الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


دقة تصوير الاحداث عند على الوردي

صالح حبيب

2014 / 2 / 27
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات


في رأيي المتواضع انه وبما لا يقبل الشك فأن التدوين الأدق والاكثر حيادية وتحقيقا ودقة بالتفاصيل لتأريخ العراق الحديث على الاطلاق كان على يد عالم الاجتماع العراقي الفذ العلامة الدكتور علي الوردي. اذ هو لم يقم بتسليط الأضواء على طبيعة المجتمع العراقي والتنقيب في أعماق تأريخ الشخصية العراقية وحسب بل عمل بقلمه وادواته البحثية كما يعمل الجراح في تشريح الجسد البشري ليتتبع كل شريان فيه وكل مفصل من مفاصله ودراسة اعضائه الحيوية دراسة جدية ودقيقة.
ولقد بذل على الوردي فيها جهودا جبارة في لملمة الوقائع والاحداث الدقيقة وعلى خلفية اجتماعية وسيكولوجية عاشها الشعب العراقي منذ بدايات الاحتلال العثماني وحتى زمن قريب عاصره معظم الاحياء في زمننا الحالي.
وفي هذا العرض أحببت ان اضع اما القارئ الكريم بضعة صفحات يتحدث فيها الباحث عن الحالة التي عاشتها بغداد في ساعات هجوم الجيش الإنكليزي لاحتلالها وانسحاب الجيش التركي هاربا منها وما رافق ذلك من أوضاع قلقة تجعل القارئ يتعجب من التشابه بين الاحتلالين الإنكليزي والأمريكي.
و الذي يبحر في مؤلفات الدكتور الوردي و تحديدا في عمله الضخم و المتميز " لمحات اجتماعية من تأريخ العراق الحديث " سيعجب بالتفاصيل و الوثائق و الحيثيات التي تناولها الوردي بطريقة "النبش كما نقول باللغة العراقية الدارجة" في التأريخ والوثائق و تناول الاحداث و الحكايات حتى من افواه الأشخاص الذين عاشوا الاحداث و في ارجاء واسعة من العراق و الجزيرة العربية و ما كان يدور في دولة بني عثمان و حتى مستعمرات التاج البريطاني التي كان لها ربط في تأريخ العراق الحديث.
ان قدرة هذا الرجل اللامع على جمع هذه الثروة العلمية عن المجتمع العراقي تعتبر من اكثر الدراسات تفردا و عمقا في دراسة واقع الشعب العراقي و نفسيته و طريقة تفكيره و طرقه الحياتية
و لذا اجد ان الحفاظ على هذه الثروة الثقافية لا تقل شأنا عن الحفاظ على آثار العراق الحضارية لسومر وبابل و آشور.
والصفحات المعروضة هنا هي ابتداء من الصفحة 325 وحتى الصفحة 333 من الجزء الرابع من " لمحات اجتماعية من تأريخ العراق الحديث" هي نموذج بسيط لأعماله الخالدة.
ورغم ان معظم او جميع مؤلفات العلامة الوردي قد تم مسحها ضوئيا وهذا بحد ذاته عملا جبارا ورائعا قام به جنود مجهولون لأثراء المكتبة الالكترونية إلا ان اعماله النفيسة تلك تبقى بحاجة الى ان يتم عمل نسخ الكترونية مطبوعة منها وليست ممسوحة ضوئيا فالنسخ الممسوحة ضوئيا (Scanned) لن تكون صالحة الا للقراءة فقط!
ولكي تكون مؤلفاته أكثر تفاعلية ومرونة بالتعامل مع النص في الأرشفة والبحث عن عبارة او فقرة او مدخل من المداخل اوجب ان تكون نصوصها قابلة للبحث (Searchable) بذلك ستكون ذات فائدة عظيمة لأي قارئ او باحث او طالب علم
و عليه أوجه من خلال هذا المبر الحر الحوار المتمدن دعوة الى المنظمات و الجامعات و المؤسسات الثقافية و العلمية المهتمة بالحفاظ على الأعمال العراقية النادرة و العظيمة و هذا الإرث العظيم كأعمال الأستاذ الوردي و اعمال الكتاب و المؤرخين العراقيين ان يقوموا بإعادة طباعتها الكترونية و حفظها على شكل نسخ الكترونية محمولة قابلة للاستخدام والبحث و القراءة بالوسائل الحديثة كالحاسبات و التابلت و الهواتف الذكية مثل pdf و Doc و epub
و لتسهيل عمل ذلك اقترح على من سيعمل على ذلك ان يستخدم برامج التمييز الضوئي للرموز و التي تقوم بعملية القراءة الضوئية للنصوص المصورة OCR و هذا ما فعلته بالنسبة للصفحات التي اقدمها لكم هنا.
و كنموذج اترككم مع هذه الصفحات من تأريخ بغداد الحديث الذي وصفه الأستاذ على الوردي بدقة عجيبة متناهية عبر صفحات مجلداته السبعة لمحات من تأريخ العراق الحديث
و هذا جانب من جوانب الاحداث التي صورها الوردي و التي تتعلق بالفترة المحصورة بين احتلالين
" التقدم نحو بغداد
في 27 شباط 7ا9ا كانت القوات الانكليزية قد وصلت الى العزيزية، فأبرق مود الى القيادة العليا بلندن يقول ان الاتراك انهكتهم الهزيمة وهو يطلب الاذن لانتهاز الفرصة والتقدم نحو بغداد لاحتلالها
فكان جواب القيادة العليا ان من الاسلم له أن ينتظر حتى يصل الروس الى مقربة من بغداد فرد عليها مود، وردت هي عليه، انه يريد التقدم نحو بغداد، وهي تخشى أن يصيب مود ما أصاب سلفه طاوزند. وظلت البرقيات تغدو وتروح بين العراق ودلهي ولندن حول هذا الموضوع وبذلك ضاعت بضعة ايام ثمينة ثم وصل الامر اخيرا في السماح لمود بان يفعل ما يراه صالحا على شرط ان يكون حذرا فلا يبالغ في الاندفاع
تحركت القوات الانكليزية من العزيزية في 5 آذار، فوصلت الى جسر ديالى في 7 منه. وفي الساعات الاولى من صباح اليوم التالي حاولت القوات الانكليزية نصب جسر على ديالى فلم تنجح لان الاتراك كانوا قد أحسوا بها فسلطوا عليها نيرانا شديدة بمساعدة نور القمر. وقد أعادت القوات الانكليزية محاولتها للعبور في الليلة الثانية، وكان نجاحها ضئيلا اذ لم يتمكن من عبور ديالى سوى مائة جندي، ولكن هؤلاء الجنود صمدوا في مواضعهم وصدوا الهجمات العنيفة التي قام بها الاتراك عليهم وفي الساعة الثالثة والنصف من صباح 10 آذار قامت القوات الانكليزية بمحاولة ثالثة للعبور. وفي ظهر ذلك اليوم تم نصب الجسر على ديالى، وانسحب الاتراك الى خط كرارة - تل محمد. كان يوم 10 آذار شديد النحس على بغداد، ففي الساعة التاسعة من صباح ذلك اليوم هبت ريح جنوبية هوجاء مليئة بالغبار، وظلت تشتد ساعة بعد ساعة حتى صار مجال الرؤية بعد الظهر لا يزيد على خمسين ياردة. وفي الوقت نفسه كانت طلائع القوات الانكليزية تطبق على بغداد من كلا الجانيين، اذ هي وصلت من الجانب الشرقي الى مقربة من تلم محمد، ومن الجانب الغربي الى مقربة من أم الطبول.
كان القواد الاتراك يومذاك مجتمعين برئاسة خليل باشا في كشك من الخشب قرب جسر الخر الواقع الى الغرب من بغداد، وكان معهم بعض الضباط الالمان. وعند الغروب عقدوا مؤتمرا عسكريا للمداولة في الخطة التي يواجهون بها تقدم القوات الانكليزية، وسرعان ما ظهر خلاف في الراي بينهم اذ انقسموا الى فريقين، فكان فريق منهم وعلى رأسه خليل باشا يرى وجوب الصمود في بغداد والدفاع عنها لما لهذه المدينة التاريخية من اهمية معنوية وصيت ذائع، وكان الفريق الآخر وعلى راسه كاظم بك قائد الفيلق الثامن عشر يرى ضرورة الانسحاب من بغداد عاجلا. قبل ان تتمكن القوات الانكليزية من تطويقهم فيها فيخسروا عندئذٍ الخيط والعصفور معاً وقد احتدم النقاش ين الفريقين، فقال خليل باشا ان الربح المعنوي يستحق ان يضحى في سبيله ببضعة آلاف جندي، وكان رد كاظم بك عليه: ان الاعتبارات العسكرية في هذا الامر أهم من الاعتبارات المعنوية
وفي الساعة الثامنة مساءا خرج خليل باشا من المؤتمر لمدة عشر دقاق حيث اختلى مع رئيس أركان حربه في غرفة مجاورة، ثم عاد ليعلن أنه وافق على الانسحاب من بغداد. وأسرع كاظم بك عندئذ فأوعز الى قواته بالانسحاب شمالا. بمحاذاة سكة الحديد نحو قرية المشاهدة الواقعة على بعد تسعة عشر ميلا من بغداد وفي الساعة العاشرة من تلك الليلة أرسل خليل باشا الى أنور باشا برقية جاء فيها ما يلى: لما كان العدو قد قام بهجوم دائب طوال الاشهر الثلاثة الأخيرة وبقوات وعتاد تفوق ما لدينا، وجدت الفيلق الثامن عشر في توقف عام ومعنوياته قد انهارت وشمل ذلك كل من فيه من القائد الاعلى حتى أصغر جندي، فلذلك صرت على ثقة من أن أية معركة يشنها جيش العدو كله ستؤدي الى ضياع بغداد صباح الغد والى الاستيلاء على كل ما لجيشنا من مدافع ورغبة مني في تحطيم الاجراء المتخذ وتقوية معنوية الجيش ومعداته سأواجه الضرورة الملزمة لم وهي اخلاء بغداد.
يلاحظ القارئ في هذه البرقية أنها تتضمن اشارة غير حسنة الى كاظم بك قائد الفيلق الثامن عشر حيث يذكر خليل باشا فيها ان كاظم بك قد انهارت معنويته على نمط ما انهارت معنوية أصغر جنوده وهذا دليل على وجود شيء من النفور بين الرجلين
يمكن القول ان النفور بين خليل باشا وكاظم بك بدأ منذ ظهور بوادر الاستعدادات الانكليزية لمهاجمة جبهة الكوت، فقد كان كاظم بك كما أشرنا اليه سابقاً يلح في طلب الامداد لقواته في تلك الجبهة بينما كان خليل باشا واثقاً من مناعة الجبهة وأنها لا تحتاج الى امداد ومن الجدير بالذكر ان هذين الرجلين يختلفان في تكوين شخصيتهما اختلافا واضحاً، وقد اشار الى ذلك لورنس في تقرير له الى وزارة الحرب البريطانية على أثر مقابلته لهما في مفاوضات الكوت فخليل باشا مجامل ذو شخصية محبوبة لكنه متهور يضجر من سماع التفاصيل، بينما كاظم بك صارم حذر وذو ثقافة عالية وعندما يسود التفاهم بينهما يستطيع كاظم بك أن يستكمل الصفات التي تنقص خليل باشا، أما في حالة الخلاف فان خليل باشا يعمل برأيه وحده
ليلة ليلاء:
كانت محطة قطار بغداد في مساء 10 آذار مهددة بالخطر لاقتراب طلائع القوات الإنكليزية منها، ولهذا لم يستطع الاتراك ركوب القطار منها واضطروا الى الذهاب الى محطة قطار الكاظمية التي تقع على بعد خمسة أميال منها. وقد صارت محطة الكاظمية من جراء ذلك في هرج ومرج الى اقصى حد حيث تزاحمت فيها حشود الجنود والجرحى وصناديق الأسلحة والعتاد والطائرات، وهي كلها تنتظر التحميل في القطار بالرغم من شدة العاصفة.
وصف ضابط الركن محمد امين الذي كان في معية خليل باشا حالة المحطة في ذلك الوقت فقال:
" بعد ما وقع قائد الجيش أمر الانسحاب من مدينه بغداد التي كانت أضويتها تشاهد من بعيد من خلال ظلام الليل وغبار العاصفة، ركب سيارته كأنه يريد ان يتهرب من رؤية المنظر، وذهب الى مقره بالكاظمية.
وذهنا جميعا معه، فلما وصلنا اليها كانت العاصفة مازالت ترمينا بلفحات الغبار، ولم تعطنا أية راحة حتى في خيامنا ويبدو ان الطبيعة كانت غاضبة علينا لذنوبنا وتريد الانتقام منا ومن الالوف الذين كانوا في جوارنا. وكان وصولنا الى المحطة في منتصف الليل تقريبا، وكان الظلام حالكاً وكل شيء في ارتباك شديد ... فخصصت عربه ركاب واحدة من ذوات الدرجة الثالثة مع عربات حمل قليلة للقيادة، بينما شحنت عربات
حمل اخرى بالأعتدة. وقد وصلتنا الاخبار آنذاك بان زورقا محملا بالأعتدة قد ترك في شاطئ الكاظمية وحين تحرك القطار بنا رأينا المحطة مليئة بالمواد والمؤن والجرحى والمرضى دون ان نفكر في خطة يمكن انقاذ تلك المواد والمرضى بها ... وكان هناك في المحطة قطار آخر يحتوي على اثنتي عشر عربة حمل وهو مستعد للتحرك بعدنا ..."
لم يكد القطار يغادر محطة الكاظمية حتى بدأت لمعات الانفجارات تظهر في افق بغداد، ذلك لان الاتراك اخذوا ينسفون مخازن الذخيرة فيها وجميع المنشآت العسكرية التي يمكن أن يستفيد العدو منها، وكان من جملة ما نسفوه محطة اللاسلكي في الجانب الغربي من بغداد وكان الالمان قد أكملوا انشاءها منذ عهد قريب للاتصال ببرلين مباشرة، كما نسفوا باب الطلسم لوجود مخزن للذخيرة فيه وهو من ابواب بغداد القديمة ويعد من كنوزها الاثرية، وقد هز نسفه مدينة بغداد هزا عنيفا وكذلك أحرق الاتراك جسر بغداد، وظلت للنار تشتعل فيه طيلة الليل والنهار التالي.
كان الشاعر المعروف خيري الهنداوي آنذاك هاربا من الاتراك ومختفياً في بيت أحد اقربائه قوى محلة المهدية، وقد وصف ما جرى في تلك الليلة بمقالة نشرها في مجلة المقتطف عام 1917، فقال: «اهتزاز في الغرفة شديد وجلبة وضوضاء ووقع أقدام كثيرة في الطريق. انتبهت مذعورا وأرسلت توا نظري نحو الطريق، وبالرغم من شدة الريح وتكاثف الظلام رأيت ثلة من الجند التركي قد اجتازت الدار يتخلف عنها اثنان يتهامسان يقول أحدهما لصاحبه: قد أخليت المدينة؟ وفي هذه الساعة يبرح قائد الشرطة والدرك بغداد قال له ذلك ومضيا يهرولان
خلف رفاقهما ... نهضت فصعدت الى الطابق الاعلى فخيل، لى أن ألسنة النار التي كنث اراها مرتفعة في الفضاء السنة اولئك الشهداء المظلومين تدعو على الظالمين بالويل والدمار ...»
وقد انتهز بعض الجنود الفرصة في تلك الليلة، فصاروا يختفون في الازقة والخانات وفي بعض البيوت فرارا من الجندية. وكانت القيادة التركية قد أصدرت الامر بإطلاق الرصاص على كل من يتخلف في الطريق من الجنود، ولكن ذلك لم لكن له سوى أثر محدود لان شدة العاصفة والظلام وسرعة الانسحاب كانت من العوامل المساعدة للجنود على الفرار.
وقد انتهز السجناء الفرصة في تلك الليلة كذلك، اذ هم لم يكادوا يسمعون بانسحاب الحكومة حتى أسرعوا الى ابواب سجوهم فحطموها ثم انطلقوا نحو الاسواق والخانات ومحلات اليهود والنصارى يكسرون
اقفالها ويعيثون فيها نهبا وتخريبا. وانضم إليهم غوغاء المدينة وضواحيها، وبذا اخذ نطاق النهب يزداد ساعة بعد ساعة.
حدثني محمود حلمي الكتبي انه كان في تلك الليلة يسكن في خان مطل على شارع الجسر القديم، فجاء الناهبون وبدأوا يحطمون باب الخان من أجل نهبه، فاضطر هو ان يصعد الى السطح مع صاحب الخان وبعض ساكنيه، وصاروا يستلون الطابوق من سياج السطح ويرمون به علي
رؤوس الناهبين، وقد استطاعوا بعد جهد جهيد أن ينقذوا أنفسهم والخان من اولئك الأشرار وشب الحريق في بعض الخانات والاسواق، وكان سبب ذلك أن بعض الناهبين اوقدوا أوراقا وخرقا للاستضاءة بها أثناء النهب ثم رموها دون أن يهتموا بإطفائها، فامتدت النار منها الى البضائع الموجودة وأخذت تتسع شيئاً فشيئاً دون أن يأتي أحد لا طفالها فلقد كان الناس ليلتئذ كأنهم في يوم الحشر، كل واحد منهم يهتم ينفسه ولا يبالي بغيره
واستمر النهب طيلة الليل، وعند الصباح استفحل النهب واتسع نطاقه لا سيما بعد ان هدأت الريح، فأخذ الكثير من الاطفال والصبيان يشاركون فيه، يقول الهنداوي: انه رأى كثيراً من البنادق الالمانية والتركية في أيدي الاطفال والصبيان وأصبحت دور الحكومة ودوائرها طعمة للغوغاء يعيثون فيها كما يشاؤون فلم يبق فيها شيء من الكراسي والمناضد والرفوف حتى الاوراق والاضبارات بعثرت ومزقت تمزيقا، كما حطمت الابواب والشبابيك لاستخراج الخشب والحديد منها وكذلك فعل الغوغاء بدكاكين باعة الكتب والقرطاسية في سوق السراي يقول محمود حلمي الكتبي: انه حين جاء الى دكانه في صباح ذلك اليوم لم يجد فيه سوى أوراق متناثرة على الارض اما الكتب والرفوف فقد نهبت كلها.
الحالة في الكاظمية:
بلدة الكاظمية هي الآن جزء من مدينة بغداد الكبرى ولكنها في ايام الحرب الاولى كانت منفصلة عن بغداد تبعد عنها بخمسة أميال، وكان عدد سكانها يبلغ الخمسة عشر ألفاً تقريباً
وصلت الى أحد شواطىء الكاظمية في عصر 10 آذار جنيبة نهرية مملوءة بالعتاد والبنادق، واراد القائمقام ان يستعين بأهل الكاظمية لنقل ما في الجنبية الى محطة القطار، فخرج المنادي الحاج هادي الخوجة ينادي في الاسواق يناشد الاهالي باسم الحمية والاسلام ان يهبوا لمساعدة الحكومة في نقل اسلحتها الى المحطة: ايها الناس هذه دولتكم التي ربتكم، وهي الآن في شدة، وأنتم أهل الهمة والحمية ولم يكد الناس يسمعون هذا النداء المؤثر حتى أسرعوا يقفلون دكاكينهم، وذهبوا الى بيوتهم بدلا من الذهاب لمساعدة الحكومة. أدرك اهل الكاظمية ان الحكومة على وشك الانسحاب ففرحوا بذلك لأنهم سوف ينجون من مظالمها وويلاتها، ولكنهم في الوقت نفسه كانوا يخافون من غزو العشائر في حالة انسحاب الحكومة وفي فجر اليوم التالي تبين لهم ان الحكومة قد انسحبت فعلاً، وجاء دور العشائر، فهب بعض رؤساء البلدة ومغاويرها كالسيد جعفر عطيفة، والشيخ حميد الكليدار، وخليل الاسترابادي، وغيرهم فحملوا أسلحتهم وأخذوا يتجولون في أطراف البلدة لحراستها، وشاهد بعضهم نفراً من الاعراب مختبئين في بعض الدروب المؤدية الى البلدة، كأنهم كانوا طلائع غزو مقبل. فشهر اولئك عليهم السلاح وصرخوا بهم مهددين، فهربوا ...
ولما لاح نور الصباح خرج الغوغاء الى شاطي النهر لنهب الجنيبة الراسية فيه، وقد اشترك في النهب النساء والاطفال، حتى صارت البنادق تشاهد في ايدي الاطفال على نحو ما وقع في بغداد. وانثال الغوغاء بعدئذٍ على السراي والمدرسة الاميرية المجاورة له، فنهبوا ما فيهما من أثاث، وانتزعوا منهما الابواب والشبابيك، وبعثروا كل ما وجدوه في الدوائر من أوراق ومستندات
وبينما كان الغوغاء منهمكين في نهب السراي والمدرسة مرت قافلة من الاباعر المحملة وهي متجهة شمالا تريد اللحاق بالقوات التركية المنسحبة، فانهالوا عليها ينهبونها، ثم طرحوا الاباعر ارضاً وشرعوا يقطعون لحومها
بما كان لديهم من خناجر وسكاكين. وحين شاهدهم أهل البيوت القريبة خرجوا يحملون السكاكين والاطبار للمشاركة في الغنيمة ويقال ان بعضهم كانوا يقطعون لحم البعير قبل ذبحه، فكان البعير يرفس برجليه بين ايديهم للتخلص منهم ولكنه سرعان ما يموت بعد تكاثر السكاكين والخناجر و الاطبار عليه!
ومن الجدير بالذكر انه بينما كان الغوغاء مشغولين في شأنهم هذا كان آخرون من أهل الكاظمية يحملون مقادير كبير من الخبز والتمر الى الصحن لوجود يعض المتخلفين من الجنود الاتراك فيه، فقد كان هؤلاء الجنود في حالة يرثى لها من الجوع والارهاق، فهب الكاظميون لإغاثتهم، وساعدوهم بمقدار جهدهم وكان هناك جندي ألماني قد ضل طريقه فأخفاه رجل من اهل الكاظمية ثم البسه ملابس عربية وهربه الى سامراء
والملاحظ يوجه عام ان النهب في الكاظمية اقتصر مجاله على ممتلكات الحكومة فقط، فلم يقع في الكاظمية ما وقع في بغداد من نهب واسع للأسواق والخانات.
ويمكن تعليل ذلك بان الكاظمية كانت يومذاك ذات مجتمع صغير متجانس يكاد افراده يعرف بعضهم بعضا ويستحي بعضهم من بعض كأنهم عشيرة واحدة. أما بغداد فكانت على النقيض من ذلك ذات مجتمع واسع مفتوح يحتوي على الأقليات والغرباء من أنماط شتى كأنهم من عشائر مختلفة، ولهذا فان غياب السلطة كثرا ما يؤدي الى انتشار النهب والفوضى فيها.
دخول بغداد:
كان انسحاب الاتراك في مساء 10 آذار ناجحا ما اذ لم يكتشف الإنكليز امره بعد فوات الأوان. و يقال ان من أسباب ذلك خطا اقترفه مود، فقد كانت قواته الزاحفة على الجانب الشرقي من دجلة قد وصلت الكرادة الشرقية في الصباح الباكر و هي على وشك الدخول الى بغداد، و لكنه امرها بالتوقف و أوعز الى القوات التي كانت على الجانب الغربي بأن يكون ها شرف الدخول الى بغداد قبل غيرها. وحين دخلت هذه القوات الى جانب الكرخ، في الساعة التاسعة صباحا وجدت الجسر قد احرقه الاتراك فاضطرت ان تعبر النهر بواسطة القفف، وكان عملا بطيئا أدى الى ضياع بضع ساعات. وقد استغلت القوات التركية تلط الفرصة حيث استطاعت ان تبتعد عن بغداد مسافة مكنتها من لم شعثها وانقاذ بقاياها المتأخرة.
كان أول داخل الى بغداد ضابط بريطاني اسمه الكابتن كمب، وكان دخوله على سبيل الصدقة غير مقصود، فهو كان تابعا للقوات الزاحفة على الجانب الشرقي من النهر، وظل سائرا في طريقه وهو يحسب ان الجنود أمامه، فدخل بغداد وحده فوجد الشوارع مملوءة بالناس وهم يحيونه بحماس بالغ.
وبعد فترة من الزمن دخل من الباب الشرقي الجنرال طومسون الذي عُيّن حاكما عسكريا لبغداد، وهو على راس ثلة من الخيالة، فكان في استقباله هناك القنصل الامريكي والقنصل الايراني وحاخام اليهود، وعدد
من الاعيان والتجار وهم يحملون عريضة يطلبون فيها الاسراع باحتلال بغداد لإنقاذهم من عبث الغوغاء وأخذ التجار يشكون الى الجنرال طومسون من فداحة الخسائر التي اصابتهم خلال الساعات القليلة الماضية وقدروها بربع مليون باون ...
وقبيل ظهر ذلك اليوم صعد ضابط بريطاني الى سطح القلعة القريبة من باب المعظم فرفع عليه العلم البريطاني وبعد خمس واربعين دقيقة نقل العلم الى برج الساعة في ساحة القشلة لأنه أكثر ارتفاعا. وهذا العلم محفوظ الآن في كاتدرائية كانتربري بلندن.
وفي أثناء ذلك كان الجنود يتجولون في الشوارع والأسواق يطاردون الناهبين ويطلقون الرصاص فوق رؤوسهم لإرهابهم. يقول ريجارد كوك: ان اللصوص ارتعبوا عند رؤيتهم الشرطة فتركوا ما نهبوه في الطرقات فصارت الطرقات مملوءة بنفائس الاموال على انواعها، وخرج المنهوبون من دورهم يسترجعون ما نهب منهم واستغل بعض الناس الفرصة فأخذوا ينفسون عن احقادهم بالوشاية بأعدائهم الى الشرطة. "
هذا ما نقلته لكم من ذلك المجلد و لمزيد من المطالعة يرجى الرجوع الى مؤلفات الدكتور علي الوردي للاستفادة.










التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. من هم المتظاهرون في الجامعات الأمريكية دعما للفلسطينيين وما


.. شاهد ما حدث مع عارضة أزياء مشهورة بعد إيقافها من ضابط دورية




.. اجتماع تشاوري في الرياض لبحث جهود وقف الحرب في غزة| #الظهيرة


.. كيف سترد حماس على مقترح الهدنة الذي قدمته إسرائيل؟| #الظهيرة




.. إسرائيل منفتحة على مناقشة هدنة مستدامة في غزة.. هل توافق على