الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


في نفي النبوءة - رؤية في الجذر النفسي للنبوءة و نقد آليات التبليغ.

نضال الربضي

2014 / 2 / 24
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


في نفي النبوءة - رؤية في الجذر النفسي للنبوءة و نقد آليات التبليغ.

تقوم الأديان الإبراهيمية الثلاثة على مبدأ تبليغ الإله مشيئـتــَه لبشر يختارهم، وظيفتُهم أن يُبلغوا الناس هذه المشيئة بدورهم، و سَمّى جمهورُ الناس المُتلقي التبليغ مجموعة َ المُختارين: أنبياء، لأنهم يُنبئون أي يُخبرون عن حقائق مجهولة، بعضها سيحدث في المستقبل و بعضها حدث في الماضي لكن في الحضرة الإلهية، مثل قصص الخلق، و بعضها يشرح قوانين الغيب التي ترسم الحاضر و المستقبل.

سمّى اليهود النبي "الرائي" لأنه يرى المستقبل، و لأنه يرى المشيئة الإلهية حتى لو تعلقت هذه المشئية بحدث ماضي أو حدث حاضر، فالرؤيا هنا هي ليست خاصة باستشراف أحداث قادمة فقط لكن مُخبرة عن مكنون الفكر الإلهي في موضوع ٍ ما. و تناقل الناس حكايات هؤلاء المختارين الأنبياء و كتبوها، فمنها ما كُتب في أيامهم مثل أشعياء و أرمياء و محمد، و منها ما كتب بعدهم مثل أسفار موسى و أخبار المسيح.

يعتمد المؤمنون اليوم على هذه النصوص المكتوبة لتكوين منظومة الإيمان، و هي المنظومة التي على قدر براءة ِ مظهرها كـ "قناعة" إلا أن دورها في الحياة قد أصبح طاغيا ً صابغا ً لكل مناحي المجتمع، من الاستيلاء على القدرة العقلية و تكبيل الرغبة في التفكير حتى شلها بالخوف و تعطيلها بالخرافة مرورا ً بتحديد المأكل و المشرب و الملبس و ما يصح فعله و ما لا يصح و انتهاء ً باستدعاء هذه النصوص لتبرير أطماع السياسة و جشع التوسع و الاستعمار و إعادة تشكيل الدول و اضطهاد النساء و الأقليات و المذابح الجماعية و التهجير.

إن الخلل الكبير الذي تعاني منه مجتمعاتنا يتطلب منا أن نفحص جذور َ ما نؤمن به، لنسأل:
ما أين حصلنا عليه؟
من نقله لنا؟
لماذا نؤمن به؟
كيف نعلم أنه صحيح؟
هل يستقيم ُ بمسطرة ِ المنطق و بتصالح ٍ مع تعارضه مع العقل و الإنسانية؟

تؤمن الناس بالله لأن الأنبياء قالوا أنه موجود، و لأن الكُتب التي كُتبت عن الأنبياء قالت أنهم قالوا أنه قال أنه موجود، و تشهد هذه الكتب على نفسها أنها صحيحة، و معيار صحتها هو شهادتها لنفسها، و معيار قبولها لدى الناس هو إخبارها عن الله و الأنبياء و إخبار الأهل و المجتمع لأطفالهم عنها، في حلقة دورانية لا دليل عليها سوى شهادة الكتب للأنبياء و لنفسها و شهادة الأنبياء للكتب و لأنفسهم.

فإذن، لولا الأنبياء ما كانت الكتب، و لولا الكتب ما كان الإيمان، فالأساس هو الأنبياء، و منا هنا تأتي ضرورة فحص النبوءة.

لو كان الإله موجودا ً و أراد أن يُبلغ رسالة ً ما للعالم، فيقتضي المنطق أن يظهر هذا الإله بطريقة ما للمجموعة التي يختارها لتحصل على هذه المعرفة، و هذه المجموعة هي إما مجموعة صغيرة في موقع جغرافي مثل قبائل إسرائيل و يهوذا القديمة، أو العرب الحجازيِّن أو العالم، و في كل هذه الحالات يقتضي العقل و يطلب المنطق أن يستخدم الإله وسيلة فعالة لنشر حقائق مهمة مثل حقيقة وجوده و حقيقة اهتمامه بالجنس البشري و حقيقة إرادته أن يحدد للناس كيف يحيون و ماذا يفعلون و ماذا يجتنبون و حقيقة مشيئته بكشف عن جزء من عالمه الإلهي و أسرار الخلق و التكوين.

و يجب على هذه الوسيلة أيضا ً أن تكون واضحة ً لا لبس فيها، و ألا تكون خاضعة لتأويلات جدلية، أو إحتمالات يستقيم فيها أكثر من خيار يؤدي كل واحد إلى نتيجة مختلفة و لا يلتقون، أو يمكن دحض صحتها. و ينبغي أن يقوم هذه الإله باستخدام هذه الوسيلة بموظفين من عنده يُظهرون حقائقه أولا ً ثم يتخاطبون مع الناس مجموعات ٍ لتسهيل قبولها و ضمانها، مع ضرورة حرص هذا الإله على عدم فساد وسيلته أو القدرة على تخريبها أو إفسادها. كما و ينبغي أن تكون وسيلته أيضا ً متوازية الاستخدام و الانتشار من طرفه عند كل الشعوب في وقت ٍ واحد بحيث يكون هذا الانتشار العالمي بنفس توقيت الحدوث في كل مكان و بنفس الموظفين الإلهين و بنفس الطريقة و المنطقية لوحده دليلا ً على وجوده و صحتها.

أما حينما نفحص النبوءات و الأنبياء فلا نجد شيئا ً من هذا أبدا ً، لكننا نجد كل ما من شأنه أن يشير على خصوصية ٍ فردية لكل نبي، خصوصية ٍ شخصية، شديدة الفردانية و شديدة التميز، هي في الحقيقة شخص ذاك النبي و نفسه، و خبرته النفسية و حساسية مجموعه العصبي و قناعاته الخاصة و ترجمة العمليات الكيميائية في دماغه منقولة ً لمن حوله.

إن "التبليغ" الذي أتى بها النبي هو تبليغ ٌ رأه ُ هو لوحده، فأتى به قومَه، و قومُه حين لا يصدقون معذورون، فكيف تُصدق رجلا ً يخرج عليك ليقول لك أن إلها ً خلق الكون و ما فيه قد ظهر له و ميزه عن باقي الناس و أعطاه الحق في سن القوانين و التشريع و إدانة الناس و المجتمع و محي كل ما تم التعارف عليه مجتمعيا ً و إحلال نظام ٍ بديل ٍ عنه هو نظام هذا الإله الذي لم يره سواه؟

ألا تتساءل عندها:
لم لا يظهر لنا هذا الإله و يُخبرنا بنفسه؟
نحن مستعدون أن نجتمع في هذه "الساحة"، "الملعب"، "الحقل"، "الحديقة" كلنا في أي ساعة يشاء و مستعدون للحديث معه، فهل يمكنك إخباره أن يأتي لو تكرمت؟
أليس ظهوره لشخص واحد في حد ذاته تميزا ً غير مفهوم، و غير نافع في نفس الوقت، ما دام أن الرسالة هي للمجموعة؟

إن فحص الكُتب التي تُخبر عن الأنبياء و قصصهم و كلامهم و طريقة ِ تعاطيهم مع مجتمعاتهم و أقوامهم و موقف المجتمع منهم تُخبرنا أنهم كانوا أشخاصا ً ذوي نفسيات ٍ خاصة حساسة، و لديهم شوق ٌ إصلاحي، ينشد العدل و يتطلع نحو النقاء، لكنهم يتميزون على كثرتهم بسرعة الغضب و الفشل في القدرة على إقناع الناس، و انفضاض الناس من حولهم إلا حين كانوا يمتشقون السيوف و يسيرون الغزوات، و بعد موتهم تنفض الناس عنهم، و تتكاثر حولهم الآراء و تتطور دياناتهم بفعل النُّساخ و الكتبة لتصبح أشياء ً أُخرى ليست ما أتوا به و إن كانت تحمل بذرته.

مما يؤكد شخصانية النبوءة هو النرجسية التي تتسم بها دعوات الأنبياء، فكل نبي ٍّ يؤكد على نفسه، و على صحة نبوءته و على أن الإيمان به هو السبيل القويم، و أن تكذيبه يستدعي غضب الإله الذي أرسله و هلاك المُكذِّب، و هذا التأكيد على ذاتية الدعوة و حصرية النبوءة و صحة التبليغ لا يستند إلى حجة إقناعية أو أساس منطقي أو قوة عقلانية أو ظاهرة تُصدِّقـُه و تدعمه، لكن إلى تأكيد النبي نفسه على صدقه. هذه النرجسية نحو إبراز الذات التبليغية و طلب قبول و شهادة المُبلـَـغ (على) صحتها، هو في الحقيقة تدعيم النبي لذاته، لنفسه، لما يراه، و لما "يعلم" أنه الحقيقة، إنه طريقته في فرض قبوله داخل مجتمعه من أفراد قومه، و هو بذلك مُنفصل ٌ عن واقع قومه من ناحية قدرته على فهم و استيعاب آلية التغيرات في ذاك المجتمع و عوامل التأثير في القوم، إنه يرى أن الدعوة هي نفسها دليل ٌ على صحتها، و أن السعي فيها هو الحجة ُ التي تُلزم قبولها، و أن نشرها ختم جودتها، و أن مجرد ظهورها هو بُرهان ٌ على محتواها، و لذلك يستلزم ُالنبي َ أن يرى أن عدم قبول الناس للدعوة هو سبب ٌ كاف ٍ للحكم عليهم و إدانتهم و استحقاقِهم للعذاب و المصير الأبدي المظلم، دون أن يرتكب الرافضون ذنبا ً جُرميا ً، دون أن يقدِّم من جهته و دون أن يقدِّم إلهُهُ الذي يدعو إليه أي دليل ٍ حسِّي ٍ واضح ٍ جلي ٍّ علني ٍ للجماعة المدعوة.

إن مجرد رفض الدعوة هو رفض ٌ لذات النبي، و طعنة ٌ لنرجسيته و لمكانته التي يراها لنفسه، و هو عمل ٌ لا يُغتفر بمقياسه، حتى لو كان بمقياس ِ المُراقب المُحايد اختيارا ً حرَّا ً و ممارسة ً أصيلة ً للحق الإنساني بالاختيار. لم تقبل الأنبياء استجابات مجتمعاتهم الرافضة فحدث الصدام بين الداعي و المدعو، و كانت دائما ً الغلبة ُ للأقوى و الأدهي و الأمكر، في عملية ٍ إنسانية ٍ طبيعية تفسرها قوانين الطبيعة لا ادعاءات الغيب.

تميزت سير الأنبياء بهذا الصدام، و بإنسانية تامة في جميع مناحيها، و يستطيع ُعلم النفس أن يفسر نفسية الأنبياء، و تستطيع ُ علوم اللغات و نقد النصوص أن ترى بين سطور ِ النصوص التي تروي قصصهم و تعاليمهم، وبلغ العلم الحديث مبلغا ً عظيما ً جدا ً في تفسير أصل الحياة و منشأها و التطور الذي عمل َ على ظهور الكائنات بالأشكال التي هي عليه الآن، و أصبح في مقدور البشرية أن تنظر إلى الأنبياء و كتبهم النظرة َ الصحيحة، كأشخاص ٍ يمتلكون حساسية ً عصبية ً خاصة يتميزون برؤيا ذاتية قوية تتعارض مع الواقع يُعبرون عنها بواسطة آليات الهذيان و الهلاوس البصرية و السمعية (التعبير استعارة من الأستاذ طيب الذكر العفيف الأخضر) مع ذكاء و كاريزما شخصية تؤثر بعاطفتها في المحيط.

إن الأديان جميعها هي هذه الخبرات النفسية المنقولة عن بشر ٍ من نوع ٍ خاص، لم يكونوا كاذبين، لكنهم لم يكونوا مدركين لما يحدث في نفوسهم، و اعتقدوا صادقين بصحة ما يقولون، مع التأكيد أننا نعرف اليوم أن ما يقولونة غير صحيح، و إنني أعتقد أنهم لو كانوا موجودين اليوم بيننا في مجتمعاتنا كانت عائلاتهم ستعاني حرجا ً شديدا ً أمام الناس والجيران، و كانوا سيخضعون للعلاج النفسي حين تتفاقم حالاتهم، أو سيكفون تحت الضغط عن دعواتهم أو سيسيرونها في مجالات الأدب أو الشعر أو الرياضة أو أي مجال ٍ آخر، أو سوف يتعرضون للمساءلة القانونية لو لجأوا للعنف، كما في الماضي السحيق.

أعترف ُ أن بعض النصوص الأدبية الدينية تحتوي على سحر ٍ من نوع ٍ خاص يلمس النفس و يطير بها، سحر ٍ أدبي، و خصوصا ً عند ترتيلها، فأنا أهيم ُ بالتراتيل السيريانية و هي ترتفع "سوغدينان لصليبو" و أنتشي مع صوت فيروز و هي تنطلق "المسيح قام من بين الأموات"، و أغيب ُ في صوت الشيخ الراحل عبد الباسط عبد الصمد و هو يتلو "إذا الشمس ُ كورت" بعد أن يرتفع صوتُه قبلها "باسم الله الرحمن الرحيم".

لكن هذا الوجدان الديني يبقى وجدان النفس المُشتاقة للانعتاق من المادة، و هو ترجمة نفس النبي ينقلها إلينا لنستعذب ما استعذب َ هو قبلنا، و لنفهم َ سبب تصميمه على الاصطدام مع المجتمع، لكنه خاص بِه ِ وحده، حياتُه هو، تجربتُه هو، و غير ُ ملزم ٍ لنا اليوم و الآن، و لقد قدمت حضارتنا البشرية أنظمة ً فكرية ً سامية ً تفوق بكثير أعظم َ إنتاجات أي نبي أو أتباعِه، و تجاوزنا بمراحل محدودية َ الدعوات، نحو فضاء الإنسانية الشامل غير المحدود.

معا ً نحو الحب، نحو الإنسان!








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - رحت بعيد يا استاذ نضال
nasha ( 2014 / 2 / 24 - 12:04 )
الحياة لغز لم ولن يحل....كل الانبياء و الاديان والفلاسفه و علماء الطبيعه يحاولون فك هذا اللغز دون جدوى. انت و انا و ناس كثيرين نحاول ايضاً.
اي مفكر مؤثر في الوسط الذي يعيش فيه هو نبي حتى في هذا الزمن. ربما انت احدهم. لان النبوه هي فهم الواقع بنضره ثاقبه دون باقي الناس فاذا نجحت فكرة المتنبئى اصبح نبياً.
انا في رأئي اي فكر يرفع المعاناة و يساند السلام و يُمكن اكبر عدد من الناس ان يعيشو برخاء وسلام دون الاعتداء على الطبيعه الحيه و غير الحيه، يستحق ان ينتشر بين الناس
شكراً استاذ


2 - إلى الأستاذ Nasha
نضال الربضي ( 2014 / 2 / 24 - 12:28 )
يا صديقي لقد قلت َ أنت بالضبط ما قلته أنا! مع أنك أوحيت في البداية أنك ستقول شيئا ً أخر :-)))

فإذن هو نحن ووحينا نحو أنفسنا، و هو مُلزم لنا لوحدنا و لم يأتي من خالق.

أنا لا أخوض هنا في مسألة وجود الخالق فلذلك حديث آخر، أنا أتكلم عن وحي الخالق للنبي، و أرى أنه وحي النبي لنفسه.

نعم الأنبياء كثيرون:

شعراء و فنانون و أدباء، و هؤلاء لا يسمونهم أنبياء لأنهم يدركون سرهم، و نحن الآن نكشف سر الأنبياء حتى يعودوا بشرا ً منا كما هم في الحقيقة.

أحب آية جميلة جدا ً في الإنجيل تقول -إن ملكوت الله في أنفسكم- ربما هي تختصر الطريق لتقول لنا أننا كلنا أنبياء نُوحي إلى أنفسنا، صلوات أنفسنا علينا و سلامها.

أهلا ً بك دوما ً و يسعدني حضورك.


3 - من اجمل مقالاتك
samialmohami ( 2014 / 2 / 25 - 08:15 )
استاذ نضال امتعتنا فكرا وادبا فانت تمتعنا في كل مقال تنشره هنا الا ان هذا المقال هو من اروع ما كتبت وانا هنا الا اجد نفسي الا ان اكون متفق معك بكل ما سردت بهذا المقال وازيد ان البشرية تتنوع في مسألة الوجود والخلق فمنهم من يريد ان يعرف ولكن لا يبحث عن جواب وهم عوام الناس ومنهم من يفني عمره وهو يبحث عن الاجوبة وهم الفلاسفة والمفكرون و منهم من يستغل رغبة وحاجة الناس للاجوبة فيقوم باستثمار ذلك وهم الانبياء و الحكام
شكرا استاذي ودمت


4 - إلى الأستاذ samialmohami
نضال الربضي ( 2014 / 2 / 26 - 06:49 )
تحية طيبة أستاذ سامي،

شكرا ً لكلماتك الجميلة و الطيبة، يسعدني حضورك دوما ً.

مشكلة هذا العصر يا سيدي أن أثقاله كثيرة، و ماديته طاغية، فيلجأ الإنسان للدين طلبا ً للمعنى الإنساني، فيخرج من فخ استعباد الجسد الاستهلاكي و إدمان الحاجة المادية، نحو فخ استعباد العقل و إدمان الحاجة الدينية، و هما فخان يكبلانه معا ً.

الإنسان هو المُقدَّس ُ الأول و هو النبي و الرائي و الكِتاب و النص، هو فوقهم، و قبلها جميعا ً.

دمت بود.

اخر الافلام

.. المئات من اليهود المتشددين يغلقون طريقا سريعا في وسط إسرائيل


.. بايدن: يجب أن نقضي على -حماس- كما فعلنا مع -بن لادن-




.. يحيى سريع: نفذنا عملية مع المقاومة الإسلامية بالعراق ضد هدف


.. عشرات اليهود الحريديم يغلقون شارعاً في تل أبيب احتجاجاً على




.. بابا الفاتيكان يحذر من تشريع المخدرات ويصف التجار بـ-القتلة-