الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ميزات الهوية الارثوذكسية للشعب الروسي

سيلوس العراقي

2014 / 3 / 22
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات


ان ما يميز روسيا عن غيرها من الدول ويجعلها تختلف عن دول آسيا واوربا بنفس الوقت، إن صحّ التعبير، أن الشعب الروسي ليس بالآسيوي وليس بالاوربي ، بل هو اوربي وآسيوي في نفس الوقت، ويشكل رابطا بين هذين العالمين.
حفاظ الشعب الروسي على هاتين الصفتين، ميّزه في تاريخه وفي مسيحيته وفي حياته الروحية عن غيره من الشعوب.
بكل تأكيد مثلت هذه كلها عوامل لاغنائه ، لكن الميزات والاختلافات لم تبعده من بعض التوترات في كثير من الأحيان ومن الصراعات في بعض الأحيان، مع الغرب (المتمثل بالثقافة الكنسية الرومانية خاصة والغربية عامة) ومع آسيا (المسلمة وغير المسلمة ) . وهذه الميزة الفريدة يراها البعض كلغزٍ أو معضلة خاصة بروسيا وشعبها.
تتجلى هذه المعضلة في سرّ الثقافة الروسية المسيحية ـ لكن غير الاوربية ، وفي كون روسيا تتبع النسخة (أو الطريقة) البيزنطية للارثوذكسية الشرقية ، وهذه بدورها ليست رومانية (كاثوليكية) وليست بروتستانية (إصلاحية).
صورة روسيا المسيحية الفريدة هذه ساهمت في زيادة صعوبة الكثيرين لفهم مكانة الكنيسة الروسية ودورها في تطور شعبها حيث كان لهذه الكنيسة عبر التاريخ دوراً حاسماً مميزا عن ذلك الذي للكنيسة الرومانية.
وهناك ميزة أخرى في المسيحية (الكنيسة) الروسية التي تجعلها تختلف عن غيرها من الكنائس (حتى عن الكنائس الارثوذكسية الأخرى في العالم) لا تقل أهمية من المميزات السابقة ، وهي كون الكنيسة الروسية كنيسة (الصمت) ويصف البعض الغربي أحياناً هذا الصمت بالغريب. هذا الصمت تأملي، يعبّر عن روحانية واونطولوجية خاصة بهذه الكنيسة ، يتمثل بدور الفن والايقونة والموسيقى الكنسية وفن عمارة الكنيسة في طقوسها وممارساتها اليومية كتعبير عميق عن ايمانها الذي لا يقتصر على القراءات والكتب الطقسية والكلام المكتوب الذي تتصف به غالبا الكنيسة الرومانية والبروتستانتية.
هذه الميزات في الكنيسة والمسيحية الروسية والتي تميزها بشكل حادّ عن باقي الكنائس ، جعلت منها كنيسة معزولة (بالمعنى الايجابي) محصنة ، لتميزها عن باقي العالم المسيحي . فقلما حدثت اللقاءات (إلا مؤخرا وهي قليلة) بين ممثلي هذه الكنيسة مع كنائس أخرى عبر التاريخ، وبنفس الوقت فانها كانت كنيسة مسالمة لم تُظهر أي عداء أو صراع أو تسابق مع كنائس العالم المسيحي الأخرى. واستمر حال هذه الكنيسة هكذا لغاية أواخر القرن التاسع عشر.
وأثرت الثورة البلشفية على الكنيسة الروسية كثيراً حيث جعلت منها مرجعاً سلبياً فقط ، كما أظهرت هذه الثورة عداءها الواضح وأحياناً المبالغ فيه ضد هذه الكنيسة.
عانت الكنيسة الروسية الكثير من التحديات عبر تاريخها وعبر المتغيرات السياسية في تاريخ روسيا.
وعانى المسيحيون الروس أحياناً من التوتر بين هويتهم ومواطنيتهم وقوميتهم ـ بين أن يكونوا أوفياء لمواطنيتهم وولائهم وحبهم لوطنهم ولقوميتهم وبين انتمائهم لجماعة ايمانية مسيحية محددة. الحال هذا يعتبر جزءا من الضغط أو التوتر بين الكنيسة والسلطة (الدولة). ولكن يبقى التوتر الأكثر قوة، ذلك الذي حصل بين اللينينية والمسيحية ، الذي وصل الى درجة الممارسة التعسفية ضد الارث الروحي الروسي الممتزج بوطنيته وحبه لوطنيته، انقلبت هذه الممارسات سلبياً وتدريجياً على الحكم الشيوعي السوفيتي إن لم تصبح إحدى أسباب فشله وسقوطه لاستلابه وتغريبه الشعب الروسي عن الـ (دي إن أي) الروحية والقومي الذي يتصف به هذا الشعب، ونعلم جميعا بصعوبة واستحالة استمرار تغريب أي شعب كان عن مقوّم أساسي في تكوينه ، فما بالك بالشعب الروسي الذي أصبحت ارثوذكسيته جزءا من تركيبة الشخص الروسي إن كان مؤمنا أم لا .
فحصل دائماً وإن كان بشكل مستتر (باطني وغير ظاهر) الصراع بين حرية الروح الروسية المسيحية والدولة الشمولية التي أغفلت متعمدة ، بل احتقرت إن صح التعبير، الجانب الروحي ذي الارث العميق والبعيد للشعب الروسي. ويكفي أن نرجع بالذاكرة والمشاهد التي رأيناها للشعب الروسي كرد فعل بعد سقوط الحكم الشمولي، كيف اندفع الكثير من الروس الى الكنائس والى الأديرة القديمة الروسية والى الممارسة الروحية التقليدة الروسية ، صورة تعبر بشكل ما عن تعطش وجوع الشعب لما قد تم حرمانه منه وتغريبه عنه لفترة عقود من القرن العشرين.
إن الحديث عن بدء المسيحية في روسيا تاريخياً يعود بنا الى العقود الأخيرة من الألفية الاولى للميلاد وليس أبعد من ذلك، الى عام 988 م . لكن الحدث المهم هو حوالي عام 1015م ، حيث كان للأمير فلاديمير الكييفي (من كييف) الدور الأول في تحديد هوية المسيحية في روسيا. حين قام فلاديمير بالطلب من المبشرية المرسلين المتواجدين حينها في شبه جزيرة القرم بالمجيء الى بلاده، وتم منذ حينها وضع أسس تأسيس الكنيسة الروسية، هذه الكنيسة كانت تحوي عناصر مسيحية شرقية وغربية في آن واحد في حينها الأول.
فروسيا في القرن العاشر الميلادي مثّلت الرابط الحيوي التجاري بين الغرب وآسيا، ساعدها في ذلك أنهارها، الدنيبر والفولغا والبحيرات المتعددة التي كانت الطرق التجارية المائية للتجارة العالمية حينها بين اليونان والعرب والافرنج والاسكندنافيين ودول آسيا ، الذين كانوا يتجمعون في كييف ومدن روسيا الكبرى الأخرى.
وكان جوار روسيا الذي يحيط بها يدين بديانات وايمانات مختلفة : العرب والفرس بالاسلام، الخزر باليهودية، اليونانيين بالارثوذكسية ، الافرنج والاسكندنافيين بالمسيحية اللاتينية. محيط مختلف متعدد من الديانات والقوميات والانتماءات المختلفة.
يذكر المؤرخون الكنسيون بأن الأمير فلاديمير طلب مشورة مساعديه وحكماء من شعبه ، وبعدها إختار (أو قرّر) أن يرتبط شعبه بالكنيسة الارثوذكسية الشرقية، لأنه راى فيها الملائمة بشكل أكبر لمزاج وحساسية وطبيعة الشعب الروسي.
فالتقليد المسيحي البيزنطي ليس مؤسساتياً كالكنيسة الرومانية الغربية.
كما أن التقليد البيزنطي لا يركّز كثيراً على الادارة وتحديد وضبط السلوك في كل صغيرة وكبيرة كالتقليد اللاتيني الهرمي السلطوي.
لكن التقليد البيزنطي تقليد ابتهاجي جذل يتميز بجمالية العبادة وجمالية الممارسات الروحانية ويركز على الرحمة الالهية والغفران.
ويبدو أن هذا الاختيار جعل من الروس (دائماً) في سباق فني و روحي ، حيث وجدوا في التعبير عن أفكارهم وايمانهم ومشاعرهم الروحية والدينية عن طريق الموسيقى والالحان والألوان والترتيل والتصميم الفني والمعماري وفن الايقونات اسلوباً حيوياً ، بل أكثر حيوية لهم، وليس من خلال التعبير عن طريق الكتب والتأليفات النظرية في المعتقدات. كما يبدو أن اختيار فلاديمير للمسيحية الارثوذكسية البيزنطية الشرقية كان موفقاً ومرحباً به لدى الشعب الروسي الذي تحوّل بأغلبيته الى هذا الايمان.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - والمقال مهم جدا-تحياتى لك
على عجيل منهل ( 2014 / 3 / 22 - 11:31 )

لفهم الامور فى روسيا لابد من الرجوع الى دور الكنيسه فى هذا المجال - الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ان الكنيسة الارثوذكسية -شريك طبيعي- للسلطة السياسية، في شريط بثته قناة روسيا العامة.
وقال امام البطريرك الروسي كيريل: -في اصعب الاوقات التي مر بها تاريخنا، عاد شعبنا الى جذوره، الى الديانة المسيحية والقيم الروحية. الكنيسة ملأت الفراغ الاخلاقي بسبب غياب القيم بعد انهيار -الاتحاد السوفياتي- في 1991... هناك آفاق تعاون عدة بين الكنيسة والدولة-.


2 - الدكتور علي
سيلوس العراقي ( 2014 / 3 / 22 - 13:38 )
شكرا للدكتور علي المحترم على اضافته القيمة
انها النظرة الاكثر عقلانية التي تتحلى بها الحكومة الروسية في احترامها لمشاعر مواطنيها

لو أن حكومات الاتحاد السوفيتي تحلت بهذه النظرة الانسانية
ولم تقم بالغاء الجانب المهم في تقليد الشعب الروسي الا وهو تراثه الروحي والقومي
لكان بالامكان أن يكتب التاريخ مستقبلا مختلفا كثيرا للاتحاد السوفيتي ولما شهدنا سقوطه بهذه السهولة
ان تذمر المسيحيين الروس (سابقا) والمسيحيين السوفيت عامة من انتهاك حريتهم الروحية وقمعها في كل مستوياتها ، مع انها روحية مسالمة ووطنية وتعتبر جزءا مهما من تاريخهم العظيم كانت ورقة رابحة استعملها الغرب والامريكان في زرع كراهية العالم الحر والشعوب الأخرى للشيوعية السوفيتية
تحياتي للدكتور علي عجيل


3 - الكنيسة الأورثوذكسية الروسية
ليندا كبرييل ( 2014 / 3 / 23 - 03:11 )
الكنيسة الروسية ليست طقوساً دينية فحسب
إنها مدرسة ثقافية ، حيث الممارسات التأملية الروحانية ترفع المرء إلى ذروة التواصل الإنساني، باعثة فيه الطاقة للتعبير عن أعماقه فنيا بالرسم والمرسيقى والعمارة


شكراً أستاذ سيلوس العراقي المحترم وتحية لأخينا الأستاذ علي عجيل منهل المحترم


4 - الى الاستاذة ليندا
سيلوس العراقي ( 2014 / 3 / 23 - 06:43 )
تحياتي لك
نعم اتفق تماما مع تعليقك
لموضوع المقال تتمة لاحق
، سأتطرق فيها لنشاة الكنيسة الروسية
وأسباب ثباتها على ذات النهج الاول لها
وتميزها عن غيرها من الكنائس في هذه الجوانب
ومسؤولياتها الوطنية والاخلاقية
بعد سقوط الاتحاد السوفيتي
تقديري وشكري لك استاذة ليندا المحترمة
واوقات طيبة

اخر الافلام

.. منير كشو: هل -الحريات الفردية- ضرورة للديمقراطية في العالم ا


.. -في أعماق النهر-: حين يدمر قرش ضخم باريس قبل الألعاب




.. شاهد كيف تصرفت فتاة عندما انفجر جهاز كمبيوتر معها فجأة


.. مسؤول أميركي يؤكد دعم تحرير الرهائن..ووسائل إعلام تقول إن وا




.. تحديات كبيرة تواجه الجزائر في توفير استهلاك المواطنين للمياه