من شأنه تفسير السلوك البشري كاملا ً، فالنُطق هو صوت ٌ موجهٌ نحو موضوع ٍ خارج ٍ عن ذات الإنسان، أي نحو الآخر، بهدف إنشاء تواصل بين الكينونتين: الذاتية، و الإنسانية للآخر، و بذلك فهو صوت ٌ موجه لاستثارة معنى في عقل الكائن الآخر و استحضار صورة و شعور، تدفع الكائن الآخر ليتفاعل معها و يصدر عنه فعل ٌ يستطيع الكائن الأول أن يتفاعل معه أيضا ً و بذلك تنشأ أشكال العلاقات و الأفعال الاجتماعية.

يُحقق الإنسان عن طريق التواصل المجتمعي غاياته المعيشية فهو بحاجة للمجموعة لكي يعمل، يبيع، يشتري، يتلقى الخدمات المادية، يؤدي الخدمات المادية، يتسلى و يرفه عن نفسه و يخرج الضغط فيستطيع العودة للعمل و الإنتاج. و هو بحاجة للمجموعة بالأخص لتدعيم شعوره بالإنتماء و منحه الطمأنينة اللازمة و الثقة الضرورية للانطلاق في الحياة، و التي بدونها تضطرب بنيته النفسية و يُصبح عُرضة ً لمفاهيم إدراكية دونية يرى فيها نفسه أقل من إمكانياته و تستتبع بالضرورة سلوكيات غير صحية لا تُشبع المرء و تبقيه في دائرة العوز و الحاجة النفسية و المادية على حد ٍّ سواء.

أما الرغبة الثانية المتناقضة مع رغبة الاجتماع الأولى فهي رغبة "الوحدة" و شوق "الإنعزال"، و فيها يُحس الإنسان بحاجته للاختلاء بنفسه، للابتعاد عن المجموعة، للراحة من مُتطلبات التفاعل مع الآخر، للاستسلام للانشغال بالداخل الذاتي و التأمل فيه، و النظر في انسيابه و جريان عملياته الداخلية، للإحساس بالذات و النفس و الكينونة الحاضرة، لفهم أعمق للنفس و لقدرة على تميز ماهيتها و دوافعها.

رغبة الانعزال و شوق الوحدة، مبعثهما ليس فقط الحاجة إلى إدراك الماهية الذاتية، لكنهما في كثير من الأحيان مدفوعان بإحساس الاكتفاء، حيث وفّرت حاجة التواصل جميع مُتطلبات كينونة الإنسان المادية، و مهدت بذلك مسرح الوحدة الذي سترتقي عليه النفس لتمارس وحيها على نفسها و تقوم بدورها مع نفسها أمام جمهور نفسها، مسرحيةَ كينونةٍ درامية، في كل ِّ جزء ٍ من دور ٍ من أدوارها كشف و استنارة و انعتاق ٌ ووحي ٌ من النفس للنفس.

أربط ُ بين شوق الإنسان لماضيه و حنينه ِ لأيامه الخاليات و بين رغبة ِ الانعزال و شوق الوحدة ِ الأولى في داخل رحم الأم، حيث ُ اكتفاء ُ السكون و غِنى الواحد الموجود بكينونته، الغني عن الحاجة ِ للتفاعل ِ مع أي ٍ كان، الذي هو قائم ٍ قيوم ٌ مكين ٌ بذاته المُستمرة و المُنسابة، التي لا تعرف الضرورة و لا تحتاح، تلك الذات ُ المُطمئنـَّة الساكنة في الأمومة. ثم أتأمَّل في صدمة ِ الولادة، في قسوة الخروج الأول من الرحم نحو العالم، في قطع الحبل السُّري الذي يربط الطفل بالأم ِّ ليُجبره كي يأخذ َ أول فعل ٍ مسؤول ٍ في حياته و هو فعل ُ التنفس ليدخل الأوكسجين إلى الرئتين للمرة الأولى فيحرقهما، فيصرُخ الطفل ُ و يبكي.

هذا البُكاء الذي هو علامة ُ الاضطرار للاستجابة ِ للحاجة و الذي هو ترجمة ٌ لضغط ِالغاصب الذي سيقسِر الطفل على "أن يفعل َ" لأول مرة ٍ منذ أن وُجد، هذا البكاءُ الذي هو اعترافُه للطبيعة ِ بوجود الحاجة، و بعجز ٍ الكائن ٍ عن ألا يحتاج، و ختم ُ الشهادة ِ بالهزيمة أمام الطبيعة و قوانينها و وثيقة ُ الاستسلام و القبول بشروط الحياة و استتباعات الوجود و استحقاقات الكينونة.

تتعمق ُ صدمة ُ الطفل أكثر حين يُفطم عن ثدي أُمّه، فتلك هي الإشارة ُ أن ارتباطه العضوي بالكائن ِ مصدرِه قد انقطع، و أنه مُطالب ٌ بمزيد ٍ من التنازل ُ عن راحته، و بمزيد ٍ من الفعل ِ لتلبية ِ الحاجة الطبيعية إلى استدامة ِ وجوده، و تتحول ُ تلك َ الإشارة ُ إلى فعل ٍ إجباري ٍ يُغصب ُ عليه ِ قبولُه ُ و التعامُل ُ مع نتيجتِه، و تتوسع مداركه ُ لاستيعاب ِ صورة ٍ أشمل للعالم فيها تعقيدات ٌ كثيرة و عوامل ُ تأثير ٍ متنوعة، تجعلُه يفهم أنه ليس مركز العالم و أنه لم يكن يوما ً مركزه، و أنه جزء ٌ موجود ضمن أجزاء َموجودة ٍ ضمن فضاء ٍ لا يختص ُّ به وحده و لا يعتمد عليه لكنه أي الطفل يحتاج ُ ذاك الفضاء و لا قُدرة َ له إلا أن يقبل بشروطِه و مُتطلباتِه.

"فايق عليِّ؟" ربما هي صوت ُ اللاوعي يخاطب النفس الواعية "أتذكرين؟"، أتذكرين ذاك السلام؟ تلك الطمأنينة؟ ذاك الهدوء؟ ذاك الشبع؟ ذاك الغِنى؟ دون الاحتياج، دون الحاجة، دون القوانين؟

"فايق عليِّ؟ إحنا اللي كِنَّا...." نعم نحن الذين كُنَّا قبل أن نصير اليوم و الآن كما نحن.

من وحي الصوت اللاواعي، أخرج الإنسان ُ إلهَه إلى الوجود، و نظــَّـفـَه ُ من العجز الذي تراكم على ذاته هو، ثم رفعه إلى الأعلى، و أعطاه ُ السلطة َ ليفعل كل ما عجز هو عنه، فقلده قوة الطبيعة و ألواح المصائر و الأقدار، و جعل منه الفاعل الذي خرج منه الكون و خرجت عن مشئيته الأفعال، لينتقم من عجزه هو عن الفعل و قصور مشيئته عن التأثير في الطبيعة و المجتمع و الأفعال، و بنفس ِ تلك المشيئة ِ المُنتقمة جعله ُ الغني المُتعالي الذي لا ينال منه شئ، مُقابل َ ضعفِه كإنسان و حاجتِه و عوزه إلى كل شئ و خُضوعه لكل شئ.

من وحي الصوت اللاواعي و القلق المُتشوق للدعة الأولى و الطمأنينة البدئية في الرحم "فايق علي ِّ؟" اخترع الإنسان ُ جنّنته التي فيها كل ما لم تسمع به أّذن و لا رأته عين و لا خطر على قلب إنسان، تلك الجنة التي يتنازع ُ فيها الإنسان ُ صمته لا لغو فيه، حين يمسح ُ السكون كل دمعة ٍ من العيون، حيث ُ لا حاجة و لا احتياج و لا سؤال َ و لا مسؤولية و لا قسر للإرادة، حيث الغِنىْ القيُّومي الأول.

و بتفاعُلات الإله و جنته، و استحقاقات المجتمع و السلطة خلق الإنسان ناره الأبديه، جُهنَّم التي تصرخ هل من مزيد، حيث البُكاء و صريف الأسنان، دار ُ النزول ِ الشبحي الأسفل، التي تأكل ُ كل المُخطئين الذين ينتهكون المجتمع و يؤذون الناس، الذين يزيدون من وطأة ِ و زخم حاجة الإنسان للأمان و يخترقون فُقاعة َ سلامِه المُجتمعي الذي أنجز ما استطاع َ منه بمشقة، هؤلاء السارقون أو المُعتدون بالأذى الذين هم عُملاء قوانين الغصب و مشاركون فيها، أؤلئك الذين يُدعِّمون من سلطة ِ الغاصب ِ القاسِر الذي أفهمَه بقسوة أنه ليس مركز العالم و أن عليه أن يكون َ ناضجا ً مسؤولا ً. هؤلاء ِ إلى جهنَّم َ حيث لا دِعة َ لهم و لا طمأنينة، و لا سكون بدائي، فهم لا يُمكن أن يكونوا مثله و إلا لما انتهكوا سلامَه ُ هو، هؤلاء مصيرهم إلى حيث ليس مصيرُه، فإن كان مصيرُه ُ هو للجنة لحالة السكون الأولى قبل خروجه من رحم أمِّه، فهؤلاء َ إلى الفوضى العدمية في العذاب اللاسكوني العنيف.

"فايق عليِّ؟"، نعم.

معا ً نحو كمال الإنسانية، نحو تحقيق ِ المُجتمع الإنساني الذي لا يشتاق ُ فيه البشر للماضي و لا يُضطرون فيه أن يحلموا بالجنة و النار ليعوضوا عن غياب العدل و قسوة الحاجة، نحو الإنسان الأكمل في وحدة ِ البشر جميعا ً،،،،

،،،، معا ً نحو الحب، نحو الإنسان.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مرشحون لخلافة نصرالله | الأخبار


.. -مقتل حسن نصر الله لن يوقف مشروع الحزب وسيستمرفي المواجهة -




.. الشارع الإيراني يعيش صدمة اغتيال حسن نصر الله


.. لبنان: مقتل زعيم حزب الله حسن نصر الله في غارة جوية إسرائيلي




.. المنطقة لن تذهب إلى تصعيد شامل بعد مقتل حسن نصر الله