الحوار المتمدن
- موبايل
الموقع
الرئيسي
تاملات في الفلسفة الوسيطة : القديس أوغسطين أنموذجاً
رعد اطياف
2014 / 3 / 3الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
"قلبي قلق مضطرب حتى يستقر فيك"
تعد الفلسفة المسيحية المؤسسة الرسمية الوحيدة التي شكلت حياة العصور الوسطى وفكرها . فكان الرهبان أول من تصدى لهذه المهمة لكونهم اطلعوا على إرث الحضارة اليونانية ليسقطوا لاهوتهم المسيحي على أبرز المسائل الفلسفية ، وقد زودتهم الفلسفة اليونانية بما يكفي لرفد فلسفتهم الإسكولائية . وبهذا يمكن القول إن المادة الأولى التي انتزعوها من الفلسفة اليونانية ، ملائمة بما يكفي لتوجهاتهم اللاهوتية . ولقد وصلت الفلسفة الإسكولائية إلى مرحلة متطورة من حيث التنسيق ، والشمول في كتابات القديس توما ، أوغسطين ب " المعلم " أو " الدكتور الملائكي" (وليم كلي رايت، تاريخ الفلسفة الحديثة ، دار التنوير (ت) محمود سيد أحمد .)
" ولد القديس أوغسطين في مدينة تاغشطت( 354-430)
( سوق أهراس في الجزائر حاليا) في شمال أفريقيا لأم مسيحية أسمها القديسة مونيكا وأب وثني اسمه باتريكوس . تلقى تعليما بلاغياً عميقاً فصار بلاغياً محترفاً ناجحاً ولامعاً في روما وميلان . وفي ميلان تحول إلى المسيحية ، وسرعان مارُسّم كاهناً ثم صار أسقف في شمال أفريقيا ، وهناك عاش بقية حياته .. "(مدخل إلى الفلسفة القديمة ، أ، ه،آرمسترونغ، المركز الثقافي العربي (ت) سعيد الغانمي .)
وقبل الدخول في فلسفة أوغسطين لابد من الإشارة إلى توجهاته السابقة على إيمانه المسيحي ، إذ لم يلجأ وهو في أيام مراهقته وبدايات نضجه إلى الإيمان المسيحي والكتاب المقدس . وكذلك ينبغي التذكير من توجهاته الفلسفية السابقة على أيمانه في بدايات شبابه . ولم يستطع الانفكاك من تأثير الفلسفة على ذهنه تماماً . ولكي نعرف أهم التوجهات التي صاغت فكره لايمكننا عبور مرحلة مهمة في حياته الفكرية ألا وهي ، الديانة المانوية ، ذلك إنه كان يعتقد إن المانوية قادرة على تفسير العالم بأفضل مايمكن ، ولقد حظيت هذه الديانة في القرون الأولى من هذا العصر ، وخصوصاً في الشرق الأدنى والأوسط . والتي كانت مرتبطة بالأنظمة العرفانية الأولى . لقد انجذب أوغسطين إلى المانوية لكونها قدمت حلاً سهلاً لمشكلة الشر ، وهو حل اهتم به كثيراً في حياته اللاحقة . الأمر الذي جعله يقرأ الأفلاطونيين المحدثين ، وخصوصاً أفلوطين ، وعلى يد أفلوطين يقتنع أوغسطين أن الله روح محض ، وليس جسماً نورانياً ، ماجعله يشعر بعظيم الامتنان لأفلوطين وتأثيره اللاحق عليه ، وتخليصه من أوهام المانويين . ( مدخل إلى الفلسفة القديمة .. نفس المصدر. ) .
لقد كان أوغسطين على تمام المعرفة من تجربته الشخصية ، إنه لايمكنه رؤية الحقيقة أو يتصرف تصرفاً سليماً وهو يراها بالاعتماد على نفسه . ومن هنا يفترق عن أفلوطين ولا يمكنه الاعتماد عليه في هذه المسألة ، لكون إفلوطين حاله حال الفلاسفة الإغريق يعتقد إن الحقيقة يمكنها أن تظهر في الشخص اعتماداً على سعيه الفردي ، دون أي عون ألهي خاص . لذا كان اعتماده على هذه الرؤية بالذات على أيمان القديس بولس ، الذي تعلم منه أوغسطين : إن قدرة الكائن عاجزة مالم تجد العون من الله . ويبدو إن هذا الشعور الأيماني قد ترك أثراً بالغاً على فلسفة أوغسطين ، خصوصاً مايتعلق في مذهبه عن الخلق ، ونظرية المعرفة ، وفي مذهبه عن الحياة الخيرة ، وفي عودة النفس إلى الله (نفس المصدر).
لم يختلف أوغسطين عن باقي المسيحيين بإيمانه إن الله خلق الكون كله ، الروحي ، والمادي من العدم ، ويوضح أوغسطين إن الله لايخلق الصور الكامنة في المادة فقط ، بل حتى المادة التي تشكلها ، أي أنه خلق المادة والصورة خلقاً متزامناً ، ذلك إن المادة لايمكن تصورها بلا صورة ، إلّا إننا يمكننا التميز ذهنياً بين المادة والصورة . ويرجع أوغسطين مرةً أخرى إلى إفلوطين ليأخذ منه الفكرة الفلسفية القائلة : إن هناك مادة بالمعنى الفلسفي لإمكان قابل على تلقي الصورة في العالم الروحي (عالم الملائكة) ، إذ لا توجد الأشياء إلّا بالمقدار الذي تكون فيه صوراً مثالية في عقل الله . ومايجعل تلك الصور على هذه الدرجة من الوجود الذي تمتلكه هو عنصر الصور . وغالباً مايسمي أوغسطين صور الأشياء المخلوقة ب" الأعداد" ، وهو يتمسك برأيه القائل ، إن الكون وكل مايحتويه من مخلوقات لا يوجد نهائياً ، ولايمكنه امتلاك أي بذرة لولا أنه يتكون من وحدات منظمة ومنسجمة . وكل شيء خير عند أوغسطين ، لكونه صادر من خالق خير . والشر عن أوغسطين قوة سلبية دائماً ، وخلل ونقصان وافتقار إلى النظام .(نفس المصدر)
يوضح أوغسطين افتقار المخلوقات إلى الله بأمرين :
أولاً: إن وجود الله نابع من العجز الجذري للمخلوقات من أن تفسر وجودها ، يقول " إن الأشياء تهتف إنها مخلوقة" . فإذا كنا نفهم ماهو الشيء المخلوق ، أي ذلك الشخص النسبي المفتقر في جوهره غير الضروري ، المعتمد في وجوده على غيره ، فسوف نعلم بالضرورة إن الله هو علته .
ثانياً:" العلل البذرية" ، وحقيقة هذا المذهب هو تعديل لفكرة " المبادئ البذرية" ، التي نادي بها الرواقيون ، وحوله إفلوطين أساساً بالمعنى الأفلاطوني ، واستلمه أوغسطين بنسخته الأفلاطونية . " العلل البذرية" عند أوغسطين ، هي عبارة عن " أعداد" غرسها الله في الخلق مثل البذور ، والتي تبقى كامنة في أشياءها للتدرج في الظهور وليس دفعة واحدة ، ومن هنا لا يوجد أي سبب ثانوي مخلوق بأي قوة تكوينية حقيقية ماعدى الله .
العالم في فلسفة أوغسطين لم يتم خلقه في الزمان ، بل خُلق مع الزمان ، وقد أجاب عن السؤال التالي :" ماذا كان الله يفعل قبل أن يخلق العالم" والإجابة بالنسبة لأوغسطين كانت بسيطة ، لأنه لم يكن هناك "قبل" ، فحياة الله أزلية . كما لا يوجد أي تغير أو انتقال ، أو نقصان يتطور .
من هذا الاستدلال يمكن القول بعدم وجود الزمان ، لأن الزمان أدراك عقلي يمكننا من خلاله قياس الحركة والتغير ، والأشياء المخلوقة ، الناقصة والمتغيرة ، المفتقرة في وجودها ، وحدها من توجد في الزمان ، وقد انبثق الزمان معها إلى الوجود . فالزمان عنده ظاهرة عقلية ، وفي النفس نقيس الزمان ، لكون الزمان " امتداد النفس" ، " الماضي ذاكرة ، والمستقبل توقع، و الحاضرإنتباه ". وبناءاً على ماتقدم ، أن الحاضر هو البعد الوحيد والحقيقي قياسا إلى الأبعاد الأخرى ،منطوياً على الماضي في الذاكرة الحاضرة ، والمستقبل في التوقع الحاضر، وهذا الحاضر في جوهر غير دائم ، بل يتراجع دوماً نحو الماضي ، وعالم الزمان صيرورة هيراقليطيية ، لاوجود لكينونة فيه ولا دوام إلّلا في الله . ومن خلال ماتقدم يمكن القول ، إن أوغسطين متأثراً في صياغته لمفهوم الزمان ، بأفلوطين ، حيث يميل هذا الأخير عن العالم الخارجي ، واستبطان العالم الروحي ،الجواني ، الباطني ، والصور عنده بالتأكيد مشابهة للأفكار الألهية ، إلا أنها ليست سوى آثارمن الله .(نفس المصدر)
إن أقصى غايات المعرفة عند أوغسطين ، هي السعادة والإنسان لا يستطيع الوصول إلى هذه الغاية إلا من خلال الاتحاد مع الله ، والله وحده يمكنه إشباع هذه الرغبة ، وعلى هذا تغدو كل غايات التفكير وأهدافه منصبّة على كيفية الارتقاء العقلي إلى الله ، والاتحاد الأبدي معه . وهذه الرؤية تنسجم مع الرؤية الإفلوطينية ، على الرغم من تباين الرؤى بينهما في كيفية الطريق إلى الله . وعلى هذا يصبح كل جهد عقلي ، أو تأمل خارج نطاق هذه الغاية التي حددها أوغسطين ، ضارة لا بل باطلة ، مالم تمد يد العون للإنسان في طريقه نحو الله .(نفس المصدر)
الخاتمة
لو تأملنا مجمل فلسفة أو غسطين ، لوجدناها تعلي من شأن الأيمان على الحساب العقل ، وفي المقابل يتراجع فيما لو أثبت صحة شيء من خلال الاستدلال العقلي متعاضداً مع رؤيته الإيمانية . لقد كان للحس العرفاني ، النصيب الأكبر في منجز الفلسفة الوسيطة وخصوصاً عند القديس أوغسطين ، وهذا مايتضح في مضامين نصوصه الفلسفية ، فضلاً عن تأثره بأفلوطين ذي النزعة الأشراقية ، الذي كان خير عوناً في ما التبس على أوغسطين من المسائل التي يقف عندها عقله . وفي المقابل ظل أوغسطين لفترة معينة مصدر ألهام لفلاسفة العصور الوسطى ، وفلاسفة القرن السابع عشر من أمثال : مونتاني ، ورينيه ديكارت ، وبليز باسكال ، وكيركيغارد ، لقد استطاع أوغسطين أن يصدر القلق الوجودي لفلاسفة الوجودية ، ليمنحهم ذلك الدفق الروحي ، ويخترق قلوبهم ، وبهذا يمكن القول : إن القديس أوغسطين بما يملكه من نزعة عرفانية ، ونفس وجودي ، أمكنه أن يتصدر قائمة مثيري القلق الفكري في العالم الأوربي .
|
التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي
.. ماذا وراء استئناف الخطوط الجوية الجزائرية رحلاتها الجوية من
.. مجلس الامن يدعو في قرار جديد إلى فرض عقوبات ضد من يهدّدون ال
.. إيران تضع الخطط.. هذا موعد الضربة على إسرائيل | #رادار
.. مراسل الجزيرة: 4 شهداء بينهم طفل في قصف إسرائيلي استهدف منزل
.. محمود يزبك: نتنياهو يريد القضاء على حماس وتفريغ شمال قطاع غز