الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


قبور ومعاجز

احمد عبدول

2014 / 3 / 1
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


ذات يوم من ربيع العام 1984 وقد كنت حينها في الصف السادس الابتدائي انتشرت في محيط مدينتنا رواية مفادها ان احد الآليات الثقيلة (بلدوزر) أرادت ان تزيل قبرا عند الخط السريع الذي يفصل بين مدينة الغزالية والحرية وكان ان تتوقف تلك الآلية عن العمل كلما اقتربت من القبر لتزيله وهكذا تكررت المحاولات ولكن دونما جدوى , فما كان من صاحب الآلية إلا ان يولي هاربا وهو يستغيث بالله من غضبه , فمما لا شك فيه ان صاحب القبر ولي من أولياء الله أو حبيب من أحبائه.
بعد مدة وجيزة اتضح ان القبر لطفلة يعود نسبها وحسبها إلى رسول الله صلى الله عليه واله وسلم وقد توفيت في سن السادسة من العمر ودفنت في تلك المساحة الجرداء , وما هي إلا أيام قلائل حتى هرعت جموع الزائرين والحاجين والقاصدين من كل فج عميق , حيث قدم الزوار من سائر ضواحي بغداد ونواحيها إضافة الى محافظات البلاد لا سيما الجنوبية منها , ليغدو قبر الطفلة (العلوية )محط الرحال ومناخ الركاب وموطن الإعجاز .
تولّد لدي حينها شعور جامح بضرورة زيارة ذلك القبر المعجزة عن قرب لا سيما وان معاجز العلوية وكراماتها أخذت تتضاعف يوما بعد اخر فقد نطق الخرس واستعاد الصم أسماعهم والعمي أبصارهم والمعتوهون عقولهم وكامل إدراكهم .
(أبو فلاح ) جارنا صاحب السيارة (البيكب) والتي كنا نقفز إلى حوضها لنلهو ونلعب دون علمه كان قد اتفق مع نساء (الدربونة )بأن يذهب بهن الى زيارة قبر العلوية صاحبة الكرامات والمعاجز ,مما حدا بي ان اهرع إلى إليه متوسلا بأن ينتظرني حتى أعود من مدرستي فتعاطف معي ووعدني خيرا ، كانت الساعة تشير الى الرابعة عصرا عندما رجعت من المدرسة لكني تفاجأت بعدم وجود السيارة (البيكب ) داخل الدربونة عندها علمت ان أبا فلاح قد غادر بالنسوة الى حيث قبر العلوية التي سحرت معاجزها القلوب وأخذت بتلابيب النفوس , فما كان مني الا ان اذهب بمفردي الى حيث القبر, دون ان اخبر أحدا من إخوتي من غير ان أتناول شيئا من الطعام المعد لي وهكذا أخذت اقطع الطريق إلى حيث المشهد المقدس وهو عبارة عن طريق زراعي ضيق ومتعرج تتخلله الاشجار وتحيط به السواقي , بعد نصف ساعة من السير المتواصل لاحت لي جموع غفيرة وقد علتها غمامة كثيفة من الغبار , لم اصدق عيني وأنا أشاهد تلك المساحة الجرداء وقد تحولت إلى أسواق ومحال (أكشاك حديدية ) وكراجات لنقل الزائرين من مختلف محافظات القطر .
لقد رأيت الناس تضطرب كما تضطرب أمواج البحر في يوم مطير , كانت تلك الجموع تركض بين آونة واخرى وسط صيحات التهليل والتكبير والدعاء والصلاة والحوقلة والبسملة والتي تنتهي بمفردة (نطق فلان ، أبصر فلان ) حينها تتعالى الأصوات وتبلغ القلوب الحناجر , كانت جموع الصم والخرس والعمي والمعاقين موثوقة الأيدي حول قضبان ذلك القفص الحديدي ذو اللون الأخضر والموضوع على القبر , وكانت جموع الناس تلتف حول المرضى الذين كثيرا ما يضيقون ذرعا بصراخ وصخب تلك الجموع الهادرة فيفرون من وثاقهم فرار العبيد بينما تتراكض الجموع من خلفهم وهي تعتقد بحدوث أمر خارق للعادة ,لم يمر وقت طويل حتى وجدت والدتي وهي تبحث عن باقي النسوة من شدة الزحام فكان ان أخذت توبخني إلا إنني كنت مأخوذا بما يترامى إلى سمعي من أنباء المعاجز التي تجترحها العلوية ولَكم وددت ان أرى شيئا مما اسمعه، لكن تراكض الجموع وصخبهم وصراخهم وتدافعهم كان يحول بيني وبين ما يترامى اليّ ما أود سماعه .
لم يمر سوى شهر على تاريخ ظهور القبر المعجزة حتى حضر الرفاق البعثيون ببزاتهم ذات اللون الزيتوني وهم بكامل أسلحتهم وهرواتهم وقد استقدموا معهم آلياتهم الثقيلة لغرض تجريف القبر الذي أصبح ضريحا يحج إليه الزائرون من كل فج عميق وما هي إلا ساعات حتى أصبح القبر أثرا بعد عين حيث لم تتوقف آلية ولم تتعطل جرافة ولم تظهر أي معجزة اتجاه ما قام به الرفاق .
الحقيقة ان مثل تلك الواقعة التي عشت تفاصيلها كما عاشها غيري تكشف لنا عن عدة حقائق اجتماعية مهمة ورئيسية ولعل أهم تلك الحقائق ان منزلة الكثير من الأولياء والصالحين إنما تشترك في صياغتها إضافة الى ما يتبوءونه من منازل عدة عوامل يأتي في مقدمتها المجتمع ذاته , فإذا ما كان أفراد ذلك المجتمع يتمتعون بقدر عال من الثقافة فأن الصورة التي تسوق لهذا الولي أو المقرب تكون على قدر رفيع من التوازن والمعقولية من حيث صورة ومنزلة وآثار ذلك الولي ,أما إذا كان أفراد ذلك المجتمع لا يتمتعون إلا بمستويات متدنية من الوعي الديني والمعرفي فان صورة ذلك الولي أو المقرب سوف تكون على شكل معاجز وكرامات وأساطير بالجملة كما حصل مع حاله العلوية .
إذن فالمجتمع شريك أصلي وفاعل في صناعة صور الكثير من أولياء الله الصالحين .أما الأمر الثاني والذي يدخل في كثير من الأحيان في صناعة صور الأولياء أو القادة الدينين فهو العامل السياسي ولتقريب الصورة أكثر فأن ما قام به الرفاق بخصوص قبر العلوية وقد كانت هنالك حرب ضروس تستعرعلى الحدود العراقية والإيرانية , حيث كانت الأجواء العامة تتطلب المزيد من الحشد والتأييد والالتفاف حول القيادة السياسية في حربها وهي تذود عن الأمة العربية والإسلامية كما كان الإعلام الرسمي يروج, في مثل هكذا أجواء ما كان للرفاق إلا ان يقوموا بما قاموا به لكننا إذا ما تصورنا ذلك القبر وقد ظهر في تسعينيات القرن الفائت عندما كان النظام الحاكم يشعر برغبة ملحة لعودة المجتمع إلى دائرة الدين والتدين وذلك لغرض التنفيس الشعبي ,وامتصاص جانب النقمة والتذمر مما آلت اليه الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية والنفسية , لو ان قبر العلوية ظهر في ذلك الوقت لوجدنا ان ذات الرفاق الذين جرفوا القبر , قد بنوا لها بنيانا وشيدوا لها صرحا ولدعوا القاصي والداني لزيارتها والتبرك بآثارها ولشهدنا في العراق ولادة ضريح يوازي بعض الأضرحة المنتشرة هنا وهنالك .
لا شك ان القبر الذي استعرضنا حكايته كان قبرا حقيقيا لطفلة صغيرة توفيت بسبب عارض ما , إلا ان الخيال الجامح والمشحون والذي لا يريد ان يغادر مربع الخوارق والمعاجز والتي كانت تتحقق على أيدي أنبياء الله وأوليائه في موارد معينة هذا بالإضافة إلى تلك الأجواء السياسية والنفسية الضاغطة إبان الحرب العراقية الإيرانية هو الذي دفع بالأمور لان تنتهي إلى خلق هكذا أسطورة لو كتب لها البقاء لكانت أسطورة القرن بلا منازع .
ان توفر مقدار يعتد به من الوعي المجتمعي إضافة إلى تلك الأجواء النفسية المتوازنة مع وجود نظام سياسي حاكم لا يسعى إلى اختراق الخط الديني والعقائدي , كل ذلك إنما يؤدي إلى ان تكون الأفكار والممارسات والعقائد على مستوى متقدم من الاتزان والمعقولية ,أما خلاف ذلك فأننا سوف نشهد غلوا وتطرفا في ما نتبناه من أفكار وممارسات وطقوس وعقائد كما حل في حادثة العلوية (رحمها الله ) .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - مقارنة صحيحة
الوند ( 2014 / 3 / 1 - 23:27 )
في مطلع السبعينات صدر قرار بتوقيع احمد حسن البكر ( بايعاز من صدام حسين ) قانون سمي ب ( قانون منع الضوضاء ) وفيه منع مكبرات الصوت عن الملاهي والكازينوهات وكذالك الاذان وعند اقامة الموالد في البيوت والاماكن العامة بينما نرى في التسعينات بعد الهزيمة المنكرة في حرب الكويت اتجه الى البناء المساجد وحول مطار المثنى الى جامع كبير ( لم يكمل انشائه وكذلك بناء مسجد في منطقة راقية في المنصور بجانب شارع الميرات ومنح العفو عن سجناء يحفكون القراّن ..اين كل هذا من ذلك ؟! فهو يخادع الشعب واالله معا ! ..تحياتي للكاتب المحترم .

اخر الافلام

.. بالأرقام: عمليات المقاومة الإسلامية في لبنان بعد اغتيال الاح


.. عبد الجليل الشرنوبي: كلما ارتقيت درجة في سلم الإخوان، اكتشفت




.. 81-Ali-Imran


.. 82-Ali-Imran




.. 83-Ali-Imran