الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


المجتمع المغربي كبنية تناقضية

محمد جلال

2014 / 2 / 23
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات


لعل أول ما يثير القارئ في هته المقالة هو العنوان - المجتمع المغربي كبنية تناقضية - ، وقد يعترض معترض ، فيقول ، انه من غير الجائز حصر المجتمع داخل بنية واحدة ، فالمجتمع بدلا من ذلك هو بنى وطبقات ، وقد يكون هذا الإعتراض صحيحا في سياقات محددة ، لكن عندما نحاول رصد نبض المجتمع ، من حيث هو تجلي لكيان سياسي و ثقافي و هوياتي ولغوي واحد ، فإن الأحرى بنا هو دراسته بما هو بنية كاملة معلنة وواضحة .
إن المجتمعات البشرية قاطبة ، مرت خلال تاريخها بمحطات تباينت فيها سبل العيش ، وتعددت فيها أوجه الحياة ، لذا فإننا نرصد إختلافات هيكلية بين المجتمعات ، وحتى في ذات المجتمع الواحد فإننا نرصد هذا التغير عندما ننظر الى ماضي وحاضر هذا المجتمع ، بحيث تلعب الشروط والمتغيرات التاريخية مفاعليها في توجيه نمط الحياة داخل المجتمع ، ويمكن تفسير هذا التغير برده الى شروط الواقع الذي يحياه البشر داخل مجتمعاتهم ، فالحديث عن المجتمع الوسطوي لا يستقيم دون النظر الى شروطه الواقعية التي سادت فيه ، ولا يمكن جعل المجتمع القروسطوي مثلا نموذجا يقاس عليه ، سواء كان هذا القياس يتوجه الى المجتمعات السابقة أو الى المجتمعات اللاحقة على هذا المجتمع ، وبالمثل فإن أي محاولة لإسقاط أي رؤية لأي نموذج من المجتمعات البشرية على مجتمع آخر لن تكون سوى ضرب من العبث ، بحيث أن كل مجتمع كما أسلفنا الذكر هو نتاج لمتغيرات وشروط واقعية تنعكس على سبل الحياة في فيه . لكن الافت للنظر في المجتمعات السابقة هو أنها تتوحد كلها في نسق اجتماعي متماسك ، نسق يعبر عن توجه ثقافي وسياسي وديني ..واحد هنا نكون أمام مجتمع يقدم نفسه كبنية منسجمة تبرز بجلاء القيم السائدة والأفكار المنتهجة فيه ، وبذلك لا يعسر علينا التعرض لهذا المجتمع قصد استجلاء معالمه وفحص قيمه ، إلا أن المجتمع المعاصر لا يقدم نفسه على هذا الحال ، ذات الشيئ ينسحب على المجتمع المغربي الذي نرصده كبنية تناقضية ، مجتمع يصل التناقض فيه حدا يعسر معه تحديد عناصر الجدة والأصالة ، في مقابل عناصر التجديد والمعاصرة .
من سمات المجتمع التناقضي أنه يقدم نفسه كشيئ معقد وغامض ، وتكون الواقعة الإجتماعية فيه رهينة بقوة عناصر الجذب القائمة ، فيتحدد بذلك سير المجتمع قياسا الى القوى الأكثر حضورا والأكثر تحكما ، فيسلم المجتمع بهته القوة تسليم علماء القرن السابع عشر بالمطلق النيونتني ! ، واللافت للنظر في المجتمع المغربي هو أنه مجتمع يعاني من الإستيلاب ، والأكثر لفتا للإنتباه هو أن هذا المجتمع يرفض الإعتراف بكونه واقعال تحت السلب ، بل يقدم نفسه بدلا من ذلك كمجتمع متشبث بهويته ، وأي هوية هي ؟ .

المجتمع المغربي بين الإنغلاق والإنفتاح :
----------------------------------------
مما لا مراء فيه أن المجتمع المغربي هو مجتمع تاريخي عريق ، مجتمع تعاقبت عليه حضارات عديدة وسمت تاريخه بالغنى الثقافي والحضاري ، فكان بذلك منارة مشعة وصل نورها أنحاء شتى من ربوع المعمور ، وقد إغتنت بقاع عديدت ونهلت من هذا الغنى الحضاري للمغرب ، لكن هذا الغنى لم يقدر له الإستمرار بفعل عوامل تاريخية أساسها التغير والصيرورة التي هي جوهر التاريخ ، ولسنا هنا بصدد عرض للتاريخ المغربي ، بقدر ما يهمنا التعرض للمجتمع المغربي المعاصر بما هو مجتمع تناقضي ، مجتمع تنخره التناقضات على كافة الأصعدة .
لقد كان المجتمع المغربي في الأمس القريب ، وتحديدا قبل حقبة الإستعمار الأجنبي في مطلع القرن العشرين، مجتمعا سمته البارزة هو التشبث المطلق بالهوية التاريخية ، هوية شكلها المجتمع ذاته في مسيرته التاريخية وأضحى متشبثا بها وسائرا في سبيل تطويرها ، فكان العالم هو العالم بكتاب الله وسنة نبيه ، ولم يكن يفهم العلم خارج هذا النطاق إلا ما لا يكاد يذكر ، وكانت الكتاتيب القرآنية تشكل مراكز راقية للعلم والمعرفة ، فكان الطلاب يتحلقون حول الفقيه أو العلامة طالبين العلم والمعرفة ، ولم تكن أسئلة الإنفتاح على الآخر تقض مضجع الإنسان المغربي بقدر ما يهمه فهم ذاته ، ومع توالي السنين استيقض هذا الإنسان من سباته بعد أن باغثه المستعمر جالبا معه النار والدمار ، فإندهش هذا الإنسان المتقوقع على ذاته من هؤلاء البشر الشقر القادمين من البقاع القاصية ، ولم يكن ليفهم أن هؤلاء الوافدون مروا في الأمس السحيق بظلامية قاتمة إخترقتها الحداثة التي شكلها فلاسفة ومفكرون تعلموا من التاريخ العبر والدروس ، حداثة رفعت شعار العقل والحرية والإنفتاح ، ولم يكن هذا الإنسان المعتكف في الكتاتيب بقادر على تصور وجود مجتمعات خلف المحيط لولا المبادلات التجارية القائمة التي حملت معها آثارا من ذينيك الوجودين الذين يفصلهما المحيط ، وبعد أن دخل المستعمر مع مطلع القرن العشرين ، علما أن هؤلاء الوافون سبق لأسلافهم الحضور ، لكن طراوة الذاكرة المغربية حالت دون توثيق ذلك الوفود ، اهتز كيان المجتمع المغربي ، وارتعب من هول الواقعة ، فكان الإندهاش والخوف من الجديد الوافد من أهم العوامل التي سهلت على المستعمر القيام بمهمته التي آتى من أجلها ، وبعد أن فهم هذا المجتمع ورص ما بقي من صفوفه كان قد فقد الشيئ الكثير .
حمل المستعمر معه ثقافته الجاهزة ، ثقافة مكنته من تحقيق طموح الإستعمار ، ثقافة شكلها هو ذاته بتطلع جامح نحو السمو والتطوير ، وبعد أن وجد مجتمعا مغايرا متشبث بثقافة لا ترقى الى مصاف التقدم والإبتكار ، بدأ هذا المستعمر في إرساء دعائم ثقافته ، فحلت المدرسة بدل الكتاتيب القرآنية ، وبدأ الناس يلبسون معاطف شبيهة بتلك التي يلبسها المستعمر ، بدل أن يلبسوا الجلابيب التي يشكلونها هم ذاتهم ، فما كان للإنسان داخل هذا المجتمع سوى أن يخضع ويستسلم لهته الثقافة الوافدة من الأقاصي بكل سهولة ، ومع تتالي الأيام بدأت هته الثقافة تقدم نفسها كثقافة رسمية توارثها الأجيال ، وبعد أن غادر المستعمر هذا المجتمع ، لم يكن هذا المجتمع بقادر على التخلي عن هته الثقافة الوافدة والتي عمرها فيه بعض عقود ، لكن بالمقابل من ذلك كان قادر على التخلي عن جزء كبير من ثقافته التي شكلها لقرون وقرون .
سمة الإغلاق كانت الطابع العام للمجتمع المغربي المتشبث بتاريخه ، باغثه الإنفتاح من حيث لا يدري ، فسلم به واندفع نحو تمجيده والإقتداء به والسير عليه .

المثقف المغربي كتجلي لأزمة الإستلاب :
---------------------------------------
كان الإنبهار جليا على وجوه الفئة المثقة داخل المجتمع المغربي في حقبة ما بعد الإستعمار ، إنبهار من الثقافة الأخرى ثقافة ما وراء المحيط ، فأنطلق المثقف المغربي نحو تمجيد هته الثقافة واتباعها وشرحها ، فلم يكن بذلك يلعب دور الناقد الواقعي لشروط الحياة داخل مجتمعه ، بل دور المنظر للمستقبل وفق رؤية أورومغربية ، تحاول استقصاء عناصر الجذب وتنغمس في تذليل الصعاب الممكنة قصد التسويق لهته الثقافة الوافدة ، وبالمثل أضحى المثقف المغربي ينظر الى واقعه نظرة يؤطرها الإنهزام ، إنهزام أمام ثقافة أقوى وأكثر جذبا ، فكان الإعتقاد السائد ولا يزال متلخصا في النظر الى أن كل ما هو أوربي هو مكمن الجذب الجمال والإبتكار وبالنقيض من ذلك كل ما هو محلي هو رديئ و منحط ، فحلت بنية جديدة كاملة ومسيطرة محل بنية سابقة عدت من الماضي ، ماضي إتضح أنه من العبث التشبث به في ظل القائم الجديد ، فما كان للمثقف المغربي سوى أن يناصر هذا القادم الجديد وبالمقابل ينفض اليد من الموروث المهزوم .
وكانت الموضة لدى الكثير من المثقفين هي الإقتداء بالفكر الماركسي ، الفكر الذي توعد بتحرير الإنسان من بطش أخيه الإنسان ، الفكر الذي حمل في طياته شعار المساواة والرفاه للجميع ، فما كان من المثقف المغربي سوى أن يناصر هذا الفكر ويقتدي برموزه ، وهو في ذلك لا يصدر عن موقف المثقف الذي يفهم شروط واقعه ، بل عن موقف المثقف الحالم ، وأي حلم هو ؟ .
قد لا يكون من الجائز حصر الثقافة في قالب واحد معلن أو مسيطر ، لكن بالمثل ليس من الجائز قتل كل ثقافة أصيلة وتعويضها بأخرى مهزوزة ، والمثقف الذي لا يتألم من بؤس الواقع حينما يخيم البؤس، ولا يفرح ببهجة هذا الواقع حينما تسري فيه البهجة ، هو مثقف متعالي عن واقعه لا تستقيم ثقافته ، فهو في ذلك مثقف يخون واقعه ، مثقف يجعل من الثقافة الغاية والوسيلة في ذات الوقت .

الإعلام المغربي الرسمي كآلية إستلابية :
---------------------------------------
معلوم جدا لدى الجميع مدى أهمية الإعلام في حقبتنا الحالية ، ومعلوم كذلك مدى حجم الصراع القائم حول المعلومة ، هته المعلومة التي أضحت الآن آلية للسيطرة والتحكم ، بحيث يتم ترويجها عبر الوسائط الإعلامية تتجاوز في أحايين كثيرة الحدود الجغرافية والزمانية ، فتنحو بذلك نحو أفق كوني ، والكونية الإعلامية في زماننا جلية تماما ، فالحدث أينما وقع يمكن أن يصل الى الأقاصي البعيدة عن مكان حدوثه .
إن الإعلام المغربي ليس حالة شاذة وسط باقي الأطياف الإعلامية العالمية ، فهو أيضا يشارك الإعلام العالمي في نقاط عديدة ، بل ربما أنه يحاكي بعض المنابر الإعلامية العالمية ، هته المحاكات دفعته الى إستيراد قوالب جاهزة في بعض الأحيان ، قوالب لا تنظر البتة الى خصوصية المجتمع والا إلى تطلعاته ، نذكر على سبيل المثال المسلسلات الأجنبية ، فهته المسلسلات التي تتم دبلجتها الى اللهجة المحلية أو اللغة العربية ، هي في الواقع تعبير عن أزمة الإعلام المغربي وخاصة التليفزيوني ، هذا الإعلام الذي انخرط بكل قواه في مشروع كبير قائم أساسا على الرغبة الجامحة في كسب جماهير المشاهدين ، وهو في ذلك لا يكرث الى مدى مصداقية وأخلاقية رسالته، بل إن هاجسه الوحيد هو فرض وجوده كمنبر إعلامي ريادي ، وقد يذهب البعض الى القول بأن هته الثقافة لا تعبر في واقعها عن أزمة إستلابية، بل عن إنفتاح حضاري على الآخر ، لكن هذا الإعتراض سيكونا لاغيا فور إدراكنا لحقيقة ما تقدمه هته الثقافة الوافدة ، إذ أنها تعمل على إبادة كل ثقافة أصيلة فتعوضها بثقافة أخرى مهزوزة الأركان ، فيغدو المستقبل لهته الثقافة غريبا في عقر داره ، لا هو متشبث بثقافته الأصيلة ولا هو قادر على التعايش مع هته الثقافة الوافدة .
إن حجم التناقض الذي يعيشه المجتمع المغربي حاليا بلغ حدا لم يعد معه بالإمكان رصد الثابث وراء المتغير ، ولا الصائب وراء المضلل ، ولا الأصيل وراء الدخيل ، فهل فقد هذا المجتمع بوصلة التوجيه ؟ هل أصبح هذا المجتمع أشبه ما يكون بجزر مفككة معزولة ، تنتظر ما يفد عليها من عوالم أخرى ؟








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. نور وبانين ستارز.. أسئلة الجمهور المحرجة وأجوبة جريئة وصدمة


.. ما العقبات التي تقف في طريق الطائرات المروحية في ظل الظروف ا




.. شخصيات رفيعة كانت على متن مروحية الرئيس الإيراني


.. كتائب القسام تستهدف دبابتين إسرائيليتين بقذائف -الياسين 105-




.. جوامع إيران تصدح بالدعاء للرئيس الإيراني والوفد المرافق له