الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


صور رائعة ومشرقة من تاريخ الكنيسة الروسية

سيلوس العراقي

2014 / 3 / 24
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات


ربما يعتبر من المؤكد ، أنّ من يرى المسيحية من الخارج في هيئتها ككنائس منتشرة في العالم ، لا يمكنه أن يراها واحدة موحدة متشابهة تماما. حتى وإن كانت في جوهرها واحدة. لأنه سيرى كنائس مختلفة ربما تثير لدى من يريد اطلاق الأحكام من دون حكمة وتروٍ ودراسة، بأن الاختلافات تكمن في الجوهر وليس في الشكل وأساليب التعبير التي تتغير اعتمادا على عوامل كثيرة.
حين يتم الحديث حول الكنيسة والمسيحيين، فيتم الحديث عن بشر ينتمون الى ايمان معين ـ مسيحي ، بشر ينتمون الى كنيسة (جماعة ايمان)، جماعة بشرية في مكان جغرافي محدد ، ذات ثقافة محددة ولغة محددة ، ومجتمع وتاريخ وعادات وإرث انساني وماضٍ سابق لايمانهم، لكل هذا العناصر التي تعتبر خلفية لمجموعة البشر هذه تأثيراتها، فهي تؤثر في طريقة إظهار الجماعة لايمانها والتعبير عنه بشكل مختلف اعتماداً على كل العناصر الاجتماعية والتاريخية والانتروبولوجية التي تعتبر مهمة الى جانب ايمانهم.
لكل هذه الأسباب وغيرها ليس من السهولة القول بأن المسيحيين في العالم أو كل الكنائس التي تمثلهم هي ذات وجه واحد.
ومن الأكيد ، بنفس الوقت، فهناك مسيحية واحدة، وليس هناك أكثر من مسيحية في ذاتها وجوهرها، لكن هناك شعوب وقوميات واثنيات مختلفة تنتمي بكل ارثها الى ايمان واحد ، يتم التعبير عنه بأشكال وسبل مختلفة باختلاف المحددات الانسانية المتغيرة بحسب الواقع والبيئة والظروف المختلفة والمكان التي تنوجد فيه هذه الكنائس التي تنتمي لهذه الشعوب.
اذن يمكن القول بأن هناك تباينات في أساليب ومنهجية المارسة والتعبير العملي والواقعي للمسيحية في ماضيها واليوم ومستقبلا وفي أسلوب مقاربتها لأمور المواطنين ولشؤون العالم.
وضمن هذا السياق ، من الواضح للمسيحي ، ولغير المسيحي أيضاً ، في العالم ، إن كان يعي ويلاحظ ويميز بدقة وشفافية وحيادية لهذه التباينات. وقبل كل شيء إن كان يتحلى بعلمية ونزاهة في قراءته لتاريخ الكنائس، أن يرى ويلمس فرقاً ، بل فروقات، بين المسيحية في روسيا والشرق عموما عن المسيحية في اوربا والغرب عموما، وبشكل أكثر وضوحاً في ماضي هاتين الكنيستين . ومن المنطقي أن يطرح السؤال من أين نشأت هذه الفروقات ؟
مع أننا تعرضنا الى بعض الفروقات في مقالنا السابق "ميزات الهوية الارثوذكسية للشعب الروسي"، يجب القول هنا أن تساؤلنا لا يبحث عن تحديد أي من هاتين الكنيستين أكثر أصالة أوأكثر عمقا، بل إنه محاولة لعرض السياقات والخلفيات الثقافية والمجتمعية المختلفة (وهنا سنعرض ما يتعلق بالكنيسة الروسية) في التعبير عن الايمان الجماعي الذي يظهر بأشكال مختلفة اعتمادا على المتغيرات في الرؤى والبيئة الثقافية والتاريخية .


الخلفية الدينية للشعب الروسي :
قبل دخول المسيحية الى روسيا، لم يكن يعرف الشعب الروسي الديانة اليهودية كثيراً ، بالرغم من وجود عدد قليل من يهود الشتات فيها في نهاية القرن العاشر وأوائل القرن الحادي عشر الميلادي. لكن بكل تأكيد كان هناك وجود لليهودية (إضافة الى الاسلام والمسيحية) في بعض الدول المجاورة لروسيا مثل ايران ومدن سواحل قزوين ، والخزر وبين النهرين.
ان روسيا قبل اهتدائها وتحولها الى المسيحية كانت وثنية. ولوثنية روسيا هي الأخرى بعض الميزات التي ساعدتها في تقبل المسيحية بسهولة من دون القوة ومن دون أي صراعات.
فالوثنية الروسية تتميزبعدم وجود هياكل ومزارات ضخمة للآلهة كالتي كانت لدى شعوب الشرق الاوسط واليونان والرومان. لذلك تتميز الوثنية الروسية بعدم وجود المؤسسة الدينية أو الكهنوتية المنظمة.
كانت للروس رؤى بدائية وعبادات (دينية !) تتمركز حول ظواهر وعناصر الطبيعة كالشمس والرياح والأرض والعواصف، قاموا بتكريمها كآلهة وقوى طبيعية مؤلهة تتحكم بالطبيعة والحياة. اضافة الى ذلك فكان للروس الشعور القوي بالتواصل مع الموتى ، والقيام بطقوس وجبات الغذاء الأسرارية على قبور الأجداد.
كما آمن الروس بوجود الأرواح الشريرة والأرواح الخيرة، الأرواح التي تقطن في الغابات وفي الحقول والأنهار والمنازل.

صورة المسيحية الأولى في روسيا :
1 ـ إن ما لم يتوفر لدى أكثرية شعوب اوربا المسيحية ، في زمن دخول المسيحية وتقبلها من قبل الروس، والذي ساهم كثيراً في انتشار المسيحية وبالأحرى تعاليم الانجيل بين الروس، والذي يتمثل بحقيقة في غاية الأهمية وهي أن الشعب الروسي استمع الى بشارة الانجيل بلغته ولهجته الشعبية (العامية)، كما أنهم احتفلوا بطقوسهم بلغتهم المحكية الدارجة.
ومن المعروف للجميع ، أنه في أغلب الكنائس الغربية كانت تقتصر قراءة الانجيل والطقوس الدينية باللغة اللاتينية المعتمدة من قبل الكنيسة اللاتينية، التي لم يكن يفهمها غالبية ابناء الشعب البسطاء، ولمزيد من العلم فانه لغاية ستينات القرن العشرين لم يكن مسيحيي الكنيسة اللاتينية الرومانية يسمعون الانجيل أو الطقوس بلغتهم الدارجة المحكية بل باللغة اللاتينية. وكان يتم تأدية المواعظ فقط بلغته المحكية لتعليم الشعب.
إن ميزة الاستماع الى الانجيل باللهجة المحكية في روسيا مكّنت الروس على الاستماع الى الكلمة بلغتهم. وربما من يقرأ هكذا معلومة في زمننا المعاصر لا تعني له الكثير، لكن في وقتها كانت ميزة نادرة، وكان لها أهمية كبيرة جداً في نمو الروحانية الروسية المفعمة بالفرح بشكل يختلف عن تلك التي للأجيال الاوربية الغربية ، التي ماتت ولم يحالفها الحظ في حياتها أن تسمع الكلمة بلغتها المحكية التي تفهمها وتدخل وتتغلغل في مشاعرها وقلوبها، وتمنحها الفرح وفرصة التأمل الروحي.
2 ـ ان المسيحيين الروس يشتركون ويتطابقون مع غيرهم من مسيحيي الغرب والعالم في أنهم يتبعون ذات الكتاب المقدس (لكن بلغتهم) ويعترفون بذات قانون الايمان وبالأسرار الثلاثة الرئيسية.
كما أنهم أخذوا ، مثلما قلنا سابقا ، عن الكنيسة البيزنطية طقوسها وتأثروا كثيراً بجماليتها وروعتها ، لكن لم يتبنوا الرؤية أو النظرة للكنيسة مثلما يراها البيزنطيون أو اللاتين. ففي حين ينظر أغلبية المسيحيين إن كانوا كاثوليك أو بيزنطيين اورثوذكس الى الكنيسة على ضوء الكتابات والتآليف اللاهوتية اليونانية واللاتينية. بقي الروس خارج تأثيرات التآليف والكتابات هذه ، وهذا هو الذي جعل الكنيسة الروسية الأولى تبقى على أصالة وصفاء ايمان الجماعة المسيحية الاولى، من دون الدخول في الجدالات اللاهوتية (العقيمة ) التي ملأت كتبا ومجامع وخلافات وانقسامات داخل الكنيسة الغربية والشرقية الى حد الاقتتال والانفصال والاعتداءات والحرومات التي جرت من كل طرف ضد الطرف الآخر بين البيزنطيين والرومان، بحثا عن السلطة والزعامة والنفوذ والأولوية.
يضاف الى ذلك ، موقف الروس المسيحيين من الدين والتعبير عنه ، الذي لم يكن فلسفياً مثلما كان الحال لدى الكنائس الشرقية والغربية الأخرى في حينه. فموقف الكنيسة الروسية كان بعيداً كثيراً عن البيزنطيين من ناحية الفلسفة.
كما أن موقف الكنيسة الروسية كان أقل مؤسساتياً بدرجة كبيرة عما هو الحال في المؤسسة اللاتينية في كنيسة روما والغرب.
3 ـ حافظ المسيحيون الروس على المباشرة والعفوية النقية مقارنة بالكنيستين البيزنطية والرومانية ذات الخطاب المعقد والمتفلسف كثيراً.
كما أن الرؤية العميقة في الحقائق المسيحية والتأكيد على ضرورة الحياة الجماعية في الكنيسة الروسية ، الذي كان مهملاً تقريباً في الكنيسة اللاتينية كثيراً في تلك القرون.
4 ـ بينما كانت الكنيسة الرومانية والأوربية منشغلة ومنهمكة بحروبها الصليبية وغزو الأراضي الاوربية واخضاعها الى سلطتها، كانت الكنيسة الروسية تعيش قيم الانجيل.
فكان الأمير فلاديمير يقدّم في حياته نموذجاً متقدماً لتفسير حيّ معيوش في ممارسته لايمانه المسيحي بشكل يلفت النظر ، في الوقت عينه كان الأمراء والملوك المسيحيين الغربيين ورؤساء الكنيسة الغربية ، كما يخبرنا التاريخ، منهمكين بأمور السلطة والمال والغزوات والقوة التي لا تمت بأي صلة بروح الانجيل وتعاليمه.
لأن نموذج الأمير فلاديمير نادر حتى في أيامنا هذه ، حيث عالمنا اليوم بحاجة الى زعماء ورؤساء وقادة (مسيحيين وغير مسيحيين أو ملحدين) بهذا المستوى العالي من خدمة الشعوب. أحب أن أترجم شيئا عن هذه الشخصية الروسية الرائعة والمتقدمة جداً .
كان الأمير فلاديمير قبل اهتدائه الى المسيحية مولعاً بالقتال والحروب والمعارك، لم يكن يملك السيطرة الذاتية في كبح ولعه وشهواته، ولم يكن لديه أية فكرة عمّا يكون عليه كبح الشهوات أو ماهية السيطرة على الذات.
كان في معاركه وقحاً شرساً ، جشعاً في مأكله ومشربه ، وكان لديه العديد من النساء.
وفي الحين الذي قبل فيه كلمة الانجيل والايمان وتقبله المعمودية ، تغير بشكل جذريّ في سلوكه وتصرفاته وأخلاقه وطريقة تفكيره وتعامله مع الآخرين. واكتشف بهجة وفرحاً آخر مختلف جداً في حياته، لم يكن يعرفه. فوجّه كل قوته وكل كرمه نحو مساعدة الايتام ، والفقراء والمرضى .
وموائده الكبيرة والعامرة التي كان يقيمها في قصره لكبار القوم وأثريائه ووجهائه ، بدأ يستبدلهم ، ففتح أبواب قصره ودعا المساكين والفقراء والجياع والمحتاجين والمتألمين من قسوة وشظف العيش، على موائده العامرة.
بنى بيوتاً خاصة لكبار السن والعجرة وللمعاقين.


5 ـ موقف مدهش وفريد في زمانه من مسألة الحكم بالاعدام
ان الأمير فلاديمير الذي كان يسفك الدماء في معاركه الشرسة قبل اهتدائه، تحول الى شخص آخر مختلف تماماً فأصبح يقدّس الانسان ويحترم حقه في الحياة، وأصببح هذا الحب والاحترام للانسان حافزاً له لالغاء عقوبة الحكم بالاعدام في مملكته.
كان لقرار فلاديمير هذا (الفريد من نوعه في تلك العصور) ردود فعل مختلفة ، ونخصّ بالذكر منها اندهاش (وانزعاج) الاكليروس الذين كان قد أتى بهم فلاديمير من شبه جزيرة القرم (راجع ما جاء في مقالنا السابق)، حيث أن هذا القرار كان غريباً ومستهجناً من قبل الامبراطورية البيزنطية المسيحية التي ورثت من النظام الوثني الأنظمة القاسية والوحشية للعقوبات وظلت متمسكة بها، وبالرغم من أنها أصبحت مسيحية لكنها لم تتخلى عن العقوبات البربرية ضد المجرمين والمذنبين.
وكانت نصيحة المطارين (الأساقفة) اليونان البيزنطيين للأمير فلاديمير، واستناداً للأحكام القضائية القاسية التي ظلوا متمسكين بها ضد المجرمين، بأن لا يتساهل ويتراخى تشريعيا وقضائياً ضد المجرمين وفاعلي الشر، ونصحوه بأنه على الحاكم واجب معاقبة الأشرار بقسوة وبعنف.
بينما الأمير فلاديمير لم يغير رأيه، وبقي مقتنعاً بأن أمور كالتعذيب والحكم بالاعدام لا يمكن أن يكون لها مكان ومحل في الجماعة المسيحية. وكان يؤيده في هذه الفكرة عد غفير من المسيحيين الروس. واتبع هذا المبدأ أغلب الحكام الذين أتوا من بعده.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أكبر هيكل عظمي لديناصور في العالم معروض للبيع بمزاد علني.. ب


.. لابيد يحذر نتنياهو من -حكم بالإعدام- بحق المختطفين




.. ضغوط عربية ودولية على نتنياهو وحماس للقبول بمقترحات بايدن بش


.. أردوغان يصف نتائج هيئة الإحصاء بأنها كارثة حقيقية وتهديد وجو




.. هل بإمكان ترامب الترشح للرئاسة بعد إدانته بـ34 تهمة؟