الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


انجازاتنا في زمن الاختلاف

سعد حميد الصباغ

2014 / 3 / 1
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات


أخشى أن اُتَهَمَ بأني سلبي النظرة اذا قلت انني أصبحت لا أؤمن أن الخلاف لايُفسد للود قضية بعد ان أفسد الخلاف للود أكثر من قضية. أدري أن البعض سيختلف معي ويقول أن الأمر منوط بمدى اخلاص المتحاوريين لمعرفة الحقيقة والخوض في أشواكها. من حيث المبدأ سأجد نفسي متفقاً معهم. ولكن, وكما انني معني بالمبدأ فانا معني أيضاً بتطبيق هذا المبدأ في واقع حافل بالصراعات ومتعدد بالولاءات ومزدحم بسوء النوايا بفعل هذا الأختلاف.
وقائع التاريخ شاهد على ان الخلاف قد أفسد ولازال الود بين المتخاصميين, وتعداه في حالات كثيرة الى حد تسفيه الآخر وتكفيره بل وتدميره اذا لزم الأمر.
يذكر فهمي هويدي في كتابه ( الاسلام والديمقراطية) حادثة رواه المبرد في ( الكامل):
أن جماعة من الخوارج لقيت عبد الله بن خباب, وكان معه مصحف دلّ على اسلامه, ولما حاوروه ورفض ان يؤيدهم في اتهام الامام علي بالشرك, قتلوه ! ... ثم حدث ان ساوموا رجلاً نصرانياً على نخلة, فقال لهم: هي لكم. لكنهم أبوا بشدة, فالرجل في ذمة الله ورسوله ورعاية حقه واجبة! وقالوا: والله ماكنا لنأخذها الا بثمن! وهو ما أدهش النصراني وأثار استغرابه حتى قال: " ما أعجب هذا. أتقتلون رجلاً مثل عبد الله بن خباب ولاتقبلون منا نخلة ؟! "

هكذا هو اذن حال العقل العربي, عقل يستخف بمبدأ الحوار ولايستسيغ حق الأختلاف. عقل فقهي لايرى الاشياء الا بمنطق الحلال والحرام أو الكفر والايمان, ومن ثم يصبح الغاء الاخرمهمة مقدسة ومطلب الهي, فيفقد العقل توازنه ويتنكر لمسؤولياته ويصبح الألغاء هو أقصر الطرق لحل مشاكل هذا العقل مع الآخرحتى ولو تمت التضحية بثوابت المنطق وحق الاختلاف التي يقررها الوجدان السليم. وفي أحسن الاحوال اذا استجاب العقل لهذا المنطق فانما يكون ذلك عن اقتناع مؤدلج يكشف عن سذاجة في فهم ثقافة الاختلاف.
ولعل في قصة واصل بن عطاء مع الخوارج شاهد اخر على عمق هذه الاشكالية. فعندما اعترضت طريقه جماعة من الخوارج وسألوه, قال لهم انه مشرك وانه يطلب اجارتهم, لأنه ادرك انه لو قال لهم انه مسلم فسيقتلوه لامحالة. فما كان منهم الا ان أجاروه ثم أخلوا سبيله بعد ان ذكرّهم بقول الله: ( وان أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم ابلغه مأمنه).
مدهش أمر هذه الاشكالية التي ترتفع بالاختلاف الى حد يدهشك قدر التسامح الذي تختزنه كما حصل مع واصل بن عطاء, لكنها تهبط الى مستوى أدنى من الحضيض فتدهشك قدرعبثيتها وهمجيتها كما حصل مع عبد الله بن خباب.

انها اشكالية لايحلها الا السيف أو الايديولوجيا ! اما واقع هذه الاشكالية فلا يختلف في شيئ عن ماضيها المتجذر في وعي الاسلاف الذين انتجوها. فلازال الكثير من الناس ينبش في ذاكرة التاريخ ويقلب صفحاته السوداء ليبحث في مسألة أو قضية يؤكد فيها ان الحق ووجهة نظره صنوان متلازمان وان ماعداه هو محض باطل.

يذكرني هذا بقول للشيخ محمد الغزالي حيث يقول بما معناه:
لازال البعض مشغولا جدا من كان أحق بالخلافة ابو بكر أم علي حتى أصبح المندوب السامي البريطاني هو الخليفة! آخرون لازالوا مشغوليين هل أن الأصح في الصلاة غسل القدمين أم مسحهما, حتى لم يبق لنا موطئ قَدَم في الشرق!

اننا قد نجد العذر لهؤلاء البسطاء من الناس لما يثيرونه من قضايا خلافية فيها من ترف العقل ومنكور القول ما لايحتمله الواقع كونهم محرومين من الوعي. ماذا عن نخبنا الثقافية التي لم تنجُ هي الاخرى من الوقوع في براثن هذه الاشكالية. فبدل ان تسعى هذه النخب في بناء ثقافة الانفتاح على الاخر وتقديم خطاب يتبنى قيم الوسطية والتسامح, راحت هذه النخب تعمل على أدلجة صراعاتها وتتفنن في استعمال لغة التخوين والاقصاء والالغاء فأصبحت هي الاخرى وقود لخلافاتها الفكرية والحزبية والايديولوجية, وأنكشف الحال عن خراب طال العقول والضمائر والارواح!

اذا كان الخلاف من طبائع الاشياء,فلسنا نطمح ان تزول خلافاتنا وتزول معها مشكلاتنا ونعيش بعدها كالملائكة! لكننا جميعا معنيين بترشيد هذا الاختلاف والارتقاء بأساليبه وآدابه بما يخدم الحقيقة. فهل نعيَّ ذلك أم ستقتصر انجازاتنا على محاربة طواحيين الهواء, ويصبح جلّ طموح عقولنا أن تقدم استقالتها!

ان منطق الأشياء يقرر ان إنجازات الأنسان شاهد على إنه حي, وإنه صديق حميم للحياة ! لكن حدة خلافاتنا تقرر إن الكثير من إنجازاتنا الان شاهد على إننا مخلصون وأوفياء للعَدم ! لم نعد في خضم هذه الاختلافات في حاجة الى وساوس ابليس ليزيغنا, فقد تكفل ابتذال الوعي وقصر النظر بذلك وزيادة, حتى صرنا نغرق بشبر من الماء!

لازالت أمامنا فرصة نستطيع من خلالها ان نُكذّب المنجميين ونقول لهم: هذه ليست نهاية التاريخ ! فرغم الجسد المنهك بالمرض, لازال فينا مواضع للعافية في أن نعود للحياة ونصنع شيئاً ننال به التقدير والاحترام.











التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الخلاف حول جزيرة الياسات.. خلاف -متجذر- أم -سحابة صيف عابرة-


.. زعيم حزب -فرنسا الأبية-: أنا قادر على تولي منصب رئيس الوزراء




.. في حفل الزفاف.. عريس يسحل عروسه في مصر! • فرانس 24 / FRANCE


.. قمة مجموعة السبع في إيطاليا تركز على مواجهة روسيا والصين ودع




.. غواصة روسية نووية ترسو بالقرب من ميناء هافانا