الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


العراقي والخوف

محمد لفته محل

2014 / 3 / 21
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


ينظر العراقي للخوف على انه أمر معيب يساوي الجبن، فالذي يخاف يكون موضوع سخرية واستهزاء حتى صارت صفة الخوف شتيمة للآخرين، فالعراقي يسارع دائما لنفي صفة الخوف عنه قائلا بكبرياء وقَسم (والله ما خاف بس من الله) والخوف علميا غريزة في كل إنسان وضيفتها الإحساس بالخطر والمحافظة على البقاء، وإنكار وجودها يعني التهور والاندفاع والتعرض للخطر والموت ما يعني إن الشعب العراقي كان من الممكن أن ينقرض من كثرة تعرضه للمخاطر لعدم إحساسه بالخوف! وهناك مثل آخر (اللي ما يخاف مخبل) وهو تجسيد علمي للخوف عكس الادعاء الأول المنافي للعلم، إذن لماذا هذا التناقض ما بين الرؤيتين لمفهوم الخوف عند العراقي؟ هل يعتبر الادعاء بعدم الخوف من باب الكذب كما يفسره الناس بعبارة (الچذب مو بفلوس) فنحل الأحجية بهذه السهولة؟ وهذا يعني أن هذه المشكلة نفسية، لكن التناقض يتسع كثيرا حين انتقل من القول إلى الفعل بالواقع لدرجة العجب والذهول حيث ينقلب مفهوم الخوف عكسا، وهنا تخرج المسالة من مجالها النفسي إلى الاجتماعي، فالخوف يتحول إلى احترام أو تملق كما نلاحظه في خوف الناس من المسؤول أو قائد مليشيا أو شخص ضخم الجسم أو رتبة عسكرية محاط بحماية، وكيف يكون الخوف بشكل ابتسامة ثم تحية حارة مع ثناء ومدح للشخص المهاب أو قهقهة لأي طرفة بسيطة منه، ومسايرته في وجهات نظره حتى لو كانت مختلفة معه، لكن دون أن يعترف العراقي إن الذي يفعله بسبب الخوف محاولا إقناعنا العكس انه الاحترام والتقدير أو تملق لمصلحة ليس إلا، وحين يتجاوز هؤلاء الأشخاص المهابين عليه يسكت خوفا ويرد من وراء ظهورهم (لو هو صدك رجال، خل يطلع وحده على صفحة، آني وياه وحدنه، بس غير وليت مخانيث) والعراقي لا يعترف بالخوف إلا لحظة المزاح والهزل قائلا (آني في الهزيمة كالغزال) والمزاح والنكتة في التحليل النفسي تعبير عن رغبات مكبوتة محرّفة بالهزل عن هدفها الأولي، أو حين يحاول تحويل الخوف من خسارة محتومة إلى غلبة قائلا (ثلثين المرجلة الهزيمة) أو قوله (في الهزيمة غنيمة)، والعراقي يحرص على إظهار عدم الخوف أمام المرأة لأنه ما يعجبها بالرجل، ولان الخوف مقرون دائما بالمرأة، وهنا يكون الرجل كالمرأة إن أطلقت عليه صفة الخوف، ومن الصعب جدا على الرجل العراقي أن يكون بمنزلة المرأة التي هي دونية المنزلة في المجتمع العراقي، بينما الرجل يجب أن يكون شجاع ليتميز عن المرأة وليكون حاميها وقائدها في الأسرة والمجتمع؟ والخوف يقترن أيضا بالطفل وصعب كذلك تشبيه الرجل بالطفل الذي هو يعلم ابنه من الطفولة على الشجاعة ولا يكون جبان و(مخنث) لتترسخ هذه الثقافة بوعيه.
الآن سأطرح هذا التناقض ما بين قول وفعل العراقي من الخوف، وهي قضية اجتماعية بالأساس حيث الخوف بالقول جبن وشتيمة يتنزه عنها كل عراقي، أما الخوف بالفعل فهو حيلة ضد الأقوى تحت تسمية الاحترام والمصالح؟ وهنا استعين بنظرية عالم الاجتماع العراقي الدكتور (علي الوردي) حول الصراع بين البداوة والحضارة في المجتمع العراقي، لان عدم الخوف والتفاخر بالشجاعة تعتبر من القيم البدوية القائمة على مبدأ الغلبة وال(سباعية)، حيث أن الطبيعة الصحراوية التي كان يعيشها البدوي كانت محاطة بالإخطار الطبيعية كالجفاف وأخطار بشرية وحيوانية كالغزو من القبائل المجاورة والضواري الصحراوية فكانت العصبية القبلية تمنحه شعور بالقوة الجماعية في مواجهة هذه المخاطر التي تهدد عائلته وقبيلته بالموت، والإحساس بالقوة الجماعية لا يترك مجال للخوف الفردي إلا إذا انهارت عصبة الجماعة أو هزمت عندها يكون الخوف جماعيا وليس فرديا، فقوة الفرد من قوة الجماعة وخوفه من خوفها، والخوف الفردي لا يوجد إلا حين يكون الفرد خارج عصبة الجماعة، وهنا صار الخوف وصفا محصورا بالنساء والأطفال، والذي يكون حكمه الاحتقار والشتيمة لدونية المرأة والطفل في المجتمع البدوي الذي هو ذكوري أبوي، وحين انتقل البدوي إلى المدينة تغيرت ظروفه البيئية والمعيشية وأصبحت المخاطر التي تواجهه ليست طبيعية أو بشرية أو حيوانية وإنما أصبحت الحكومة الغاشمة هي التي تشكل قوة قاهرة بالقانون والسلاح وخسر الفرد أيضا العصبية القبلية التي كانت تمنحه القوة النفسية والمادية وأصبحت حياته الاجتماعية قائمة على الروابط الإنسانية غير الدموية فأصبح فردا وحيدا ضعيفا في مواجهة قوة الحكومة، فأخذت أقواله تناقض أفعاله، فهو لا يستطيع التخلي عن قيم الشجاعة البدوية التي ورثها عن أجداده ولا يستطيع تغيير الواقع الاجتماعي والبيئي الجديد الأقوى منه، الذي يجب عليه أن يتكيف معه، فصار مفهوم الخوف نظريا موروثا من الأجداد، وعمليا مكتسب من الواقع بأسماء ملطفة، وهذا هو الذي يجعل القيم البدوية التي يدعي بها تناقض الفعل الاجتماعي الحضاري.
ظهرت في السنين الثلاثة الأخيرة بعد الثورات الشعبية في الدول العربية، أوصاف على مجتمعنا من قبل أفراده، وهي وصف الشعب العراقي بالجبن! لكونه لم يثور على أوضاعه المتردية مثل تونس ومصر، وأريد أن أرد على هذا الادعاء أن عدم ثورة الشعب العراقي ضد السلطة الطائفية ليس جبنا بل لأنه منقسم اجتماعيا وهذه السلطة صعدت إلى الحكم من خلال هذا الانقسام الطائفي القومي، ولكون القمع والتعسف السياسي، والانغلاق والعزلة عن المحيط العربي والعالمي والحصار الاقتصادي أدى لتخلف مجتمعنا عن المجتمع المدني ووسائل الضغط السلمي كالاحتجاجات والمظاهرات والإضرابات والعصيانات المدنية، ثانيا أي جبن هذا الذي لا يمنع المواطن العراقي برغم التفجيرات والاغتيالات والاعتقالات من الذهاب يوميا لعمله ووظيفته، ويخرج عصرا للمقهى أو لمنتزه أو زيارة؟ ألا يجدر بالجبان أن لا يفعل كل هذه الأشياء خوفا على حياته؟ وعليه يجب أن يُرد على كل من يصف شعبنا بالجبان ويسكته، وهذا الدفاع ليس من باب انصر أخاك، لكن من منطلق تشخص حقيقي فيه نقر أن مجتمعنا متخلف اجتماعيا وهو سبب انقسامنا وتعصبنا وانغلاقنا.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. سائقة تفقد السيطرة على شاحنة وتتدلى من جسر بعد اصطدام سيارة


.. خطة إسرائيل بشأن -ممر نتساريم- تكشف عن مشروع لإعادة تشكيل غز




.. واشنطن: بدء تسليم المساعدات الإنسانية انطلاقاً من الرصيف الب


.. مراسل الجزيرة: استشهاد فلسطينيين اثنين بقصف إسرائيلي استهدف




.. وسائل إعلام إسرائيلية تناقش إرهاق وإجهاد الجنود وعودة حماس إ