الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


نتائج وتوقعات

ليون تروتسكي

2010 / 5 / 16
الارشيف الماركسي


مقدمة
لقد تكونت مختلف الاتجاهات الإيديولوجية والتنظيمات السياسية داخل الحركة الثورية الروسية بناء على مواقفها من قضية أساسية هي قضية طابع الثورة الروسية. وقد أثارت هذه القضية خلافات حادة في الحركة الاشتراكية الديموقراطية منذ أن فرضت عليها الأحداث طابعا سياسيا. فمنذ عام 1904 إلى يومنا هذا، اتخذت هذه الخلافات شكل اتجاهين أساسيين: المنشفية والبلشفية. فكانت وجهة النظر المنشفية تقول أن ثورتنا ستكون ثورة برجوازية، أي أن نتيجتها الطبيعية ستكون انتقال الحكم إلى البرجوازية وخلق الظروف الملائمة لقيام البرلمانية البرجوازية. وكانت وجهة النظر البلشفية، بالرغم من إقرارها بحتمية الطابع البرجوازي للثورة القادمة، تعتبر أن مهمة الثورة هي إنشاء جمهورية ديموقراطية بواسطة ديكتاتورية العمال والفلاحين.
كان تحليل المنشفيك في غاية السطحية، يقتصر في جوهره على مقارنات تاريخية باهتة، ذلك الأسلوب التقليدي الذي يعتمده "المثقفون" المتحذلقون المحدودون. فلا تطور الرأسمالية الروسية الذي خلق تناقضات حادة عند قطبيه والذي حال دون أن تلعب الديموقراطية البرجوازية دورها، ولا تجربة الأحداث اللاحقة أوقف سعي المنشفيك الدؤوب وراء الديموقراطية "الصحيحة" و"الحقيقة" التي سوف تقود "الأمة" وتبني البرلمانية وتوّفر، قدر المستطاع، الظروف الديموقراطية للتطور الرأسمالي. وفي كل مكان وكل زمان، جنّدوا أنفسهم لاكتشاف آثار لتطور الديموقراطية البرجوازية؛ وحيث لم يجدوا هذه الآثار اخترعوها. فأخذوا يضخمون أهمية أية بادرة أو ظاهرة "ديموقراطية" بينما عملوا في الوقت نفسه على التقليل من أهمية قوى البروليتاريا ومن الإحتمالات المطروحة أمام مسيرتها النضالية. ولأجل تأمين الطابع البرجوازي "الشرعي" للثورة الروسية الذي زعموا أن قوانين التاريخ تتطلبه أن يكون كذلك، إلى درجة أنهم خلال الثورة ذاتها عندما لم تتوفر ديموقراطية برجوازية لقيادتها، تعهدوا بأن يقوموا هم بواجباتها ببعض النجاح.
إن ديموقراطية البرجوازية الصغيرة الخاوية من أي مضمون إيديولوجي إشتراكي، والمجردة من أي تحضير ماركسي طبقي، ما كان بإمكانها -طبعا- أن تتصرف في ظروف الثورة الروسية بشكل يختلف عن تصرف المنشفيك الذين لعبوا دور الحزب "القائد" لثورة فبراير. إن فقدان قاعدة اجتماعية جدية ترتكز إليها الديموقراطية البرجوازية أرهق المنشفيك، فسرعان ما استنفدوا طاقاتهم فطرحهم الصراع الطبقي جانبا في الشهر الثامن من الثورة.
وعلى العكس من ذلك، لم يكن البلاشفة يؤمنون بالطاقات الثورية الكامنة في الديموقراطية البرجوازية في روسيا ولا بقوتها. فمنذ البدء أقرّوا الأهمية الحاسمة للطبقة العاملة في الثورة القادمة. أما فيما يخص برنامج الثورة ذاتها، فقد اقتصر البلاشفة فيه أول الأمر على ضمان مصالح ملايين الفلاحين الذين لم يكن باستطاعة البروليتاريا أن تقوم بالثورة حتى آخرها ضدهم أو بمعزل عنهم. من هنا جاء اعترافهم الآني بالطابع الديموقراطي البرجوازي للثورة.
فيما يتعلق بتقييم قوى الثورة الداخلية وتوقعاتها، لم ينضم مؤلف هذا الكتاب في ذلك الحين أي من الإتجاهين الأساسيين السائدين داخل الحركة العمالية الروسية. وبالإمكان رسم الخطوط العريضة لموقفه في ذلك الحين على النحو التالي: إن الثورة، التي ستبدأ كثورة برجوازية فيما يخصّ مهامها الأولى، سوف تولّد صراعات طبقية عنيفة، وهي لن تحرز النصر الأخير إلاّ بعد أن ينتقل الحكم فيها إلى الطبقة الوحيدة القادرة على قيادة الجماهير المضطهدة، وهذه الطبقة هي البروليتاريا. ولمجرد أن تصبح البروليتاريا في الحكم، فإنها لن ترضى بأن تحصر نفسها ضمن البرنامج الديموقراطي فحسب، ولكنها ستجد نفسها مجبرة على تخطيه أيضا؛ وسوف تتمكن من تحقيق الثورة حتى النهاية فقط في حال تحول الثورة الروسية إلى ثورة تشمل كل البروليتاريا الأوروبية. إذ ذاك يصبح بمقدور الطبقة العاملة الروسية أن تتخطى البرنامج الديموقراطي البرجوازي للثورة بحدوده الوطنية الضيقة، فتتحول السيطرة السياسية الآنية التي تمارسها إلى ديكتاتورية اشتراكية بعيدة المدى. وإذا لم تتحرك البروليتاريا في أوروبا، فإن الثورة المضادة البرجوازية لن تطيق وجود حكومة للجماهير الكادحة في روسيا فتسير بالبلد بعيدا جدا عن جمهورية العمال والفلاحين الديموقراطية. لذا، يستحيل على البروليتاريا أن تبقى ضمن حدود الديموقراطية البرجوازية. إنها مجبرة على تبني خطط الثورة الدائمة، أي على تحطيم الحواجز التي تفصل بين برنامج الحد الأدنى وبرنامج الحد الأقصى من مطالب الحركة الإشتراكية الديموقراطية وعلى أن تلجأ إلى إصلاحات اجتماعية أكثر جذرية، وأن تسعى إلى كسب تأييد سريع ومباشر من الثورة في أوروبا الغربية. إن هذا الكتاب، الذي نحن بصدد التقديم له والذي كتب بين عامي 1904 و1906 يعرض هذا الموقف ويحلله.
خلال تمسكه بالموقف الداعي إلى الثورة الدائمة طوال خمسة عشر عاما كان لا بد للمؤلف من أن يقع في الخطأ عند تقديره للجناحين المتصارعين داخل الحركة الإشتراكية-الديموقراطية. وبما أن كلا الجناحين كان ينطلق من الثورة البرجوازية، اعتبر المؤلف أن الخلافات الموجودة بينهما ليست من العمق بحيث تؤدي إلى حدوث الانشقاق. وكان يأمل، في الوقت نفسه، أن يبرهن تطور الأحداث القادم على ضعف الديموقراطية البرجوازية الروسية وعلى عدم أهميتها من جهة، وعلى أنه يستحيل موضوعيا أن تحصر البروليتاريا نفسها ضمن حدود البرنامج الديموقراطي من جهة ثانية. وكان يظن أن هذا البرهان سوف يزيل كل مبرر لقيام خلافات بين الأجنحة.
وبسبب كون المؤلف خارج كلا الجناحين طوال فترة الهجرة، لم يتسنَّ له أن يقدر تمام التقدير أن الخلاف بين البلاشفة والمنشفيك قد أدى إلى تكتيل الثوريين الصلبين في جهة والعناصر التي تزداد انتهازيتها وضوحا ويظهر استعدادها للتكيف في جهة أخرى. فعندما اندلعت ثورة 1917، كان الحزب البلشفي قد غدا منظمة مركزية تجمع أفضل العمال المتقدمين والمثقفين الثوريين استطاعت أن تتبنى، بعد فترة من الصراع الداخلي، خططاً علنية تدعو لقيام ديكتاتورية الطبقة العاملة الإشتراكية تنسجم انسجاما كاملا مع الوضع الدولي بمجمله ومع العلاقات الطبقية في روسيا. أما الجناح المنشفيكي فكان قد نضج في ذلك الحين النضج الكافي الذي يؤهله أن يتحمل أعباء تحقيق الديموقراطية البرجوازية، كما أشرت سابقا.
إني، إذ أقدم هذه الطبعة الجديدة من كتابي للجمهور، لا أريد فقط أن أشرح المبادئ التي مكنتني، مع رفاق آخرين ظلوا سنوات عديدة خارج صفوف الحزب البلشفي، من أن نربط مصيرنا بهذا الحزب في بداية عام 1917 [24] (إن مبررا كهذا لا يكفي لإعادة طبع الكتاب)، ولكن لكي أستعيد التحليل الإجتماعي-التاريخي للقوى المحركة للثورة الروسية الذي توصلت من خلاله إلى الإستنتاج أن استلام الطبقة العاملة للسلطة السياسية يمكن ويجب أن يكون هدف الثورة الروسية، قبل أن تصبح ديكتاتورية البروليتاريا واقعا ملموسا بزمن طويل. إن مجرد استطاعتنا أن نعيد طبع هذا الكتاب الذي كتب عام 1906، والذي كانت خطوطه الرئيسية جاهزة منذ عام 1904 دون أن نجري عليه أي تعديل، إن هذا لدليل كاف على أن النظرية الماركسية ليست إلى جانب البديل الديموقراطي البرجوازي الذي يقدمه المنشفيك وإنما إلى جانب ذلك الحزب الذي حقق ديكتاتورية الطبقة العاملة تحقيقا فعليا.
إن الامتحان الأخير للنظرية هو التجربة. لذا كان الدليل القاطع على كوننا طبقنا النظرية الماركسية بشكل سليم هو أننا تنبأنا بالخطوط العريضة للأحداث التي نشارك فيها الآن وحتى بأشكال هذه المشاركة منذ ما يقارب الخمسة عشر عاما.
كملحق لهذا الكتاب، سنعيد طبع مقال نشر في مجلة "ناشي سلا فو" في 17 أكتوبر 1915 في باريس بعنوان "النضال من أجل استلام الحكم". إن لهذا المقال هدفا سجاليا، فهو نقد "لرسالة" على شكل برنامج وجهها القادة المنشفيك إلى "الرفاق في روسيا". ونخلص في هذا المقال إلى أن تطور العلاقات الطبقية خلال السنوات العشر بعد ثورة 1905 قد حطم أمل المنشفيك في إمكان قيام ديموقراطية برجوازية، وأنه من البديهي أن يرتبط مصير الثورة الروسية أكثر من ذي قبل بقضية ديكتاتورية البروليتاريا… ففي وجه الصراع الفكري الذي دار خلال السنوات العديدة السابقة، كان كل من تكلم عن "طابع المغامرة" في ثورة أكتوبر هو متحجر الرأس فارغه!
وفي معرض حديثنا عن موقف المنشفيك من الثورة، لا بد من الإشارة إلى تقهقر كاوتسكي [25] إلى موقع المنشفيك. إن كاوتسكي هذا يجد الآن في "نظريات" مارتوف ودان وتسيريتللي خير تعبير عن تعفنه النظري والسياسي. سمعنا من كاوتسكي بعد ثورة أكتوبر 1917 ما معناه: بما أن استيلاء الطبقة العاملة على الحكم يجب أن يكون مهمة تاريخية ينفذها الحزب الإشتراكي-الديموقراطي، وبما أن الحزب الشيوعي الروسي لم يدخل إلى الحكم من الباب الخاص الذي عينه له كاوتسكي وفي الوقت الذي حدده هو له، إذن يجب تسليم الجمهورية السوفييتية إلى كرنسكي وتسيرتللي وتشيرنوف ليجروا عليها التعديلات اللازمة. لابد من أن يكون نقد كاوتسكي الرجعي المتحذلق قد فاجأ هؤلاء الرفاق الذين واكبوا فترة الثورة الروسية الأولى بأعين مفتوحة وقرأوا مقالات كاوتسكي خلال العامين 1905 و1906. ففي ذلك الوقت، تمكن كاوتسكي (بتأثير من روزا لوكسمبورغ) من أن يفهم الثورة الروسية فهما عميقا وأن يعترف بأنه لا يمكنها أن تنتهي إلى جمهورية ديموقراطية- برجوازية بل إنها ستؤدي حتما إلى دكتاتورية البروليتاريا نتيجة للمستوى الذي بلغه الصراع الطبقي بمجمله في البلد نفسه، ونتيجة لوضع الرأسمالية العالمي. وكان كاوتسكي في ذلك الحين يتكلم بصراحة عن حكومة عمالية يكون الإشتراكيون-الديموقراطيون أغلبية فيها. ولم يخطر بباله قط أن يسخّر المسيرة الطبيعية للصراع الطبقي لتقلبات تركيبات سطحية في الديموقراطية السياسية.
في ذلك الحين، فهم كاوتسكي أن الثورة ستبدأ بتحريك ملايين الفلاحين والعناصر البرجوازية الصغيرة في المدن، ليس دفعة واحدة وإنما بالتدرج، فئة بعد فئة؛ فعندما يبلغ الصراع بين البروليتاريا والبرجوازية الرأسمالية ذروته تكون الجماهير الفلاحية مازالت على مستوى بدائي جدا من التطور السياسي فتمنح أصواتها للأحزاب السياسية الوسطية التي لا تعكس سوى تأخر طبقة الفلاحين وعقدها. وقد فهم كاوتسكي أيضا أن البروليتاريا، التي يدفعها منطق الثورة ذاتها إلى استلام الحكم، لن تستطيع أن تؤجل هذا العمل إلى ما لا نهاية بشكل فردي لأنها تكون بتضحيتها بنفسها قد أخلت الطريق أمام الثورة-المضادة. وإنه في حال استلام البروليتاريا الحكم، ليس عليها أن تعلق مصير الثورة على الأمزجة المتقلبة لأقل الجماهير وعيا ويقظة في أية لحظة من اللحظات، بل على العكس عليها أن تحول السلطة السياسية الموضوعة بين أيديها إلى جهاز ضخم لتوعية هذه الجماهير الفلاحية الجاهلة المتخلفة و تنظيمها. وفهم كاوتسكي أن تسمية الثورة الروسية ثورة برجوازية، وبالتالي حصر مهامها ضمن هذه الحدود، هو جهل مطبق بما يجري بالعالم. وقد اعترف عن حق، مع الماركسيين الثوريين في روسيا وبولونيا بأنه في حال استيلاء البروليتاريا الروسية على الحكم قبل أن تستولي عليها البروليتاريا الأوروبية، يتوجب عليها أن تستغل وضعها كطبقة حاكمة ليس لتسليم مواقعها بسرعة للبرجوازية ولكن لكي تقدم مساعدة قوية لثورة البروليتاريا في أوروبا والعالم بأسره. إن هذه التوقعات الأممية المليئة بروح العقيدة الماركسية لم نصل إليها ولا وصل إليها كاوتسكي بناء على التفكير بكيف سينتخب الفلاحون ولمن سيدلون بأصواتهم في انتخابات ما يسمى بالجمعية التأسيسية في نوفمبر ديسمبر عام 1917.
الآن، وبعد أن تحولت التوقعات التي تبلورت منذ خمسة عشر عاما إلى واقع ملموس، برفض كاوتسكي أن يمنح الثورة الروسية شهادة ولادة لأنه لم يجر تسجيل ولادتها في حينه في سجلات المكتب السياسي للديموقراطية البرجوازية. يا له من حدث مدهش! يا لإنحطاط الماركسية! بإمكاننا أن نقول عن حق أن تعفن "الأممية الثانية" قد عبّر عن نفسه في هذا الحكم الداعي على الثورة الروسية من قبل أكبر مفكري هذه الأممية بشكل أكثر بشاعة مما عبّر عنه التصويت إلى جانب مصاريف الحرب في 4 آب عام 1914.
لقد وضح كاوتسكي مبادئ الثورة الإجتماعية ودافع عنها خلال عقود من الزمن. أما الآن وقد أصبحت هذه المبادئ واقعا، يفرّ كاوتسكي من أمامها بذعر. إنه يخشى سلطة السوفييت الروسية. إنه يتخذ موقفا معاديا من الحركة الجبارة التي ولدتها البروليتاريا الشيوعية في ألمانيا. فكأني بكاوتسكي ذلك المدرس البائس الذي ظل خلال سنوات عديدة يصف الربيع لتلاميذته ضمن جدران غرفة الدرس المظلمة. وأخيرا وبعد أن إنتهت سني خدمته، يخرج إلى الهواء النقي فإذا به لا يتعرف إلى الربيع، فيتملكه الغضب (إلى مدى ما يمكن للغضب أن يتملك مدرسا) فيحاول أن يثبت أن الربيع ليس هو الربيع وإنما هو فوضى كبيرة في الطبيعة لأنه أتى بشكل مغاير لقوانين التاريخ الطبيعي. ولكن من حسن الحظ أن العمال لا يثقون ولا حتى بأكبر واحد من هؤلاء الأساتذة المتحذلقين، إنهم يثقون بصوت الربيع.
نحن تلامذة ماركس، الواقفين إلى جانب العمال الألمان، نتمسك بقناعاتنا أن ربيع الثورة قد أطلّ بشكل ينسجم مع قوانين الطبيعة الإجتماعية ومع قوانين النظرية الماركسية في آن واحد؛ لأن الماركسية ليست عصا مدرس تشير إلى ما وراء التاريخ، وإنما هي تحليل اجتماعي للأساليب التي تنتهجها العملية التاريخية في مسيرتها الحقيقية.
لقد تركت كلا الكتابين، كتاب عام 1906 وكتاب عام 1915، دون أن أجري عليهما أي تعديل. فقد أردت في الأصل أن أزود النص بملاحظات ترقى به إلى مستوى الأحداث، بيد أني أقلعت عن هذه الفكرة بعد مراجعتي له. فلو أني أردت الدخول في التفاصيل، لكان علي أن أضاعف حجم الكتاب وهذا ما ليس لدي الوقت لأحققه، بالإضافة إلى كون كتاب "ذي طبقتين" قليل الفائدة بالنسبة للقارئ. وأهم من ذلك أني أعتبر أن الخط الفكري في فروعه الأساسية يقترب إلى حد كبير من ظروف زمننا هذا. لذا، فإن القارئ الذي يبذل جهد التعرف الوثيق على هذا الكتاب، سوف يتسنى له بسهولة فائقة أن يضيف إلى ما يحتويه الإحصاءات والوقائع الضرورية المستنبطة من تجربة ثورتنا الحالية.

الكرملين 12 مارس 1919

ليون تروتسكي



--------------------------------------------------------------------------------

إن الثورة في روسيا قد فاجأت الجميع ما عدا الديموقراطيين-الإجتماعيين. فمنذ زمن طويل تنبأت الماركسية بحتمية الثورة الروسية التي كان لا بد من أن تنفجر نتيجة للصراع القائم بين التطور الرأسمالي وبين قوى الحكم المطلق المتحجرة. ولقد بينت الماركسية سلفا طابع الثورة القادمة. فعندما أطلقت عليها صفة الثورة البرجوازية كانت إنما تشير إلى أن الأهداف العاجلة للثورة تتلخص في توفير "الظروف الطبيعية لتطوير المجتمع البرجوازي كله".
لقد كانت الماركسية على حق، هذا أمر لا يحتاج إلى نقاش أو إثبات. إن مهمة من نوع جديد تواجه الماركسيين الآن: إنهم مطالبون بأن يكتشفوا "الإمكانات" الكامنة في الثورة التي تتولى أمامنا بواسطة تحليل تركيبها الداخلي. وكل من يحاول تشبيه ثورتنا بأحداث 1789-1793 أو أحداث 1848 إنما يقع في خطأ فادح. فلا يمكن للمقارنات التاريخية، التي تعيش عليها الليبرالية وتتغذى بها، أن تحل محل التحليل الإجتماعي.
إن الثورة الروسية تتميز بطابع فريد هو حصيلة الإتجاه الخاص الذي سار فيه التطور الإجتماعي والتاريخي عندنا، والذي يفتح أمامنا آفاقا تاريخية جديدة.

1- مميزات التطور التاريخي في روسيا
إذا ما أجرينا مقارنة بين تطور روسيا الإجتماعي وبين التطور الإجتماعي في البلدان الأوروبية الأخرى، على أساس ما يجمع بين تاريخها وتاريخ روسيا وما يميزه عنه، لأمكننا القول إن الطابع الأساسي لتطور روسيا الإجتماعي هو بدائيته وبطؤه النسبيان.
لن نتوقف عند الأسباب الطبيعية لهذه البدائية، ولكن هذه حقيقة لا يمكن الشك فيها: لقد بنيت الحياة الإجتماعية الروسية على قاعدة اقتصادية أكثر فقرا وبدائية.
تعلمنا الماركسية أن تطور قوى الإنتاج يحدد العملية الإجتماعية-التاريخية. فتكوين التجمعات الإقتصادية والطبقات والطوائف [26] ممكن فقط عندما يبلغ هذا التطور مستوى معينا. إن تمايز الطوائف والطبقات، الذي يحدده تطور تقسيم العمل وخلق وظائف اجتماعية أكثر اختصاصا، يفترض أن قسما من السكان الذين يعملون في الإنتاج المادي المباشر ينتج ما يفيض عن استهلاكه: وفقط بواسطة تملك الطبقات غير المنتجة لهذا الفائض تستطيع تلك الطبقات أن تنشأ وتتبلور. فإن تقسيم العمل بين الطبقات المنتجة نفسها ممكن فقط عندما يبلغ تطور الزراعة درجة معينة تستطيع أن تؤمن تزويد السكان غير الريفيين بالمنتوج الزراعي. لقد سبق لآدم سميث أن عرض بوضوح هذه الموضوعات الأساسية للتطور الإجتماعي.
لذلك ينتج عن ذلك أنه بالرغم من أن مرحلة "نوفغورود [27]" في تاريخنا تصادف بداية القرون الوسطى الأوروبية، فكان لابد لبطء التطور الإقتصادي الذي سببته الظروف الطبيعية-التاريخية (وضع جغرافي أقل ملائمة، سكان مبعثرون) من أن يعيق عملية التكوين الطبقي ويضفي عليها طابعا أكثر بدائية.
من الصعب أن نحدد الشكل الذي كان التطور الإجتماعي في روسيا سيتخذه لو ظل معزولا ومعروضا لتأثير النزاعات الداخلية فقط. يكفي أن نؤكد أن هذا لم يحصل. فالحياة الإجتماعية الروسية، المبنية على أساس اقتصادي داخلي معين، كانت دائما تحت تأثير، وحتى تحت ضغط، وسطها الإجتماعي-التاريخي الخارجي.
وعندما اصطدم هذا التنظيم الإجتماعي والحكومي، خلال عملية تكوينه، بتنظيمات مجاورة أخرى لعبت بدائية العلاقات الإقتصادية عند الأول والتطور المرتفع نسبيا عند الأخرى دورا حاسما في العملية التي تبحث عن هذا الإصطدام.
إن الدولة الروسية، التي نمت على قاعدة اقتصادية بدائية، دخلت في علاقات واصطرعت مع تنظيمات دولة مبنية على أساس أكثر ارتفاعا ورسوخا. فبرز احتمالان: إما أن تنهار الدولة الروسية نتيجة صراعها مع هذه التنظيمات مثلما انهارت "العشيرة الذهبية" [28] في صراعها مع دولة موسكو، وإما أن تتجاوزها في تطور العلاقات الإقتصادية وتمتصّ قدرا أكبر من الطاقات الحيوية من الذي كان بإمكانها أن تمتصه لو بقيت معزولة. إلا أن الإقتصاد الروسي كان متطورا التطور الكافي ليمنع تحقيق الإحتمال الأول. فلم تتحطم الدولة ولكنها أخذت تنموا تحت ضغط رهيب تمارسه القوى الإقتصادية.
وهكذا، فالشيء الأساسي بالأمر ليس أن روسيا كانت مطوقة بالأعداء من كل جهة. فهذا بمفرده لا يفسّر الوضع. بالتأكيد لا ينطبق هذا على أي بلد أوروبي آخر ربما باستثناء إنكلترا. في صراعها مع بعضها من أجل البقاء، اعتمدت هذه الدول على أسس اقتصادية متشابهة إلى حد ما فلم يكن تطور تنظيمات الدولة فيها عرضة لضغط خارجي قوي كالذي كانت روسيا عرضة له.
لقد استدعى الصراع ضد القبائل التترية في القرم ونوغاي بذل مجهود جبار. ولكن هذا المجهود لم يكن، طبعا، أكبر من المجهود الذي بذل خلال حرب المائة عام بين فرنسا وإنكلترا. لم يكن التتار هم الذين أجبروا روسيا القديمة على إدخال الأسلحة النارية وعلى إنشاء وحدات مقاتلة من الستريلتسي، ولم يكن التتار هم الذين أجبروها فيما بعد على تكوين سلاح الخيالة ووحدات المدفعية، إنه ضغط ليتوانيا وبولونيا والسويد.
ونتيجة لهذا الضغط الذي مارسته الدول الأوروبية، ابتلعت الدولة بشكل فوضوي قسما كبيرا من فائض الإنتاج، أي أنها كانت تعيش على حساب الطبقات المالكة التي كانت في طور التكوين فأعاقت بذلك تطورها الذي كان بطيئا في الأصل. ولكن لم يكن هذا كل ما في الأمر. فقد انقضّت الدولة على "المنتوج الضروري" للمزارع وحرمته من سبل معيشته وأجبرته على ترك الأرض التي لم يتسن له الوقت الكافي للإستقرار فيها، فعرقلت بهذا نمو عدد السكان وتطور قوى الإنتاج. وهكذا، فبقدر ما كانت الدولة تبتلع قسما هائلا من فائض الإنتاج كانت تعرقل بذلك التمايز البطيء أصلا بين الطوائف، وبمقدار ما استولت على قسم كبير من المنتوج الضروري كانت تحطم بذلك حتى تلك الأسس الإنتاجية البدائية التي تعتمد عليها.
ولكن لكي تتمكن الدولة من البقاء ومن ممارسة وظيفتها، وعلى الأخص لكي تتمكن من الإسيلاء على الحصة التي تحتاجها من المنتوج كانت بحاجة إلى تنظيم هرمي للطوائف. لهذا، بينما كانت تنسف الأسس الإقتصادية لتطورها، كانت تسعى في الوقت ذاته إلى تطوير هذه الأسس بواسطة التدابير الحكومية، وعملت كغيرها من الدول، لتحويل تطور الطوائف لصالحها. إن مليوكوف [29]، مؤرخ الثقافة الروسية، يرى أن هذا يتناقض بشكل مع تاريخ أوروبا الغربية. غير أنه لا تناقض هنا.
إن ملكيات الطوائف في القرون الوسطى التي تحولت إلى حكم مطلق برقراطي كانت شكلا من أشكال الدولة يفرض بعض المصالح والعلاقات الإجتماعية المحددة. ولكن هذا شكل من أشكال الدولة ما أن يقوم ويتحرك حتى يكتسب مصالح خاصة به (مصالح السلالة والقصر والبرقراطية…) تتصارع ليس فقط مع مصلحة الطوائف الدنيا ولكن مع مصلحة الطوائف العاليا أيضا. إن الطوائف المسيطرة، التي كانت تشكل "جدار الوسط" الذي لا غنى عنه بين جماهير الشعب وتنظيم الدولة، تمارس ضغطا على تنظيم الدولة وتجعل من نشاطها العملي التعبير العملي عن مصالحها. وفي الوقت نفسه، كانت سلطة الدولة كقوة مستقلة، تنظر إلى مصالح الطوائف العالية من وجهة نظرها هي. فقاومت مطامحها وحاولت إخضاعها لسلطتها. إن التاريخ الفعلي للعلاقات بين الدولة والطوائف كانت تسير في خطوط متعاكسة يحددها تشابك القوى.
إن عملية مشابهة في معالمها الرئيسية حدثت في روسيا.
حاولت الدولة أن تستغل المجموعات الإقتصادية النامية لكي تخضعها لمصالحها المالية والعسكرية المحددة. والمجموعات الإقتصادية المسيطرة حاولت، خلال نموها، أن تستغل الدولة لترسخ امتيازاتها على شكل امتيازات طوائف. وفي لعبة هذه القوى الإجتماعية، كانت النتيجة لصالح سلطة الدولة بقدر أكبر مما كانت عليه في أوروبا الغربية. أن تبادل الخدمات بين سلطة الدولة والفئات الإجتماعية العليا، على حساب الجماهير العاملة، الذي ينعكس في توزيع الحقوق والواجبات والأعباء والإمتيازات، كان أقل نفعا للنبلاء والإكليروس في روسيا مما كان عليه في ملكيات الطوائف في أوروبا الغربية خلال القرون الوسطى. هذا أمر لا شك فيه. ومهما يكن من أمر، فإنه من المبالغة الكبيرة والمعاكسة لحس النسبة نقول أنه بينما الطوائف خلقت الدولة في الغرب ، كانت سلطة الدولة في روسيا هي التي خلقت الطوائف لتخدم مصالحها(كما يقول مليوكوف).
إن التدبير الحكومي والقانون لا يستطيعان خلق الطوائف. فقبل ان تتخذ هذه الفئة الاجتماعية أو تلك شكل طائفة ذات امتيازات بمساعدة سلطة الدولة، لابد لها من ان تكون قد نمت اقتصاديا بجميع ما يحمل هذا النحو من امتيازات اجتماعية. لا يمكن صنع الطوائف وفق سلم من المراتب موضوع سلفا أو وفق شرائع "جوقة الشرف". إن سلطة الدولة تستطيع فقط أن تساعد، بجميع مواردها، العملية الإقتصادية الأولية التي تولد بنيات اقتصادية على مستوى أرفع. وكما أشرنا سابقا، فالدولة الروسية قد استهلكت حصة كبيرة نسبيا من طاقات الأمة معرقلة بذلك عملية التبلور الإجتماعي، ولكنها كانت بحاجة إلى هذه العملية لمصالحها الخاصة. إنه من الطبيعي، إذن، تحت تأثير وضغط محيطها الأوروبي الأكثر تبلورا، ذلك الضغط الذي انتقل خلال التنظيم العسكري للدولة، أن تسعى الدولة بدورها إلى دفع تطور التمايز الطبقي على أساس اقتصادي بدائي. وإلى جانب ذلك، فإزاء الحاجة إلى الدفع ذاتها، التي يقتضيها ضعف التكوينات الإجتماعية-الإقتصادية، كان من الطبيعي أن تحاول الدولة بوصفها حارسا، أن تستعمل سلطاتها الجبارة لتوجه تطور الطبقات العليا ذاته وفق مصالحها. ولكن في طريقها إلى تحقيق نجاح كبير في هذا الإتجاه، وجدت الدولة نفسها أولا مكبلة بضعفها وبالطابع البدائي لتنظيمها، الذي يعود إلى بدائية البنيان الإجتماعي.
وهكذا، فالدولة الروسية، التي تقوم على أساس الظروف الإقتصادية الروسية، كانت مدفوعة بضغط أخوي، أو عدائي في معظم الأحيان، من تنظيمات الدولة في البلدان المجاورة القائمة على أساس اقتصادي أكثر تطورا. وابتداء من وقت معين، وخاصة من نهاية القرن السابع عشر، بذلت الدولة أقصى جهدها لتعجيل النمو الإقتصادي الطبيعي في البلد. فألصقت فروعا جديدة من حرف، وآلية، ومصانع وصناعة كبيرة ورأس مال بشكل مصطنع على الجدع الإقتصادي الطبيعي. فبدأ وكأن الرأسمالية هي ابنة الدولة.
انطلاقا من هذا الموقف يمكننا القول إن جميع العلوم الروسية هي من إفتعال المجهود الحكومي، وأنها كلها تطعيم مزيف على الجدع الطبيعي للجهل الوطني. [30]
إن الفكر الروسي، كالفكر الإقتصادي الروسي مثلا، قد نما في ظل تأثير مباشر مارسته عليه العلوم الإقتصادية الأكثر تطورا ورقيا في الغرب. ولأن العلاقات مع البلدان الأخرى اتخذت طابع العلاقات مع الدولة، بسبب طابع الإقتصاد-الطبيعي الذي يطغى على الظروف الإقتصادية، أي النمو البطيء للتجارة الخارجية، اتخذ تأثير هذه البلدان شكل صراع عنيف للإبقاء على الدولة قبل أن يتخذ شكل التنافس الإقتصادي المباشر. إن الإقتصاد الغربي أثر على الإقتصاد الروسي بواسطة الدولة. ولكي تتمكن من البقاء على قيد الحياة في وسط بلدان معادية تفوقها سلاحا، اضطرت روسيا إلى أن تنشئ المصانع والكليات البحرية وأن تنشر الكتب المدرسية حول التحصين إلى آخره. ولكن لو لم تكن المسيرة العامة للاقتصاد الداخلي لهذا البلد الكبير لتسير في هذا الإتجاه نفسه، ولو أن تطور الأوضاع الإقتصادية لم يخلق الحاجة إلى العلم العام والتطبيقي، لكانت جميع مجهودات الدولة ذهبت هباء. فالاقتصاد الوطني، الذي كان طبعا يتطور من الإقتصاد الطبيعي إلى الإقتصاد المالي-البضاعي، كان يستجيب فقط لتلك الإجراءات الحكومية التي تلائم تطوره وفقط إلى مدى ما تتلاءم مع هذا التطور. إن تاريخ الصناعة الروسية ونظام روسيا المالي والتسليف الحكومي هي أفضل قرائن لدَعم هذا الرأي.
يقول البروفيسور فيديلاييف:
"إن غالبية فروع الصناعة(صناعة المعادن والسكر والنفط والتقطير وحتى صناعة النسيج) قد ولدت نتيجة التأثير المباشر للتدابير الحكومية، وفي بعض الأحيان حتى بمساعدة التعويضات الحكومية، خاصة لأن الحكومة كانت تتبع دوما سياسة الحماية بشكل واع. فخلال حكم القيصر الكسندر، أدرجت الحكومة هذه السياسة صراحة في برنامجها… إن الأوساط الحكومية العليا، التي وافقت كليا على تطبيق مبادئ الحماية في روسيا، قد برهنت على أنها أكثر تقدما من طبقاتنا المثقفة جميعها".
(د. منديلاييف: نحو معرفة روسيا، سان بطرسبرغ -1906- ص84).
إن هذا المداحة المفوّة للحماية الصناعية ينسى أن يضيف أن سياسة الحكومة لم يكن يمليها أي اهتمام بتطوير القوى الصناعية، وإنما تمليها فقط الإعتبارات المالية، والإعتبارات العسكرية التقنية بشكل جزئي. لهذا السبب، كانت سياسة الحماية تتعرض ليس فقط مع المصالح الأساسية للإنماء الصناعي بل مع المصالح الخاصة لمجموعات رجال الأعمال المختلفة. وهكذا فقط أعلن أصحاب محالج القطن جهارا أن "الضرائب المرتفعة على القطن يجري الإحتفاظ بها ليس لغاية تشجيع زراعة القطن وإنما من أجل مصالح ضرائبية ليس إلا". ومثلما كانت الحكومة في اتباعها سياسة "خلق" الطوائف تحقق أهداف الدولة، كذلك كان همها الأساسي في "زرع" التصنيع هو خدمة متطلبات خزينة الدولة. ولا شك في أن الحكم الفردي قد لعب دورا ليس صغيرا في نقل نظام المصانع الإنتاجي إلى الأرض الروسية.
عندما بدأ المجتمع البرجوازي النامي يشعر بحاجة إلى المؤسسات السياسية في الغرب أثبت الحكم المطلق على أنه مسلح بجبروت الدول الأوروبية المادي. فقد كان يعتمد على آلة برقراطية مركزية لا تفقد بشيء في إنشاء علاقات جديدة، ولكنها بارعة في توليد زخم كبير لتنفيذ حملات قمع منتظمة. فحل التلغراف مشكلة المساحات الشاسعة في البلد الأمر الذي منح الإدارة شعورا بالثقة بالعمل الذي تقوم به وأضفى على إجراءاتها السرعة والإنسجام النسبي (في قضية حملات القمع). وقد فتحت سكة الحديد إمكانية نقل القوات العسكرية بسرعة من طرف البلد إلى الطرف الآخر. إن حكومات ما قبل الحقبة الثورية في أوروبا لم تكن تعرف سكك الحديد أو التلغراف. كان الجيش الموضوع تحت تصرف الحكم المطلق جبارا، وإذا كان قد أثبت عن فشله في امتحانات جديدة كالحرب اليابانية، فقد بقي فعالا لتحقيق السيطرة الداخلية. ليس فقط حكومة فرنسا قبل الثورة العظمى ولكن حكومتها عام 1848 لم تكن تملك جيشا كالذي تملكه روسيا الآن.
بينما الحكومة تستغل البلد إلى أبعد حد بواسطة آلتها الضرائبية الأمريكية والعسكرية استطاعت أن ترفع موازنتها السنوية إلى رقم ضخم يبلغ ملياري روبل. باستنادها إلى جيشها وموازناتها. حول الحكم الفردي البورصة الأوروبية إلى خزينة له. هكذا أصبح دافع الضرائب الروسي رافدا تافها لهذه البورصة الأوروبية.
وهكذا، في الفترة بين 1880 و1890 تصدرت الحكومة الروسية للعالم بوصفها منظمة عسكرية - برقراطية وأميرية - مالية جبارة لا تقهر.
إن جبروت الملكية المطلقة المالي والعسكري لم يقتحم وعي البرجوازية الأوروبية فحسب بل الليبرالية الروسية كذلك ففقدت هذه ايمانها بإمكان امتحان حظها في مبارزة علنية مع الحكم المطلق. فبدأ وكأن جبروت الحكم المطلق العسكري والمالي قد قضى على أي فرصة لقيام الثورة الروسية.
ولكن، تأكد في الواقع أن العكس صحيح.
فكلما قويت مركزية الحكومة وازدادت استقلالا عن المجتمع، كلما اقتربت من أن تغدو منظمة أوتقراطية تقف فوق المجتمع. وكلما عظمت قواها المالية والعسكرية كلما طال نضالها من أجل البقاء وتضاعفت إمكانات نجاحه. إن الدولة المركزية بموازنتها التي تبلغ ملياري روبل ودينها الذي يبلغ ثمانية مليارات روبل وجيشها الذي يبلغ بضعة ملايين من الرجال تحت السلاح، تستطيع أن تستمر في البقاء بعد أن تكون قد توقفت عن تلبية الحاجات الأولية للنمو الإجتماعي - ليس مجرد حاجات الإدارة الداخلية ولكن حتى مقتضيات الحماية العسكرية الذي تكونت هذه الدولة في الأصل لتوفيرها.
وكلما طال هذا الوضع، كلما قوي التناقض بين الحاجة إلى الإنماء الإقتصادي والثقافي وبين سياسة الحكومة الذي تكون قد ولّدت طاقاتها "المتعددة الاتجاهات". وبعد انقضاء حقبة "الترقيعات الإصلاحية الكبيرة"، التي لم تتمكن من حل التناقضات بل على العكس أبرزتها لأول مرة بشكل صارخ، أصبح من الصعب جدا ومن المستحيل نفسيا أن تسلك الحكومة باختيارها طريق البرلمانية. فكان المخرج الوحيد من هذه التناقضات، كما يشير وضعها للمجتمع، هو في تجميع القدر الكافي من البخار في مرجل الحكم المطلق حتى ينفجر.
وهكذا، فإن قوى الحكم المطلق الإدارية والعسكرية والمالية، الذي يستطيع بفضلها أن يبقى بالرغم من التطور الإجتماعي، لم تستبعد إمكانية قيام الثورة كما هو رأي الليبراليين فحسب، بل على العكس جعلت من الثورة المخرج الوحيد. وعلاوة عن ذلك، فقد أمنت للثورة سلفا طابعا جذريا كل الجذرية بقدر ما يخلق الحكم المطلق، بجبروته، هوة بينه وبين الأمة. من حق الماركسية الروسية أن تكون فخورة لكونها المذهب الوحيد الذي فسّر اتجاه هذا التطور وتكهن بأشكاله العامة [31] في حين كان الليبراليون يحشون عقولهم بأكثر أنواع "التجريبية" مثالية، و"الشعبيون" الثوريون يعيشون على البدع المستحيلة وعلى الإيمان بالعجائب.
إن التطور الإجتماعي السابق بمجمله قد جعل الثورة حتمية. إذن فماذا كانت قوى هذه الثورة؟



--------------------------------------------------------------------------------

2- المدن ورأس المال
إن روسيا المدن من صنع التاريخ الحديث، وبشكل أدق أنها من صنع بضعة العقود الأخيرة من الزمن. ففي نهاية عهد بطرس الأول، في الربع الأول من القرن الثامن عشر كان عدد سكان المدن لا يزيد كثيرا عن 328.000 أي 3% من مجموع عدد سكان البلد. وفي نهاية القرن نفسه، بلغ 1.301.000 أي ما يقارب 4.1% من مجموع عدد السكان. وبمجيء عام 1812، كان عدد سكان المدن قد بلغ 1.653.000 أي ما يعادل 4.4% من المجموع. وفي منتصف القرن التاسع عشر لم يكن يزيد عن 3.482.000 أي 7.8% من المجموع. وأخيرا يذكر الإحصاء الأخير (عام 1897) أن عدد سكان المدن يبلغ 16.289.000 أي ما يقارب 13% من مجموع السكان. [32]
إذا اعتبرنا أن المدينة تشكيلة اجتماعية-اقتصادية وليست مجرد وحدة إدارية، كان لا بد لنا من الإقرار بأن الأرقام المذكورة أعلاه لا تعطي صورة واضحة عن تطور المدن: فقد منحت الدولة الروسية في تاريخها براءات لمدن أو سحبتها منها لأغراض بعيدة كل البعد عن الهدف العلمي. وبالرغم من ذلك، فإن هذه الأرقام تبين بشكل واضح عدم أهمية المدن في روسيا قبل "عهد الإصلاح" وانتفاضها المرضي السريع خلال العقد الأخير. ويقدر ميخايلوفسكي أن ازدياد عدد السكان في المدن ما بين عام 1885 وعام 1887 كان بنسبة 33.8%، أي بما يزيد عن ضعف نسبة زيادة عدد سكان روسيا ككل (15.25%)، وبما يقارب ثلاثة أضعاف نسبة زيادة عدد سكان الريف (12.7%) وإذا أضفنا إلى هذا كله القرى الصناعية والقرى الصغيرة، يتجلى النمو السريع لسكان المدن (أي سكان المناطق غير الزراعية) بوضوح تام.
إلا أن مدن روسيا الحديثة لا تختلف عن المدن القديمة بعدد سكانها فحسب، ولكن في طبيعتها الإجتماعية أيضا: إنها مراكز الحياة التجارية والصناعية. إن غالبية مدننا القديمة كانت بالكاد تلعب دورا اقتصاديا لأنها كانت مراكز إدارية أو قلاعا عسكرية يعمل سكانها في مختلف وظائف الدولة ويعيشون على حساب بيت المال، وكانت بشكل عام مركزا إداريا أو عسكريا أو مركزا لجباية الضرائب.
وعندما كان الأهالي من غير الموظفين يستقرون في مشارف المدينة أو في ضواحيها لحمايتها من الأعداء، لم يعقهم ذلك عن الاستمرار بأعمالهم الزراعية السابقة. وحتى موسكو، أكبر مدينة في روسيا القديمة لم تكن، على حد تعبير مليوكوف، سوى "عزبة ملكية يرتبط قسم هام من سكانها بالقصر، بشكل أو بآخر، إما كأعضاء في الحاشية وإما كحرس أو خدم. ويقول إحصاء عام 1701 أنه من بين 16.000 عائلة كانت تسكنها، كان هنالك 7000 عائلة (44%) من المستوطنين أو الحرفيين وحتى هذه العوائل كانت تسكن الضواحي التابعة للدولة وتعمل لحساب القصر. أما الـ 9000 عائلة الأخرى، فكان 1500 عائلة منها من الكهنة والبقية من الطبقة الحاكمة". وهكذا، فالمدن الروسية، شأنها شأن المدن تحت الحكم الآسيوي المطلق، وعلى عكس المدن الحرفية والتجارية في أوروبا إبان القرون الوسطى، كانت تلعب دور المستهلك ليس إلا. وفي الفترة ذاتها، نجحت مدن الغرب في أن تفرض مبدأ عدم السماح للحرفي بالسكن في القرية، إلاّ أن مدن روسيا لم تسعَ مطلقا نحو مثل هذه الأهداف. أين، إذن -كانت المانيفاتورة؟ وأين كانت الحرف؟ لقد كانت في الريف ملحقة بالزراعة.
إن المستوى الإقتصادي المنخفض ومصاريف الدولة الباهظة كانا عقبة أمام أي تراكم للثروة أو تقسيم اجتماعي للعمل. وكان الصيف القصير، إذا ما قيس بالصيف في الغرب، يفسح المجال أمام فترة أطول من الراحة الشتوية. بسبب هذه العوامل، لم تنفصل صناعة المانيفاتورة عن الزراعة ولم تتجمع في المدن ولكنها بقيت في الريف كوظيفة فرعية بالنسبة للزراعة. وعندما بدأت الصناعة الرأسمالية تتسع في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، لم تكن الحرف في المدن عقبات في طريقها ولكن الحرف القروية إلى حد بعيد. ويقول مليوكوف: "مقابل ما لا يزيد عن مليون ونصف المليون من العمال الصناعيين في روسيا، يوجد ما لا يقل عن أربعة ملايين فلاح يشتغلون بصناعات منزلية في قراهم بينما يواصلون أشغالهم الزراعية في الوقت نفسه. هذه هي الطبقة ذاتها… التي قامت عليها المصانع الأوروبية، إلاّ أنها لم تساهم بأي شكل من الأشكال… في تشييد مصانع روسيا".
وطبعا، أدى تزايد عدد السكان فيما بعد وارتفاع إنتاجيتهم إلى خلق قاعدة يقوم عليها التقسيم الإجتماعي للعمل. وكان طبيعياً أن يسري ذلك على الحرف في المدن أيضا. وكنتيجة للضغط الإقتصادي الذي تمارسه البلدان المتقدمة، استولت الصناعة الرأسمالية الكبيرة على القاعدة بحيث لم تجد الحرف في المدن الوقت الكافي لكي تنمو وتتطور.
كانت الملايين الأربعة من الحرفيين هي العنصر ذاته الذي شكل في أوروبا نواة سكان المدن الذين دخلوا "التعاونيات الحرفية" كمعلمين أو مياومين ثم وجدوا أنفسهم بالتالي يطردون خارج هذه التعاونيات الحرفية شيئا فشيئا. وطبقة الحرفيين ذاتها هي الطبقة التي كانت تشكل غالبية سكان أكثر أحياء باريس ثورية إبان الثورة الفرنسية العظمى. إن هذه الحقيقة وحدها -عدم أهمية الحرف في المدن الروسية- كان لها تأثير هام على ثورتنا [33].
إن السمة الإقتصادية الرئيسية للمدينة الحديثة هي أنها تستعمل المواد الخام التي تأتي من الريف. لذا كانت المواصلات ذات أهمية مصيرية بالنسبة لها. إن إنشاء الخط الحديدي فقط هو الذي يوسع مصادر تموين المدن بحيث يجعل من الممكن تجمع جماهير غفيرة من الناس فيها. وقد نتجت الضرورة لتجميع السكان عن نمو الصناعة الكبيرة. إن نواة السكان في المدينة الحديثة، على الأقل في المدينة لها بعض الأهمية الإقتصادية والسياسية، هي طبقة العمال المأجورين التي تتميز بوضوح عن سائر الطبقات. إن هذه الطبقة، التي لم تكن متبلورة خلال الثورة الفرنسية العظمى، هي الطبقة المؤهلة للعب الدور الحاسم في ثورتنا.
إن النظام الصناعي لا يدفع البروليتاريا إلى الصفوف الأمامية فحسب، بل يعزل الديموقراطية البرجوازية أيضا. ففي ثورات سابقة اعتمدت هذه الأخيرة على البرجوازية الصغيرة في المدن من حرفيين وأصحاب حوانيت صغار إلى آخره.
إن سببا آخر للدور السياسي الكبير الذي تلعبه البروليتاريا الروسية مما لا يتناسب مع حجمها، هو كون رأس المال الروسي ذا أصل أجنبي في معظمه. يقول كاوتسكي أن هذا السبب قد أدى إلى زيادة عدد أفراد البروليتاريا وإلى مضاعفة قوتها وتأثيرها بسرعة تفوق سرعة نمو البرجوازية الليبرالية.
وكما قلنا سابقا، فإن الرأسمالية في روسيا لم تنبثق عن نظام الحرف. فقد اجتاحت روسيا حاملة ثقافة أوروبا الإقتصادية كلها وراءها لا يقف لينافسها غير حرفي القرية الذي لا حول له ولا قوة، أو حرفي المدينة البائس، وكان الفلاحون المفقرون المستودع الذي يمدها بطاقات العمل. ولقد ساهم الحكم المطلق بطرق شتى بتكبيل البلد بقيود الرأسمالية.
ففي الدرجة الأولى، حول الحكم المطلق الفلاح الروسي إلى رافد من روافد البورصات في العالم. إن افتقار البلد لرأس المال وحاجة الحكومة الدائمة إليه خلقا أرضا خصبة للقروض الأجنبية المرابية. منذ أيام حكم كاترينا الثانية حتى وزارة "ويتي" و"دورنوفو"، كان أصحاب المصارف في أمستردام ولندن وبرلين وباريس يسعون بدأب إلى تحويل الحكم الفردي إلى مجازفة ضخمة من مجازفات البورصة. فلم يكن بالإمكان التمييز بين ما يسمى بالقروض الداخلية، أي قروض مؤسسات التسليف الوطنية، وبين القروض الأجنبية لأنها كانت جميعا بين أيدي الرأسماليين الأجانب. إن الحكم المطلق، بإفقاره الفلاحين وتحويلهم إلى بروليتاريا تحت وطأة الضرائب المرتفعة، كان يصرف الملايين التي تأتيه من بورصات العالم على إنشاء الجيوش والبارجات الحربية وعلى بناء السجون وخطوط السكك الحديدية. فكان القسم الأكبر من هذه المصاريف غير منتج البتة من الناحية الإقتصادية. وكان قسم كبير من الدخول القومي يرسل إلى الخارج على شكل فائدة تزيد في ثراء الأرستقراطية المالية في أوروبا وتقويها. إلاّ أن البرجوازية المالية في أوروبا، التي ازداد نفوذها السياسي بشكل مضطرد في الدول البرلمانية خلال العشر سنوات الأخيرة والتي أبعدت الرأسماليين الصناعيين إلى الصفوف الأخيرة، إن هذه البرجوازية حولت الحكومة القيصرية إلى ذيل لها فعلا، بيد أنها لم تصبح جزءا من المعارضة البرجوازية داخل روسيا ولا هي حاولت أن تكونه. ففي عطفها أو كرهها، كانت تسير على هدى المبادئ التي صاغها أصحاب المصاريف الهولنديون "هوب وشركاه" في شروط القرض الذي قدموه للقيصر بول عام 1798، إذ قالوا: "تدفع الفائدة مهما تكن الظروف السياسية" كان للبورصة الأوروبية مصلحة مباشرة في الإبقاء على الحكم المطلق لأن ما من حكومة أخرى تضمن لها مصالحها المرابية. غير أن قروض الدولة لم تكن الوسيلة الوحيدة التي تسلل من خلالها رأس المال الأوروبي إلى روسيا. إن المال ذاته، الذي كان يستنفد دفعه قسما هاما من موازنة الدولة الروسية، كان يعود إلى روسيا على شكل رأس مال تجاري وصناعي تجذبه ثروة البلد الطبيعية غير المستثمرة خاصة قوة العمل غير المنظمة والتي لم تكن في ذلك الحين قد اعتادت على المقاومة. لذلك كانت الفترة الأخيرة من البحبوحة الصناعية التي عمت روسيا بين 1893 وعام 1899 أيضا فترة هجرة مكثفة لرأس المال الأوروبي. وهكذا فإن رأس المال الذي بقي، مثل ذي قبل، أوروبيا إلى حد بعيد والذي اكتسب قوته السياسية في برلمانات فرنسا وبلجيكا، هو رأس المال الذي كتّل الطبقة العاملة الروسية.
وبعد أن وضع رأس المال الأوروبي هذا البلد المتخلف في قيود العبودية الإقتصادية، لجأ إلى تقسيم فروع إنتاجه الرئيسية وطرق مواصلاته على سلسلة كاملة من المراحل التقنية والاقتصادية الوسيطة كالتي اضطر إلى المرور فيها في بلاده الأصلية. ولكنه بتضاؤل عدد الحواجز التي واجهها في طريق سيطرته الإقتصادية، تقلص الدور الذي لعبه على الصعيد السياسي.
انبثقت البرجوازية الأوروبية من "الطائفة الدنيا" Third estate في القرون الوسطى. وقد رفعت مستوى الإحتجاج على القرصنة والعنف اللذين تمارسهما الطبقتان الأخريان باسم مصالح الشعب الذي كانت تطمح هي إلى استغلاله. اعتمدت أنظمة الحكم الملكية - الطبقية في القرون الوسطى، خلال عملية تحويل نفسها إلى أنظمة برقراطية مطلقة، على سكان المدن في صراعها ضد ادعاءات الكهنة والنبلاء. ولقد استغلت البرجوازية هذا الصراع لأجل تقوية مركزها السياسي. وهكذا، فقد نما الحكم البرقراطي المطلق والطبقة الرأسمالية في آن واحد؛ وعندما تصارعا عام 1789، برهنت البرجوازية على أنها تحظى بتأييد الأمة بأسرها.
أما في روسيا، فقد نما الحكم المطلق في ظل الضغط المباشر الذي مارسته الدول الغربية. فنقل عنها أساليب حكمها وأشكال إدارتها قبل أن تسمح الظروف الإقتصادية بنشوء برجوازية رأسمالية. فكان هذا الحكم المطلق يملك تحت تصرفه جيشا نظاميا كبيرا وآلة برقراطية ومالية ضخمة. وكان قد استدان مبالغ طائلة من أصحاب المصارف في أوروبا في زمن كانت مدن روسيا ما تزال على هامش الحياة الإقتصادية.
وقد تسلل رأس المال من الغرب بمساعدة الحكم المطلق المباشرة، وحول عددا من المدن القديمة إلى مراكز تجارية وصناعية، إلى درجة أنه أنشأ، خلال فترة وجيزة من الزمن، مدنا تجارية وصناعية في أماكن لم تكن مأهولة من قبل. وقد ظهر رأس المال هذا في كثير من الأحيان على شكل شركات مساهمة كبيرة. وخلال فترة السنوات العشر من البحبوحة الصناعية بين 1893 و1902، ازدادت قيمة رأس المال المساهم بمليوني روبل، بينما كانت قد ازدادت في الفترة بين عام 1854 وعام 1892 بمبلغ 900.000 روبل فقط. فوجدت البروليتاريا نفسها فجأة وقد تجمعت في جماهير غفيرة لا تفصلها عن الحكم المطلق سوى طبقة برجوازية رأسمالية قليلة العدد، معزولة عن "الشعب" نصفها أجنبي، وتفتقر إلى التقاليد التاريخية، يدفعها محرّك واحد هو شهوة الربح.


--------------------------------------------------------------------------------

3- 1789- 1848- 1905
التاريخ لا يعيد نفسه. ومهما بالغنا في تشبيه الثورة الروسية بالثورة الفرنسية العظمى، لا يمكن تحويل الثورة الأولى إلى تكرار الثورة الثانية. إن القرن التاسع عشر لم يمرّ بدون سبب.
إن عام 1848 يختلف كثيراً عن عام 1789. وعند مقارنة الثورتين البروسية والنمساوية بالثورة الفرنسية العظمى، نتفاجأ بكونهما مرتا مرورا عابرا. فمن جهة حدثت هاتان الثورتان قبل أوانهما، ومن جهة أخرى حدثتا بعد فوات الأوان. إن ذلك المجهود الجبار الذي يحتاجه المجتمع البرجوازي ليصفي حساباته بشكل جذري مع أسياد الأمس يتوفر إما بقوة الأمة بأسرها عندما تنتفض ضد تحكم الإقطاع، وإما بتبلور صراع طبقي عنيف داخل هذه الأمة السائرة في طريق التحرر. ففي الحالة الأولى، كما حدث بين 1789- 1793، استنفدت كل الحيوية الوطنية، التي ضغطتها مقاومة النظام القديم لها، خلال الصراع ضد الرجعية. أما في الحالة الثانية، التي لم تحدث بعد في التاريخ والتي نعالجها هنا بوصفها احتمالا ليس إلا، فإن الحيوية الفعلية المطلوبة لقهر قوى التاريخ المظلمة تولدها داخل الأمة البرجوازية حرب طبقية "تزرع الدمار في كلا الجهتين". إن الصراع الداخلي العنيف، الذي يمتص القدر الأكبر من حيوية البرجوازية ويحرمها من لعب الدور الرئيسي، يدفع نقيضها -البروليتاريا- إلى المقدمة ويلخص لها تجربة عشرة أعوام بشهر واحد ويوليها القيادة ويسلمها زمام الحكم. هذه الطبقة المصمّمة التي لا تعرف التردد تغير مجرى الأحداث تغييرا كاملا.
يمكن تحقيق الثورة إما عندما تكون الأمة قد جمعت نفسها متحفزة للانقضاض كالأسد، وإما عندما تنقسم الأمة على بعضها انقساما نهائيا خلال الصراع، مخولة بذلك أفضل فئة فيها لتنفيذ المهام التي فشلت الأمة في تنفيذها. هاتان هما المجموعتان المتعارضتان من الشروط التاريخية اللتان تتعارضان منطقيا فقط بشكلهما النقي.

والطريق الوسط بينهما، كما في حالات عديدة، هو أسوأ الطرق؛ ولكن هذا الطريق الوسط هو الذي ظهر عام 1848.
في الحقبة البطولية من التاريخ الفرنسي، نجد طبقة برجوازية متنورة ونشيطة لم تع بعد تناقضات وضعها ألقى التاريخ على عاتقها بمهمة قيادة النضال من أجل تحقيق نظام جديد ليس ضد مؤسسات فرنسا البالية فحسب ولكن ضد القوى الرجعية في أوروبا أيضا. وكانت البرجوازية دائما، وبجميع فصائلها، تعتبر نفسها قائدة الأمة فكانت تعبئ الجماهير للنضال وتطرح لها الشعارات وتملي عليها خطط الصراع التكتيكية. فصهرت الديموقراطية الأمة بعضها ببعض بواسطة إيديولوجية سياسية. وكان الشعب - البرجوازية الصغيرة في المدن، الفلاحون والعمال- ينتخب البرجوازيين نوابا عنه، وكانت التوصيات التي يقدمها الناخبون إلى هؤلاء النواب مكتوبة بلغة البرجوازية التي أخذت تعي مهمتها الرسلية. وخلال الثورة، وبالرغم من بروز التناقضات الطبقية، كانت القوة الدافعة للنضال الثوري تقذف باستمرار بالعناصر الأكثر محافظة من البرجوازية خارج الطريق السياسي. ولم تقذف فئة خارجا إلا بعد أن تكون قد حوّلت طاقتها إلى الفئة التي خلفتها. فاستمرت الأمة ككل، إذن، في النضال من أجل أهدافها بأساليب أعنف وأكثر تصميما. وعندما انفصلت الفئات العليا من البرجوازية من البورجوازيةالثرية من المجموعة القوميةالتي كانت اخدة بالتحرك ، وتحالفت مع لويس السادس عشر، أصبحت مطالب الأمة الديمقراطية موجهة ضد البورجوازية الأمر الذي أدّى إلى اكتساب حق الانتخاب للجميع وقيام الجمهورية بوصفها الشكل المنطقي والحتمي للديموقراطية.
كانت الثورة الفرنسية العظمى بالتأكيد ثورة قومية. وما هو أكثر من ذلك، وجد نضال البرجوازية الدولي من أجل السيطرة والقوة والانفراد بالنصر التعبير التقليدي عنه ضمن الإطار القومي.
لقد غدت اليعقوبية كلمة لوم على شفاه جميع المتحذلقين الليبراليين. إن حقد البرجوازية على الثورة والجماهير وعلى قوة وعظمة التاريخ الذي يصنع في الشارع قد تجمع كله في صرخة استنكار وهلع واحدة: اليعقوبية! نحن، جيش البروليتاريا العالمي، قمنا بعملية تصفية حسابات تاريخية مع اليعقوبية منذ زمن طويل. إن كل الحركة البروليتارية العالمية المعاصرة قد تكونت وقويت من خلال النضال ضد تقاليد اليعقوبية. لقد تعرضنا لنظرياتها بالنقد، وفضحنا لفظتها ورفضنا تقاليدها التي كانت تعتبر، خلال عقود من الزمن، إرثا ثوريا مقدسا.
إلا أننا ندافع عن اليعقوبية ضد الليبرالية المريضة المتقاعسة وضد تجريحها وشتائمها السافلة. لقد خانت البرجوازية بشكل مخز جميع تقاليد شبابها التاريخي ويقوم عملائها الحاليون بتلويث قبور أسلافها. يهزأون من رماد المثل التي دافع هؤلاء عنها. إن البروليتاريا قد أخذت على عاتقها أن تحمي شرف ماضي البرجوازية الثوري. إن البروليتاريا، مهما بلغ عمق انفصالها العملي عن تقاليد البرجوازية الثورية، سوف تحافظ عليها كإرث مقدس من العواطف النبيلة والبطولة والإقدام وقلبها يخفق بعطف على خطب وأعمال "المؤتمر اليعقوبي".
ما هو الذي أضفى على الليبرالية جاذبيتها إن لم يكن تقاليد الثورة الفرنسية العظمى؟ وفي أي فترة أخرى ارتفعت الديموقراطية البرجوازية إلى ذلك الشأن وأضرمت شعلة بهذا الإتقاد في قلوب الشعب كما فعلت خلال مرحلة الديموقراطية اليعقوبية الإرهابية بقيادة روبسبيير و"المعدمين" [34]) les sans culottes) عام 1793؟
مَن غير اليعقوبية مكّن الراديكالية الفرنسية وما زال يمكنها، على مختلف اتجاهاتها، من أن تبقى على غالبية الشعب الساحقة، بما فيها البروليتاريا، تحت نفوذها في زمن ختمت فيه البرجوازية الراديكالية في ألمانيا والنمسا تاريخها القصير بالأعمال الوضيعة والعار؟
وأي شيء غير سحق اليعقوبية، بأيديولوجيتها السياسية المجردة وبطقس "الجمهورية المقدسة" وببياناتها المظفرة، ما يزال في يومنا هذا تغذي الراديكاليين والراديكاليين - الإشتراكيين في فرنسا أمثال كليمنصو وميلران وبورجوا وغيرهم من السياسيين الذين يعرفون كيف يدافعون عن مرتكزات المجتمع البرجوازي بطريقة ليس بأسوأ من الطريقة التي كان يتبعها "اليونكر" خلال عهد وليام الثاني الحاكم بنعمة الله؟ إن الديموقراطيين البرجوازيين في البلدان الأخرى ينظرون إليهم بعين الحسد ولكنهم من ذلك ينهمرون بالشتائم على اليعقوبية البطلة التي كانت مصدر مركزهم هذا.
حتى بعد أن تحطمت الآمال العديدة ظلت اليعقوبية تقليدا في ذاكرة الشعب. ولمدة طويلة ظلت البروليتاريا تتكلم عن مستقبلها بلغة الأمس. ففي عام 1840 أي بعد نيف ونصف قرن على قيام حكومة "الجبل"، وقبل أيام يونيو 1848 بمثابة أعوام زار "هاين" [35]عدة معامل في "فوبرسان-مارسو" ليطلع على ماذا يقرأه العمال "اسلم قطاع من قطاعات الطبقات الدنيا". فكتب في جريدة ألمانية يقول: "وجدت هناك عدة خطب جديدة لروبيسبيير العجوز وكذلك منشورات لمارا صادرة في طبعات تباع النسخة منها بقرشين، ووجدت كتاب كابيه، تاريخ الثورة وبعض أهاجي كارمينين القاتلة وجميع مؤلفات بيوناروتي وأخيرا كتاب تعاليم بابوف ومؤامراته، كلها مؤلفات ترشح بالدم…" ويتنبأ الشاعر: " بأن إحدى ثمار هذه البذرة سيكون عاجلا أم آجلا خطر قيام جمهورية في فرنسا".
في عام 1848 كانت البرجوازية قد أثبتت عن عجزها عن لعب دور ذي قيمة. فهي لم تحاول ولم تتمكن من تصفية النظام الإجتماعي الذي يعترض طريقها إلى الحكم تصفية ثورية. إننا نعرف الآن لماذا كان الأمر كذلك. كان هدفها أن تدخل إلى النظام القديم الضمانات الضرورية ليس لتحقيق سيطرتها السياسية وإنما لمجرد أن تتقاسم السلطة مع قوى الأمس. وكانت تعي هذا الهدف الوعي التام. فكانت تلك مسلكية حقيرة تخللت تجربة البرجوازية الفرنسية الفاسدة بسبب خياناتها والخائفة بسبب فشلها. فهي لم تفشل في قيادة الجماهير لتقويض النظام القديم فحسب، ولكنها دعمت أيضا هذا النظام لكي تمنع الجماهير الملحاحة من التقدم.
لقد نجحت البرجوازية الفرنسية في أن تفجر ثورتها العظيمة. فكان وعيها هو وعي المجتمع، ولم يكن بالإمكان لأي شيء أن يتحول إلى مؤسسة إلا بعد أن يمر في وعيها على شكل هدف، على شكل مشكلة خلق سياسي. وغالبا ما لجأت إلى الوقفات المسرحية لكي تخفي عن نفسها ضيق حدود عالمها البرجوازي، ولكنها كانت تسير إلى الأمام.
وعلى العكس من ذلك، فالبرجوازية الألمانية لم تصنع "الثورة" بادئ بدء بل تبرأت منها. لقد تمرّد وعيها على الظروف الموضوعية التي تؤهل لها السيطرة. فلم يكن بالإمكان تحقيق الثورة بواسطتها وإنما ضدها. فعوضا عن أن تبدو المؤسسات الديموقراطية لها هدفا تناضل من أجله بدت خطرا يهدد مصالحها.
في عام 1848، ظهرت الحاجة إلى طبقة تستطيع أن تتولى الأمور بمعزل عن البرجوازية وبالرغم عنها، طبقة لا تكون مستعدة لدفع البرجوازية إلى الأمام بواسطة ضغطها فحسب ولكنها ترمي إلى التخلص من جثة البرجوازية السياسية عندما يحين الأوان. ولم يكن بإمكان البرجوازية الصغيرة في المدن ولا الفلاحون أن يحققوا ذلك .
فقد كانت البرجوازية الصغيرة في المدن معادية ليس فقط للأمس، ولكن للغد كذلك. لكونها مازالت مرتبطة بالعلاقات المتبقية من القرون الوسطى ولكنها عاجزة عن الصمود في وجه "الصناعة الحرة"، ولكونها ما تزال تؤثر على المدن ولكنها تخلي الطريق أمام البرجوازية المتوسطة والكبيرة، ولكونها مفرقة في حساسياتها يصم آذانها ضجيج الأحداث، ولكونها مستغَلة ومستغِلة، جشعة ومستسلمة في جشعها ظلت البرجوازية الصغيرة في ورطتها. فلم تتمكن من السيطرة على أحداث الساعة العاصفة.
أما الفلاحون فقد كانوا أكثر حرمانا من المبادرة السياسية المستقلة. ولكونهم مستعبدين خلال قرون من الزمن ومدقعي الفقر وغاضبين يجمون جميع خيوط الإستغلال قديمه وحديثه كان الفلاحون في فترة معينة مصدرا غنيا من مصادر الطاقة الثورية، ولكن لكونهم بدون تنظيم ولكونهم مبعثرين ومعزولين عن المدن، عصب الحياة السياسية والثقافية، ولكونهم أغبياء ومحصورين في آفاقهم ضمن حدود قراهم، وغير مبالين بكل ما تفكر به المدينة، لم يكن باستطاعة الفلاحين أن يكون لهم أية قيمة كقوة قائدة. فاستكان الفلاحون في اللحظة التي رفع فيها عبء الفرائض الإقطاعية عن أكتافهم، وردوا على فضل المدن عليهم بنضالها من أجل حقوقهم بنكران الجميل.
كان المثقفون الديموقراطيون يفتقرون إلى القوة الطبقية. فحينا تتبع هذه الفئة شقيقتها الكبرى - البرجوازية الليبرالية- فتغدوا ذيلا سياسيا لها وطورا تتخلى عن البرجوازية الليبرالية في اللحظة الحاسمة فتكشف عن ضعفها. لقد أورطت نفسها في تناقضات لا تحل وحملت هذه الورطة معها أينما ذهبت.
أما البروليتاريا فقد كانت جد ضعيفة تفتقر إلى التنظيم والخبرة والمعرفة. كانت الرأسمالية قد تطورت إلى درجة تحتم إلغاء العلاقات الإقطاعية القديمة، ولكنها لم تكن قد تطورت التطور الكافي الذي يسمح بدفع الطبقة العاملة، ثمرة العلاقات الصناعية الجديدة، إلى المقدمة كقوة سياسية حاسمة. كان التناقض بين البروليتاريا والبرجوازية، حتى ضمن الإطار الوطني الألماني، قد عمق إلى مدى لم يعد يسمح فيه للبرجوازية من أن تقدم بدون خوف على لعب دور الهيمنة على الوطن، ولكن هذا التناقض لم يكن من العمق الكافي بحيث يسمح للطبقة العاملة من أن تلعب هذا الدور. الحقيقة أن الإحتكاك الداخلي في الثورة مهّد للبروليتاريا أن تحرز استقلالها السياسي، ولكنه في ذلك الحين حطّ من العزيمة وأضعف وحدة العمل وأدى إلى بذل جهد لا مبرر له وأجبر الثورة على البقاء في مكانها بملل بعد انتصاراتها الأولى، وعلى التقهقر تحت ضربات الرجعية.
إن النمسا مثل واضح وفاجع بشكل خاص لهذا الطابع غير الكامل أو المنتهي من العلاقات الإجتماعية في مرحلة الثورة.
لقد برهنت البروليتاريا في فيينا عام 1848 على بطولة نادرة وعلى حيوية لا تنضب. كانت تقتحم المعركة مرة بعد مرة، يدفعها إلى الأمام حسّ طبقي مبهم مفتقرة إلى مفهوم شامل لأهداف النضال فأخذت تتخبط بين شعار وآخر. ومن المدهش حقا أن قيادة البروليتاريا إنتقلت إلى أيدي الطلاب، المجموعات الديموقراطية الفعالة الوحيدة التي إستطاعت أن يكون لها، نتيجة عملها، نفوذ كبير في أوساط الجماهير وأن تؤثر بالتالي على الأحداث. لا شك في أن الطلاب كانوا يقاتلون ببسالة وراء المتاريس ويتآخون بشكل مشرّف مع العمال، غير أنهم كانوا عاجزين تماما عن توجيه مسيرة الثورة التي سلمتهم إياها "دكتاتورية" الشارع.
إن البروليتاريا غير المنظمة والتي لا تملك الخبرة السياسية ولا القيادة المستقلة سارت وراء الطلاب. ولم يتخلف العمال في كل لحظة حاسمة عن أن يقدموا "للسادة الذين يعملون برؤوسهم" معونة "الذين يعملون بأيديهم". فحينا كان الطلاب يدعون العمال للقتال وطورا يسدون بوجههم الطريق من الضواحي إلى المدينة. وفي بعض الأحيان، كان الطلاب يستغلون سلطتهم السياسية ويعتمدون على أسلحة "الفرقة الجامعية" لكي يمنعوا العمال من تقديم مطالبهم المستقلة. كان هذا شكلا تقليديا واضحا من أشكال الديكتاتورية الثورية الخيرة على البروليتاريا. إلى ماذا أفضت هذه العلاقات الإجتماعية؟ في 26 مايو عندما هبّ جميع عمال فيينا مستجيبين لنداء الطلاب لمقاومة نزع السلاح من الطلاب (الفرقة الجامعية)، وعندما ملأ سكان العاصمة مدينتهم بالمتاريس وبرزوا كقوة نادرة المثيل وسيطروا على فيينا، وعندما كانت النمسا كلها تلتحق بفيينا المسلحة، وعندما كانت الملكية على وشك الهرب وقد فقدت كل أهميتها، وعندما سحبت آخر الوحدات العسكرية من العاصمة تحت ضغط الشعب، وعندما استقالت حكومة النمسا دون أن تعين خليفة لها، لم يكن هنالك قوة سياسية لتمسك بدفة الحكم. لماذا حصل ذلك؟
لقد رفضت البرجوازية الليبرالية عن قصد استلام حكم جرى الاستيلاء عليه بشكل لصوصي، كانت تحلم فقط بعودة الإمبراطور الذي فرّ إلى منطقة "التيرول".
وكان العمال على جانب من الشجاعة بحيث قهروا الرجعية غير أنهم لم يكونوا على جانب من التنظيم والوعي الكافيين ليحتلوا مكانها. كانت هناك حركة عمالية قوية ولكن الصراع الطبقي البروليتاري ذا الهدف السياسي المحدد لم يكن قد تبلور بعد. فلم تكن البروليتاريا قادرة على استلام زمام الحكم ففشلت في الاضطلاع بهذه المهمة التاريخية الضخمة وانسحب الديموقراطيون البرجوازيون بهدوء في أكثر اللحظات حرجا كما يفعلون في العديد من الأحيان.
ولكي تجر البروليتاريا هؤلاء الهاربين على القيام بواجباتهم كان يتطلب منها مستوى من الحيوية والنضج لا يقل عن المستوى الضروري لتكوين حكومة عمالية مؤقتة.
وبشكل عام، نشأ وضع وصفه كاتب معاصر بهذا الوصف الصحيح: "لقد أعلنت الجمهورية في فيينا ولكن لم يشاهدها أحد مع الأسف". وهذه الجمهورية التي لم يلاحظها أحد غابت لمدة طويلة عن المسرح مخلية الساحة أمام سلالة غايسبرغ… ما فات قد فات.
إن لاسال [36] قد خلص بعد دراسته لتجربة الثورتين المجرية والألمانية إلى أنه لا يمكن للثورات من الآن فصاعدا أن تجد دعما لها إلا في صراع البروليتاريا الطبقي. فكتب في رسالة إلى ماركس في 24 تشرين الثاني (نوفمبر) عام 1848 ما يلي:
"كان للمجر الحظ الأوفر من أي بلد آخر لأن تنجح في نضالها. ويعود ذلك، من بين أسباب أخرى إلى أن الحزب فيها لا يعاني من الانقسامات والتناقضات الحادة التي يعاني منها في أوروبا الغربية، ولأن الثورة قد اتخذت طابع النضال من أجل الإستقلال الوطني إلى حد ما. بالرغم من ذلك انهزمت المجر نتيجة خيانة الحزب الوطني بشكل خاص.
"إذا أضفنا إلى ذلك تاريخ ألمانيا خلال فترة 1848-1849 نصل إلى الإستنتاج أنه لا يمكن للثورة أن تنجح في أوروبا إلا إذا أعلنت منذ البداية عن طبيعتها الإشتراكية الصرفة. ولا يمكن لأي نضال أن ينجح إذا ما دخلت فيه القضايا فقط على شكل عنصر مبهم من عناصره وبقيت في المؤخرة، وإذا كان النضال يخاض تحت لواء الانبعاث القومي أو الجمهورية البرجوازية".
لن نتوقف لنقد هذه الإستنتاجات الواثقة من نفسها جدا. ولكن مما لا شك فيه هو أنه حتى في منتصف القرن التاسع عشر لم يكن بالإمكان حل مشكلة التحرر السياسي بواسطة خطط تكتيكية شاملة ومنسجمة تمارس بها الأمة كلها الضغط. إن خطط البروليتاريا التكتيكية المستقلة التي تشحذ قوتها للنضال إنطلاقا من موقعها الطبقي، ومن هذا الموقع فحسب، هي وحدها الكفيلة بتحقيق انتصار الثورة.
إن الطبقة العاملة الروسية عام 1906 لا تشابه بشيء عمال فيينا عام 1848. وأحسن دليل على ذلك هو قيام مجالس مندوبي العمال (السوفييت) على صعيد روسيا كلها. لم تكن هذه المجالس منظمات للتآمر جرى تكوينها في وقت سابق لغاية استيلاء العمال على السلطة عند اندلاع التمرد. كلا، كانت هذه منظمات خلقتها الجماهير نفسها بواسطة التخطيط لغاية تنسيق نضالها الثوري. فكانت مجالس السوفييت التي تنتخبها الجماهير والمسؤولة أمام الجماهير هي بدون شك مؤسسات ديموقراطية تنفذ سياسة طبقية جد مصممة فيها روح الإشتراكية الثورية.
إن مميزات الثورة الروسية تصبح واضحة كل الوضوح عند معالجة قضية تسليح الأمة. كانت الميليشيا -"الحرس الوطني"- المطلب والمكسب الأولين لثورات 1789 و1848 في باريس وجميع ثورات دول إيطاليا، وفيينا وبرلين. ففي عام 1848، كان مطلب إنشاء "الحرس الوطني" أي عملية تسليح الطبقات المالكة و"المثقفة" هو مطلب المعارضة البرجوازية بأسرها، حتى أكثر الفئات اعتدالا منها، ولم تكن غالبية المحافظة على الحريات المكتسبة أو بالأحرى الحريات "الموهوبة" ضد تقلبات من فوق فحسب، ولكن لحماية الملكية البرجوازية الفردية من هجمات البروليتاريا. يقول المؤرخ الليبرالي الإنكليزي الذي أرّخ توحيد إيطاليا: "كان الإيطاليون يعلمون علم اليقين أن الميليشيا الحديثة المسلحة سوف تساهم في تقويض الحكم المطلق. وهي بالإضافة إلى ذلك ضمانة للطبقات الحاكمة ضد أي فوضى ممكنة أو أي اضطراب قد يأتي من تحت [37]". إن الرجعية الحاكمة التي لا تملك العدد الكافي من الجنود في ساحة العمليات للقضاء على الفوضى، أي على الجماهير الثورية، قد وزعت السلاح على البرجوازية. لقد أتاح الحكم المطلق للبرجوازية فرصة قمع العمال وتجريدهم من السلاح ثم جردت البرجوازية من سلاحها وأسكتتها.
في روسيا لم تلق المطالبة بإنشاء الميليشيا أي استجابة عند الأحزاب البرجوازية. فقد كان الليبراليون يقدرون المدلول الخطير للأسلحة، كانوا قد تعلموا بعض الدروس عن هذا الموضوع على أيدي الحكم المطلق. ولكنهم كانوا يفعلون أيضا استحالة إنشاء ميليشيا في روسيا بمعزل عن البروليتاريا أو ضدها. إن عمال روسيا ليسوا مثل عمال عام 1848 الذين كانوا يملئون جيوبهم بالحجارة ويتسلحون بالمعاول بينما أصحاب الدكاكين والطلاب والمحامون يتنكبون البنادق الملكية ويحملون السيوف.
إن تسليح الثورة في روسيا يعني تسليح العمال بشكل خاص. والليبراليون الذين يعلمون هذا علم اليقين ويخافونه يتحاشون الخوض في موضوع إنشاء الميليشيا من أساسه. فيتخلون عن مواقعهم في وجه الحكم المطلق بدون قتال مثلما سلّم "تيير" (Thiers) البرجوازي باريس في فرنسا إلى بسمارك لمجرد أنه يريد أن يتحاشى تسليح العمال.
في ذلك البيان الذي أصدره التحالف الليبرالي-الديموقراطي على شكل مجموعة من الدراسات بعنوان "الدولة الدستورية" يقول السيد دجيفيليفوف في معرض مناقشته لإحتمال قيام الثورات، وهو محق فيما يقول: "على المجتمع ذاته أن يكون على أهبة الإستعداد للدفاع عن دستوره عندما يحين الوقت لذلك". وبما أن النتيجة المنطقية لهذا القول هي المطالبة بتسليح الشعب، يجد هذا الفيلسوف الليبرالي أنه "من الضروري" أن يضيف "أن ليس من الضروري أن يحمل كل فرد من أفراد الشعب السلاح" [38] لمنع الإمتداد. من الضروري أن يكون المجتمع على أهبة الإستعداد للمقاومة ليس إلا. إذا كان لابد من إستخلاص نتيجة من هذا الكلام فهي أن الخوف الذي يعتصر قلوب الديموقراطيين عندنا من البروليتاريا المسلحة هو أعظم من خوفهم من جنود الحكم المطلق.
لهذا السبب، تقع مهمة تسليح الثورة على عاتق البروليتاريا وحدها. إن مطلب الميليشيا المدنية الذي قدمته البرجوازية في عام 1848 لا يقابله في روسيا مطلب تسليح الشعب عامة والبروليتاريا خاصة. إن مصير الثورة يتوقف على هذه القضية.


--------------------------------------------------------------------------------

4- الثورة والبروليتاريا
ان الثورة امتحان صريح للقوة بين الفئات الإجتماعية خلال صراع من أجل استلام الحكم. ليست الدولة غاية بحد ذاتها. إنها مجرد آلة لخدمة القوى الإجتماعية المسيطرة. وكغيرها من الآلات، تحتوي على محرك وعلى جهاز لإصدار الأوامر وعلى آخر لتنفيذها. القوة التي تسيّر الدولة هي المصلحة الطبقية، وجهاز المحرك فيها هو الدعاية والصحافة والتعليم المدرسي والكنسي والأحزاب والإجتماعات العامة والعرائض والإنتفاضات. أما الجهاز الذي يصدر الأوامر فهو المؤسسة التشريعية التي تتولى تنظيم مصالح السلالات والطوائف والطبقات وتصورها على أنها تعبير عن إرادة الله (كما في الحكم المطلق) أو عن إرادة الأمة (كما في النظام البرلماني). أما الجهاز التنفيذي فهو الإدارة بشرطتها ومحاكمها وسجونها وجيشها.
ليست الدولة غاية بحد ذاتها، وإنما هي وسيلة جبارة لتنظيم العلاقات الإجتماعية أو لتفتيتها أو لإعادة تنظيمها وفق أسس جديدة. وبإمكانها أن تكون محركا أساسيا للثورة أو أن تكون أداة للإستكانة المنظمة، حسب الأيدي التي تسيطر عليها.
إن كل حزب سياسي، جدير باسمه، يسعى إلى الإستيلاء على السلطة مسخرا الدولة لخدمة الطبقة التي يمثل مصالحها. وطبعا، يسعى الإشتراكيون-الديموقراطيون بوصفهم حزب البروليتاريا، إلى تحقيق سيطرة الطبقة العاملة السياسية.
إن البروليتاريا تنمو وتتضاعف قوتها بنمو الرأسمالية. بهذا المعنى يكون تطور الرأسمالية هو تطور البروليتاريا في اتجاه تحقيق دكتاتوريتها. على أن توقيت انتقال الحكم إلى أيدي الطبقة العاملة لا يعتمد بشكل مباشر على المستوى الذي بلغته قوى الإنتاج، وإنما على العلاقات في الصراع الطبقي وعلى الوضع العالمي وأخيرا على عدد من العوامل الذاتية كتقاليد الطبقة العاملة ومبادرتها واستعدادها للنضال.
من المحتمل أن يصل العمال إلى الحكم في بلد متخلف اقتصاديا قبل وصولهم إليه في بلد متقدم. ففي عام 1871 استولى العمال عن قصد على باريس البرجوازية الصغيرة لمدة شهرين فقط، بينما العمال في المراكز الرأسمالية الكبيرة في بريطانيا والولايات المتحدة لم يستلموا الحكم ولو لساعة واحدة. إن التصور أن قيام ديكتاتورية البروليتاريا يعتمد بطريقة ما على تطور البلد التقني وعلى موارده إنما هو زعم من مزاعم المادية "الإقتصادية" التافهة. إن وجهة النظر هذه لا تمت للماركسية بأي صلة.
إن الثورة الروسية سوف تخلق، برأينا، الظروف التي تمهد لانتقال السلطة إلى العمال، وفي حال انتصار الثورة عليها أن تمهد لهذا الانتقال، قبل أن يتسنى للسياسيين البرجوازيين الليبراليين أن يعرضوا كل براعتهم في تسيير الحكم.
في معرض تلخيصه لتجربة الثورة والثورة المضادة عام 1848 و1849 في جريدة "التريبيون" الأمريكية، كتب ماركس: "إن الطبقة العاملة الألمانية ما تزال متخلفة في تطورها الإجتماعي والسياسي عن الطبقة العاملة في إنكلترا وفرنسا بقدر تخلف البرجوازية الألمانية عن برجوازية هذين البلدين. مثلما يكون السيد كذلك يكون الإنسان. إن تطور ظروف وجود طبقة بروليتارية واسعة العدد وقوية وكثيفة وذكية يسير بخط مواز مع تطور ظروف وجود طبقة وسطى غنية وواسعة العدد وكثيفة وقوية. ولا يمكن لحركة الطبقة العاملة أن تكون مستقلة، ولا يمكنها أن تصبح ذات طبيعة بروليتارية صرفة إلا بعد أن تستولي على السلطة السياسية مختلف فصائل الطبقة الوسطى وبخاصة الفصيلة الأكثر تقدمية منها: الصناعيون الكبار، فتعيد تكوين الدولة وفق حاجاتها. إذاك، لابد من أن يبرز الصراع الحتمي بين رب العمل والعامل ولا يمكن تأجيله إلى حين آخر".
ربما كان هذا المقطع مألوفا لدى القراء، فلقد عمد "الماركسيون الحرفيون" إلى تشويهه إلى حد كبير في الأزمنة الحديثة. لقد جرى إبرازه كحجة راسخة ضد فكرة قيام حكم عمالي في روسيا. "مثلما يكون السيد، كذلك يكون الإنسان". فيقولون: إذا لم تكن الرأسمالية البرجوازية من القوة بحيث تستولي على الحكم إذن يتضاءل إمكان قيام ديمقراطية عمالية أي تحقيق سيطرة البروليتاريا السياسية.
إن الماركسية أسلوب في التحليل قبل أن تكون أي شيء آخر. على أنها ليست أسلوبا لتحليل النصوص ولكن لتحليل العلاقات الإجتماعية. هل يصح القول إن ضعف الرأسمالية الليبرالية في روسيا يرافقه ضعف في الحركة العمالية؟ هل يصح القول أنه لا يمكن أن تنشأ حركة عمالية مستقلة في روسيا إلا بعد أن تستلم البرجوازية الحكم؟ يكفي أن نطرح الأسئلة بهذا الشكل لكي نتبين أية شكلية بائسة تختفي وراء محاولة تحويل قاعدة نسبية تاريخيا لماركس إلى قاعدة فوق التاريخ.
خلال مرحلة الازدهار الصناعي في روسيا، اكتسى تطور الصناعات فيها طابعا "أمريكيا"، غير أن الصناعة الرأسمالية الروسية في أبعادها الحقيقية ليست سوى طفلة إذا ما قورنت بالصناعة في الولايات المتحدة. ففي روسيا 5 ملايين شخص أي 16.6% من مجموع عدد السكان الفاعلين اقتصاديا، يعملون في الصناعة؛ أما بالنسبة للولايات المتحدة فإن الرقم المقابل هو 6 ملايين شخص و 22.2%. هذه الأرقام لا تفيدنا بشيء، غير أن أهميتها البالغة تتجلى عندما نتذكر أن عدد سكان روسيا يقارب ضعف عدد سكان الولايات المتحدة. ولكي نقدر الأبعاد الفعلية للصناعتين الروسية والأمريكية التقدير الكامل، يجب أن نلاحظ أن المصانع والمشاغل الكبيرة في الولايات المتحدة أنتجت عام 1900 بضائع برسم البيع تبلغ قيمتها 25 مليار روبل، بينما أنتجت المصانع الروسية في العام ذاته بضائع لا تزيد قيمتها عن 2.5 مليار روبل [39].
لاشك في أن عدد البروليتاريا الصناعية وكثافتها وثقافتها ووزنها السياسي كلها تعتمد على مدى تطور الصناعية الرأسمالية. إلا أنها لا تعتمد على هذا التطور إعتمادا مباشرا. بين قوى الإنتاج في بلد معين وبين قوة طبقاته السياسية تتدخل في كل لحظة من اللحظات، عوامل اجتماعية وسياسية مختلفة ذات طابع وطني ودولي؛ وقد تغيّر هذه العوامل التعبير السياسي عن العلاقات الإقتصادية إلى حد أنها قد تغير تغييرا تاما. فبالرغم من كون قوى الإنتاج في الولايات المتحدة أضخم بعشر مرات من قوى الإنتاج في روسيا، إلا أن الدور الذي تلعبه البروليتاريا الروسية وتأثيرها على سياسة بلدها وإمكان تأثيرها على السياسة في العالم في المستقبل لهو بدون شك أعظم مما تستطيع أن تقوم به البروليتاريا في الولايات المتحدة.
يشير كاوتسكي، في كتابه الأخير عن البروليتاريا الأمريكية، إلى عدم وجود علاقة مباشرة بين قوة البروليتاريا والبرجوازية السياسية من جهة، وبين مستوى التطور الرأسمالي من جهة أخرى. فيقول:
"ثمة حالتين تتباينان تباينا تاما بينهما. ففي أحدهما يتطور أحد عناصر الحالة الأخرى بشكل شاذ، أي بما لا يتناسب مع مستوى تطور طريقة الإنتاج الرأسمالية؛ وفي الأخرى ينمو عنصر آخر من هذه العناصر. ففي الدولة الأولى - أمريكا- نمت الطبقة الرأسمالية، بينما في روسيا نمت البروليتاريا. ولا يوجد بلد آخر تتجلى فيه ديكتاتورية رأس المال مثلما تتجلى في أمريكا. بينما لم تبلغ البروليتاريا مستوى من النضالية في أي بلد آخر مثلما وصلت إليه روسيا. ومما لا شك فيه أن هذا المستوى سيرتفع لأن هذا البلد بدأ يشترك في الصراع الطبقي الحديث منذ مدة ليست ببعيدة، ففتح في داخله مجالات فسيحة لإستمرار هذا الصراع".
ويشير إلى أن ألمانيا ستتعلم عن مستقبلها، إلى حد ما، على يد روسيا فيقول:
"إنه لمن دواعي العجب أن تكون البروليتاريا الروسية هي التي سترينا مستقبلنا، إلى مدى ما يعبر هذا المستقبل عن نفسه في احتجاج الطبقة العاملة وليس في مدى تطور رأس المال. إن كون روسيا هي الأكثر تخلفا بين البلدان الكبيرة في العالم الرأسمالي يبدو وكأنه يناقض المفهوم المادي للتاريخ الذي يعتبر أن التطور الإقتصادي هو أساس التطور السياسي".
ويستطرد كاوتسكي قائلا:
"والحقيقة تقال أن هذا يناقض المفهوم المادي للتاريخ كما يصوره خصومنا ونقادنا الذين لا يعتبرونه أداة تحليل وإنما مجرد "كليشيه" معدة سلفا" [40].
إننا نوصي الماركسيين الروس قراءة هذه الأسطر بشكل خاص لأنهم يستبدلون التحليل المستقل للعلاقات الإجتماعية بما يستنبطونه من نصوص يجري انتقاؤها لخدمة أي وضع. وما من أحد يسيء إلى الماركسية بقدر ما يسيء إليها هؤلاء "الماركسيون- على - طريقتهم - الخاصة".
وهكذا يعتبر كاوتسكي أن روسيا على مستوى منخفض اقتصاديا من التطور الرأسمالي، ولكنها على الصعيد السياسي تحوي برجوازية رأسمالية قليلة الأهمية وبروليتاريا ثورية وقوية. ويؤدي هذا إلى أن…
"لقد ألقى الصراع من أجل مصالح روسيا كلها على عاتق الطبقة الثورية الوحيدة الموجودة في البلد: البروليتاريا الصناعية. لهذا السبب تكتسب البروليتاريا الصناعية أهمية سياسية بالغة، ولهذا السبب أيضا تحول الصراع لتحرير روسيا من نير الحكم المطلق إلى معركة واحدة بين الحكم المطلق والبروليتاريا الصناعية، معركة يستطيع الفلاحون أن يقدموا فيها مساعدة هامة ولكنهم لا يستطيعون أن يلعبوا دورا قياديا".
ألا يدعونا إلى الإستنتاج أن "الإنسان" الروسي سوف يستلم الحكم قبل "سيده؟
*****
هناك نوعان من التفاؤل السياسي. فبمقدورنا أن نبالغ في قوتنا وفي العوامل التي لصالحنا في وضع ثوري معين، فنأخذ على عاتقنا مهام تبرّرها العلاقة المتبادلة بين القوى. أو أن نضع حدا - بتفاؤل- لمهامنا الثورية يضطرنا وضعنا ذاته إلى تخطيها حتما.
قد نحدّد أفقاً لجميع القضايا المتعلقة بالثورة فنؤكد أن ثورتنا هي ثورة برجوازية في أهدافها الموضوعية وبالتالي في نتائجها الحتمية، فنتجاهل بذلك كون البروليتاريا هي التي ستلعب الدور الرئيسي في هذه الثورة وكون سير الثورة ذاته يدفع هذه البروليتاريا نحو استلام الحكم.
وقد نطمئن أنفسنا بالقول أن سيطرة البروليتاريا السياسية ضمن إطار الثورة البرجوازية ستكون سيطرة محلية عابرة، فنتناسى بذلك أن البروليتاريا في حال استلامها الحكم لن تتخلى عنه إلا بعد مقاومة مستميتة، إلا بعد أن يجري انتزاعه من بين أيديها بالقوة المسلحة.
وقد نطمئن أنفسنا بالقول أن ظروف روسيا الإجتماعية ما تزال غير ناضجة لبناء اقتصاد اشتراكي متغافلين بذلك عن أن البروليتاريا باستلامها الحكم سوف تضطر حتما بسبب منطق وضعها ذاته، إلى تحقيق إدارة الدولة للصناعة. إن العبارة السوسيولوجية العامة جدا: الثورة البرجوازية لا تحل بأي حال من الأحوال المشاكل والتناقضات والمصاعب التي يطرحها تركيب ثورة برجوازية معينة.
ففي نهاية القرن الثامن عشر تحققت دكتاتورية المعدمين (Les sans culotes) داخل إطار الثورة البرجوازية التي تتلخص مهمتها الأساسية في تأمين سيطرة رأس المال، ولم تكن هذه الدكتاتورية مجرد مرحلة عابرة فلقد تركت آثارها على القرن الذي تلاه كله، هذا بالرغم من كونها تفتتت بسرعة بعد اصطدامها بسدود الثورة البرجوازية. أما بالنسبة للثورة في بداية القرن العشرين، والتي تواجهها أيضا مهام برجوازية، فقد برز توقع هو سيطرة البروليتاريا الحتمية أو المحتملة على أقل تقدير. وسوف تعمل البروليتاريا حتى لا تغدو هذه السيطرة مجرد "مرحلة" عابرة، كما يأمل بعض الأدعياء الواقعيين. وبالإمكان الآن أن نطرح هذا السؤال: هل أن تفتت الديكتاتورية البروليتارية نتيجة اصطدامها بسدود الثورة البرجوازية أمر محتم، أم أنه من المحتمل أن يبرز أمامها في الظروف التاريخية العالمية الحالية إحتمال الإنتصار باختراق هذه السدود؟ إن المسائل المطروحة علينا هنا مسائل تكتيكية: هل نحن مطالبون بالعمل الواعي لأجل قيام حكومة عمالية بقدر ما يؤدي تطور الثورة إلى التعجيل في قيام هذا الحكم؟ أم علينا أن ننظر إلى السلطة السياسية على أنها ثقيل تلقي به الثورة البرجوازية على كاهل العمال فيكون من الأفضل لهم أن يتجاهلوه؟
هل علينا أن نجيب أنفسنا بنفس الطريقة التي يتكلم فيها السياسي "الواقعي" فولمار عن مناضلي عامية باريس عام 1871 إذ يقول: "عوضاً عن استلامهم الحكم كان الأحرى بهم أن يخلدوا للنوم…"؟


--------------------------------------------------------------------------------

5- البروليتاريا في الحكم والفلاحون
في حال انتصار الثورة الحاسم، تنتقل السلطة إلى أيدي الطبقات التي لعبت الدور القيادي في النضال، وبكلمات أخرى: إلى أيدي البروليتاريا. فلنستدرك بسرعة قائلين أن هذا لا يعني إقصاء الممثلين الثوريين للفئات الإجتماعية غير البروليتارية عن الاشتراك في الحكم. إن اشتراك هذه الفئات بالحكم أمر ممكن وواجب. لذا، فإذا اتبعت البروليتاريا سياسة سليمة فإنها ستدعو قادة البرجوازية الصغيرة البارزين في المدن، والمثقفين والفلاحين لمشاركتهم الحكم. إلا أن المشكلة تدور حول السؤال التالي: من سيحدد محتوى سياسة الحكم؟ لمن ستكون الأغلبية الثابتة داخل الحكومة؟
إن اشتراك ممثلي القطاع الديمقراطي من الشعب في الحكومة ذات غالبية عمالية شيء، أما اشتراك ممثلين عن البروليتاريا في حكومة ديمقراطية-برجوازية صرفة بصفتهم اسراء مستكينين فشيء آخر تماماَ.
إن سياسة البرجوازية الرأسمالية الليبرالية، بكل تذبذبها وتراجعها وخيانتها، سياسة محددة بوضوح. أما سياسة البروليتاريا فهي أكثر وضوحا وكمالا. ولكن سياسة المثقفين، بسبب طبيعتهم الإجتماعية الوسطية وميوعتهم السياسية؛ وسياسة الفلاحين، بسبب تنوعهم الإجتماعي ووضعهم الوسطي وبدائيتهم، وسياسة البرجوازية الصغيرة في المدن، أيضا بسبب هلاميتها ووضعها الوسطي وفقدانها التام للتقاليد السياسية - إن سياسة هذه الفئات الإجتماعية الثلاث غير محددة قط وغير مبلورة ومليئة بالاحتمالات وبالتالي مليئة بالمفاجآت.
يكفي أن نحاول تخيّل حكومة ديمقراطية ثورية بدون ممثلين عن البروليتاريا، لكي نرى رأسا تهافت مفهوم كهذا. لذا، فإن رفض الديموقراطيين-الاجتماعيين الاشتراك في حكومة ثورية يجعل تشكيل مثل هذه الحكومة أمرا مستحيلا ويكون بمثابة خيانة صريحة للثورة. إلا أن اشتراك البروليتاريا في حكومة من الحكومات أمر محتمل موضوعيا ومسموح به مبدئيا، فقط عندما تكون هذه المشاركة مشاركة قيادة تكون فيها البروليتاريا هي الفئة المسيطرة. وبالإمكان طبعا تسمية حكومة كهذه "دكتاتورية البروليتاريا والفلاحين" أو "دكتاتورية البروليتاريا والفلاحين والإنتليجنسيا" أو حتى "حكومة تحالف الطبقة العاملة مع البرجوازية الصغيرة"؛ ولكن يبقى السؤال مطروحا: من سيسيطر على الحكومة ذاتها ومن خلالها على البلد؟ فعندما نتكلم عن حكومة عمالية نعني بذلك أنه يجب أن تكون السيطرة للطبقة العاملة.
إن "المؤتمر الوطني"، أداة ديكتاتورية اليعاقبة، لم يكن يضم اليعاقبة وحدهم. بل أكثر من ذلك، كان اليعاقبة أقلية فيه، على أن ضغط المعدمين (Les sans culotes) من خارج جدران "المؤتمر"، والحاجة الملحة إلى سياسة محددة تنقذ الوطن، وضعا الحكم في يد اليعاقبة. وهكذا، فبينما كان "المؤتمر" يمثل رسميا الوطن كله، ويتكون من اليعاقبة والجيرونديين والوسط الكبير المتذبذب الذي يطلق عليه اسم "المستنقع"، كان في جوهره أداة لديكتاتورية اليعاقبة.
عندما نتكلم عن حكومة عمالية إنما نعني حكومة يسيطر عليها ممثلو الطبقة العاملة ويتولون قيادتها. ولكي ترسخ البروليتاريا حكمها، لا تستطيع إلا أن توسع قاعدة الثورة. فتنجذب إلى الثورة قطاعات كبيرة من الجماهير الكادحة، وفي الريف بخاصة، وتنتظم سياسيا فقط بعدما تقف طليعة الثورة - بروليتاريا المدن- على دفة الحكم. ويتم القيام بالتحريك والتنظيم الثوريين بمساعدة موارد الدولة. وتغدوا السلطة التشريعية أداة فعالة لدفع الجماهير في الإتجاه الثوري. إن طبيعة علاقاتنا الإجتماعية والتاريخية، التي تلقي بعبء تحقيق الثورة البرجوازية على كاهل البروليتاريا لن تخلق مصاعب جمة أمام الحكومة العمالية فحسب، ولكنها ستمدها أيضا بفوائد عديدة في المرحلة الأولى من وجودها على الأقل. مما سوف يؤثر على العلاقات بين البروليتاريا والفلاحين.
في ثورات 1789-1793 و1848 إنتقلت السلطة أولا من الحكم المطلق إلى العناصر المعتدلة من البرجوازية، وكانت هذه الطبقة هي التي حررت الفلاحين (إن الطريقة التي تم فيها هذا التحرر موضوع آخر) قبل أن تستلم الديموقراطية الثورية الحكم وحتى قبل التحضير لإستلامه. وفقد الفلاحون المتحررون كل اهتمام في المناورات السياسية التي يقوم بها "سكان المدن"، أي في تطور الثورة القادم، وأصبحوا حجر الأساس "للنظام" وخانوا الثورة للرجعية القيصرية أو رجعية العهد البائد.
إن الثورة الروسية لم تسمح بإقامة أي نوع من أنواع النظام الدستوري-البرجوازي بإمكانه أن يحل مشاكل الديموقراطية الأولية، وهي لن تسمح به لمدة طويلة. لذا، فجميع المجهودات "المتنورة" التي يبدلها المصلحون-البيروقراطيون أمثال "ويتي" و"ستولوبين" تذهب أدراج الريح أمام صراع هؤلاء من أجل البقاء على قيد الحياة، لأن مصير أبسط المصالح الفلاحية الثورية، مصالح الفلاحين ككل، كطبقة، مرهون بمصير الثورة كلها أي بمصير البروليتاريا.
إن البروليتاريا في الحكم ستقف أمام الفلاحين بوصفها الطبقة التي حررتهم. وحكم البروليتاريا لا يعني المساواة الديموقراطية، والحكم الذاتي الحر، ووضع كل عبء الضرائب على عاتق الطبقات الميسورة، وتذويب الجيش النظامي في الشعب المسلح وإلغاء الضرائب الكنسية الإلزامية فحسب، بل أيضا الاعتراف بكل التغيرات الثورية (الإستيلاء على الأرض) التي أحدثها الفلاحون في العلاقات الزراعية.على البروليتاريا أن تجعل من هذه التغييرات نقطة الانطلاق نحو مزيد من الإجراءات تقوم بها الدولة في الحقل الزراعي.
في ظروف كهذه، سيكون من مصلحة الفلاحين، في المرحلة الأولى والصعبة من الثورة، أن يحافظوا على نظام حكم البروليتاريا (الديموقراطية العمالية) في جميع الأحوال، مثلما كان للفلاحين الفرنسيين مصلحة في المحافظة على نظام حكم نابليون العسكري الذي ضمن للملاكين الجدد حرمة ممتلكاتهم بقوة حرابه. هذا يعني أن مؤسسة الأمة التمثيلية التي ستنعقد بقيادة البروليتاريا المعتمدة على تأييد الفلاحين، لن تكون غير شعار ديموقراطي لحكم البروليتاريا.
ولكن، أليس من المحتمل أن يزيح الفلاحون البروليتاريا ويحتلوا مكانها؟ إن هذا أمر مستحيل. فكل التجربة التاريخية تدحض هذا الافتراض. إن التجربة التاريخية تبيّن أن الفلاحين عاجزين تماما عن القيام بدور سياسي مستقل. [41]
إن تاريخ الرأسمالية هو تاريخ تبعية الريف للمدينة. لقد اقتضى التطور الصناعي في المدن الأوروبية أن تزول العلاقات الإقطاعية في الريف. وحيث أن الريف لم يخلق طبقة تستطيع أن تأخذ على عاتقها مهمة إلغاء الإقطاعية بشكل ثوري، فالمدينة، التي ألحقت الزراعة برأس المال، هي التي خلقت قوة ثورية بسطت سلطتها على الريف، ونقلت الثورة على الدولة وعلى علاقات المُلكية إليه. وعندما حدثت تطورات لاحقة، وقع الريف ضحية لعبودية رأس المال الإقتصادية، ووقع الفلاحون في عبودية سياسة الأحزاب الرأسمالية. فأحيت هذه الأحزاب الإقطاعية في السياسة البرلمانية، وجعلت من الريف حقلا لبعثات صيدها الانتخابية. إن الدولة البرجوازية الحديثة ترمي الفلاح بين براثين رأس المال المرابي بواسطة الضرائب والأنظمة العسكرية، وتجعل منه فريسة سهلة لسياسة المرابين بواسطة كهنتها ومدارسها وبواسطة فساد الحياة في ثكنات الجيش.
إن البرجوازية سوف تجبر على التخلي عن جميع مواقعها الثورية للبروليتاريا. وسوف تتخلى أيضا عن سيطرتها السياسية على الفلاحين. وفي وضع كهذا ينتج عن تحول السلطة إلى البروليتاريا لن يجد الفلاحون بدا من الالتحاق بنظام الديمقراطية العمالية. ولن يتبدل الموقف بشكل جوهري حتى لو فعل الفلاحون ذلك بنفس الدرجة من الوعي التي تدفعهم عادة للالتحاق بنظام الحكم البرجوازي. ولكن، بينما يقوم كل حزب برجوازي يسيطر على أصوات الفلاحين بحشد قواه لخداع الفلاحين وتضليلهم، ويخلي الطريق لحزب رأسمالي آخر بعد أن تسوء الأمور، بينما الأمر كذلك بالنسبة للأحزاب البرجوازية، يتطلب من البروليتاريا أن تحشد كل قواها لمساعدة الفلاحين على تنمية وعيهم وعلى رفع المستوى الثقافي في الريف. ويتضح مما قلناه سابقا ما هو موقفنا من فكرة "ديكتاتورية العمال والفلاحين". ليست المسألة برأينا أن نقرّ هذا الشكل من التعاون السياسي إقرارا مبدئيا، أو "أن نريده أو لا نريده". إننا نعتبر، ببساطة، أنه لا يمكن تحقيق مثل هذا التعاون. على الأقل ليس بشكل عاجل ومباشر.
وفي الواقع، إن تحالفا من هذا النوع يفترض إما أن يكون أحد الأحزاب البرجوازية الموجودة يتمتع بنفوذ بين الفلاحين، وإما أن يكون الفلاحون قد أنشأوا حزبا سياسيا قويا مستقلا يعبر عن مصالحهم؛ غير أننا حاولنا أن نظهر استحالة كلا الاحتمالين.


--------------------------------------------------------------------------------

6- نظام حكم البروليتاريا
لا تستطيع البروليتاريا أن تستولي على الحكم إلا باعتمادها على انتفاضة شعبية عارمة وعلى الحماس الوطني. وسوف تشترك البروليتاريا في الحكم بوصفها الممثل الثوري للأمة، وبوصفها القائد الوطني المعترف به في النضال ضد الحكم المطلق والبربرية الإقطاعية. وباستلامها الحكم، يبدأ عهد جديد، عهد التشريع الثوري والسياسة الإيجابية، ولكنها بهذا الصدد لن تستطيع المحافظة على كونها المعبر الشرعي عن إرادة الأمة. وسيكون أول إجراء تتخذه هو تنظيف إسطبلات العهد البائد وطرد سكانها، ذلك الإجراء الذي يحظى بتأييد الأمة بأسرها بالرغم مما يزعمه التنابل الليبراليون عن رسوخ بعض الحساسيات في أوساط جماهير الشعب.
وتواكب عملية التنظيف السياسي هذه إعادة تنظيم العلاقات في الدولة والمجتمع على أسس ديمقراطية. وسوف تضطر الحكومة العمالية، تحت تأثير الضغوط والمطالب المباشرة، إلى التدخل الحاسم في جميع العلاقات والأحداث…
فتكون أول مهمة تقوم بها هي أن تطرد من الجيش ومن الإدارة جميع الذين تلطخت أيديهم بدم الشعب، وأن تسرح تلك الوحدات العسكرية التي تلوثت أكثر من غيرها بالجرائم ضده. ويجب أن يتم ذلك في الأيام الأولى من الثورة، قبل أن يتسنى إدخال نظام انتخاب الرسميين وجعلهم مسؤولين تجاه ناخبيهم وتنظيم المليشيا الوطنية. على أن القضية لا تنتهي عند هذا الحد. إن الديموقراطية العمالية تواجه رأسا بقضايا يومية ملحة كالقضية الزراعية وقضية البطالة.
ثمة شيء واحد أكيد: إن كل يوم يمرّ سوف يعمق سياسة البروليتاريا الحاكمة ويزيد في وضوح طبيعة هذا الحكم الطبقية. وإلى جانب ذلك، سوف تنفصم الوشائج الثورية التي كانت تشد البروليتاريا إلى الأمة، فيتخذ تحلل الفلاحين الطبقي شكلا سياسيا، ويتفاقم التناقض بين الأطراف المشتركة في الحكم كلما اتضحت سياسة ديمقراطية العمال فتتخلى عن كونها سياسة ديموقراطية عامة لتصبح سياسة طبقية.
ومع أن غياب التقاليد البرجوازية- الفردية المتراكمة، والحساسيات المعادية للبروليتاريا عند الفلاحين والمثقفين سوف تساعدان البروليتاريا على استلام الحكم من الضروري ألا يغيب عن الأذهان أن غياب هذه الحساسيات ليس مرده وجود وعي سياسي ناضج بل على العكس وجود نوع من الهمجية السياسية والهلامية الإجتماعية وفقدان الشخصية المميزة. إن أيا من هذه الصفات لا يمكن أن يكون أساسا متينا لسياسة بروليتارية نشيطة ومتناسقة.
إن إلغاء الإقطاع سيحظى بتأييد الفلاحين كلهم، لكونهم طبقة مضطهدة. وسوف تؤيد غالبية الفلاحين ضريبة الدخل التصاعدية. ولكن تنفيذ أي قانون يحمي البروليتاريا الزراعية سيلاقي تأييد أغلبية الفلاحين من جهة، ويلاقي معارضة من بعضهم من جهة أخرى.
وسوف تجد البروليتاريا نفسها مجبرة على نقل الصراع الطبقي إلى القرى، فتقضي بذلك على وحدة المصالح الموجودة دون شك بين جميع الفلاحين، بالرغم من كون وحدة المصالح هذه محصورة ضمن نطاق ضيق نسبيا. منذ اللحظة الأولى لاستلامها الحكم، يتوجب كل البروليتاريا أن تعتمد على التناقضات بين فقراء القرية وأغنيائها، وبين البروليتاريا الزراعية والبرجوازية الريفية. فبينما يخلق عدم التجانس بين الفلاحين المصاعب أمام البروليتاريا ويقلص قاعدتها السياسية، فإن عدم وجود التمايز الطبقي الواضح سيكون عقبة أمام إدخال الصراع الطبقي المتبلور في أوساط الفلاحين الذي يمكن للبروليتاريا أن تعتمد عليه. إن بدائية الفلاحين تدير للبروليتاريا وجهها العدائي.
إن انحسار المد في أوساط الفلاحين، واستكانتهم السياسية وتفاقم المعارضة في أوساط القطاعات العليا منهم لا يمكن إلا أن يؤثر على القطاع من المثقفين وعلى البرجوازية الصغيرة في المدن.
وهكذا، فكلما وضحت سياسة البروليتاريا وازدادت تصلبا، ضاقت الأرض من تحت أقدامها وتزعزعت. إن هذا جد محتمل وهو حتى حتمي الحدوث…
إن السمتين الأساسيتين لسياسة البروليتاريا اللتين سوف تلقيان أشد المعارضة بين أوساط حلفاء البروليتاريا هما التجميع والنزعة الأممية.
وإن بدائية الفلاحين وطبيعتهم البرجوازية الصغيرة، ونظرتهم الريفية الضيقة، وانعزالهم عن الارتباط والولاء السياسيين بالعالم الخارجي سوف تخلق المصاعب في وجه تدعيم السياسة الثورية التي تنتهجها البروليتاريا الحاكمة.
إن القول أن مهمة الديمقراطيين-الاجتماعيين تتلخص في دخول الحكومة الائتلافية وقيادتها خلال مرحلة الإصلاحات الثورية الديمقراطية، والنضال من أجل إعطائها طابعا جذريا بالاعتماد على البروليتاريا المنظمة، وبعد أن يتم تنفيذ البرنامج الديموقراطي تتخلى الحركة الديمقراطية-الإجتماعية عن الصرح الذي شيدته وتخلي الطريق للأحزاب البرجوازية وتنتقل هي إلى صفوف المعارضة مفتتحة بذلك حقبة السياسة البرلمانية؛ إن قولاً كهذا يهدد بنسف فكرة الحكومة العمالية من أساسها. ليس لأن هذا القول غير مسموح به "مبدئيا"، فمجرد طرح القضية على هذا الصعيد يجردها من كل محتوى، ولكن لأنه قول غير واقعي البتة، إنه ضرب من الطوباوية الثورية المدّعية، أسوأ أنواع الطوباوية.
لهذا السبب:
فإن تقسيم برنامجنا إلى برنامج الحد الأقصى وبرنامج الحد الأدنى له دلالة مبدئية ضخمة وعميقة خلال المرحلة التي يكون فيها الحكم في يد البرجوازية. لأن مجرد وجود البرجوازية في الحكم يحذف من برنامج الحد الأدنى جميع المطالب التي تتعارض مع الملكية الفردية لوسائل الإنتاج. هذه المطالب هي مضمون الثورة الإشتراكية وهي تفترض وجود دكتاتورية البروليتاريا.
ولكن حالما تنتقل السلطة إلى يد حكومة ثورية ذات أغلبية اشتراكية، فتقسيم برنامجنا إلى برنامج الحد الأدنى وبرنامج الحد الأقصى يفقد كل معناه على الصعيد المبدئي وعلى صعيد العمل المباشر. فلا يمكن بأي حال من الأحوال، أن تسجن حكومة البروليتاريا نفسها ضمن هذه الحدود الضيقة، فلنأخذ مطلب ثماني ساعات عمل في اليوم. إن هذا المطلب لا يتناقض، كما هو معلوم، مع العلاقات الرأسمالية، لذا فهو مدرج في برنامج الحد الأدنى الذي تعمل به الحركة الديموقراطية-الإجتماعية. ولكن، ماذا يحصل لو حاولنا تحقيق هذا المطلب خلال الثورة، في فترة من العواطف الطبقية العنيفة؟ لا شك في أن الرأسماليين سيتصدون له بمقاومة منظمة وصامدة قد تتخذ شكل المقاطعة أو إغلاق المصانع.
سيجد مئات الآلاف من العمال أنفسهم في الشارع. فماذا يتوجب على الحكومة أن تفعل؟ إذا كانت الحكومة برجوازية، ومهما بلغت راديكاليتها، فهي لن تسمح أبدا للأمور بأن تصل إلى هذا الحد لأنها ستجد نفسها مشلولة إذا ما واجهتها عملية إغلاق المصانع. فستضطر إلى التراجع، فلا يتحقق مطلب الثماني ساعات عمل في اليوم ويجري التنكيل بالعمال الذين يقاومون.
أما إذا كانت الحكومة تحت سيطرة البروليتاريا السياسية، فإن تنفيذ قانون الثماني ساعات عمل في اليوم يؤدي إلى نتائج جد مختلفة. بالنسبة لحكومة تسعى إلى الإعتماد على البروليتاريا وليس على رأس المال، كما تفعل الليبرالية، والتي لا تسعى إلى لعب دور الوسيط "الحيادي"، الذي تلعبه الديموقراطية البرجوازية، بالنسبة لحكومة كهذه لن يكون إغلاق المصانع بالطبع مبررا لزيادة ساعات العمل في اليوم. هناك طريق وحيد تسلكه الحكومة العمالية وهو أن تصادر المصانع المغلقة وتنظيم العمل فيها على أساس اشتراكي.
وطبعا يمكن الرد على ما ورد بهذا الشكل: فلنفترض أن الحكومة العمالية، الوافية لبرنامجها، قد أصدرت قانونا يحدد ساعات العمل بثماني ساعات في اليوم الواحد، فإذا قاوم رأس المال هذا الإجراء مقاومة لا يمكن التغلب عليها بما يحويه البرنامج الديموقراطي المبني على الاحتفاظ بالملكية الفردية، إذن فعلى الديموقراطيين-الاجتماعيين أن يستقيلوا وأن يتوجهوا إلى البروليتاريا. إن حلاّ كهذا هو حل فقط بالنسبة للمجموعة المشتركة بالحكم، ولكنه لن يكون حلاّ بالنسبة للبروليتاريا وبالنسبة لمستقبل الثورة. فبعد أن يستقيل الديموقراطيون-الاجتماعيون، يعود الوضع إلى ما كان عليه يوم اضطروا على استلام الحكم. إن الهرب عن مواجهة مقاومة رأس المال المنظمة لهو خيانة أعظم للثورة من فرض استلام الحكم في المقام الأول. الأفضل لحزب الطبقة العاملة إلا يشترك بالحكم مطلقا على أن يشترك فيه ليستعرض ضعفه ومن ثم يستقيل.
لنأخذ مثلا آخر. لا يسع البروليتاريا إلا أن تتبنى إجراءات حاسمة لحل قضية البطالة لأنه من البديهي أن ممثلي العمال في الحكومة لن يستطيعوا الإجابة على مطالب العمال العاطلين عن العمل بالتحجج بطابع الثورة البرجوازي.
ولكن إذا أخذت الحكومة على نفسها أن تساعد العاطلين عن العمل، ليس المهم بهذا الصدد تحديد شكل هذه المساعدة، فإن هذا يعني أن تنتقل السلطة بسرعة وبشكل فعلي إلى جانب البروليتاريا. وهكذا، فالرأسماليون الذين يعتمدون دوما في استغلالهم للعمال على وجود جيش احتياطي من العمال، سيجدون أنفسهم بدون قوة اقتصادية ومحكومين على تحمل العقم السياسي في آن واحد.
عندما تأخذ الحكومة على عاتقها مساعدة العاطلين عن العمل، فإنها تتعهد في الوقت نفسه بمساندة المضربين. فإذا هي لم تفعل ذلك فقد نسفت مبرر وجودها من الأساس.
فلا يبقى للرأسماليين سوى أن يلجأوا إلى المقاطعة، أي إلى إغلاق المصانع. ومن البديهي أن أرباب العمل يستطيعون تحمل تبعات توقف الإنتاج أكثر مما يستطيعه العمال، لذا كان هنالك جوابا وحيد ترد به الحكومة العمالية على المقاطعة العامة ألا وهو أن تصادر المصانع وأن تدخل إلى الكبير منها طرق الإنتاج المشاعية أو الحكومية.
وتنشأ مشاكل مشابهة بمجرد أن تجري مصادرة الأراضي، ولا يجب أن نفترض، بأي حال من الأحوال، أنه على الحكومة البروليتارية، بعد مصادرتها للممتلكات الفردية، أن تفتتها وتبيعها للمنتجين الصغار ليستثمروها. إن الطريق الوحيد أمام الحكومة هي أن تنظم الإنتاج التعاوني بإشراف "العامية" أو أن يجري تنظيم الإنتاج من قبل الدولة مباشرة. ولكن هذه الطريق هي الطريق إلى الإشتراكية.
إن جميع ما ورد يؤكد بما لا يسمح الشك أنه لا يمكن للديمقراطيين-الاجتماعيين أن يشتركوا في حكومة ثورية معتهدين سلفا للعمال بالاّ يتنازلوا عن برنامج الحد الأدنى وواعدين البرجوازية في الوقت نفسه بألاّ يتخطوا هذا البرنامج. إن مثل هذا التعهد المزدوج لا يمكن تحقيقه. إن مجرد اشتراك ممثلي البروليتاريا في الحكم ليس كاسراء حرب لا حول لهم ولا قوة، ولكن كقوة قيادية، يهدم الحد الفاصل بين برنامج الحد الأدنى وبرنامج الحد الأقصى، إي أنه يضع قضية التجمع في حيّز التنفيذ. وإن الحد الذي يتوقف عنده تقدم البروليتاريا في هذا الإتجاه يتوقف على العلاقة بين القوى، وليس على نوايا حزب البروليتاريا الأصيلة.
لهذا السبب، ليس هنالك أي معنى للحديث عن شكل خاص من أشكال ديكتاتورية البروليتاريا في الثورة البرجوازية، أو عن دكتاتورية بروليتارية ديموقراطية (أو عن دكتاتورية البروليتاريا والفلاحين). إن الطبقة العاملة لا تستطيع أن تحتفظ بالطابع الديموقراطي لديكتاتوريتها إلا إذا تخطت حدود برنامجها الديمقراطي. وإن أية أوهام حول هذه النقطة لهي أوهام فاجعة، سوف تعرض الحركة الديمقراطية-الإجتماعية للإنهيار منذ البداية.
إن البروليتاريا بمجرد استيلائها على الحكم سوف تقاتل للاحتفاظ به إلى النهاية. وحيث يكون أحد أسلحتها في هذا القتال للاحتفاظ بالسلطة وتدعيمها هو التحريك والتنظيم في الريف بشكل خاص، يكون سلاحها الآخر هو انتهاج سياسة تجميعية. ولن يكون التجميع الطريق الحتمية الوحيدة إلى الأمام من الموقع الذي يجد الحزب الحاكم نفسه فيه فحسب، بل أداة الاحتفاظ بهذا الموقع بمساندة البروليتاريا أيضا.
عندما تبلورت فكرة الثورة المستمرة في الصحافة الإشتراكية، هذه الفكرة التي تربط بين تصفية الحكم المطلق وبين الثورة الإشتراكية إلى جانب تفاقم الصراعات الإجتماعية وتمرد قطاعات جماهيرية جديدة وشن البروليتاريا الهجمات المستمرة على الامتيازات الإقتصادية والسياسية للطبقات الحاكمة، عندما تبلورت هذه الفكرة أطلقت صحافتنا "التقدمية" صيحة استنكار واحدة. فصاحت: "أواه! لقد تحملنا كثيرا، ولكننا لن نتحمل المزيد. ليست الثورة طريقا يمكن جعلها شرعية". فتطبيق الإجراءات الاستثنائية أمر مسموح في الظروف الاستثنائية فقط. وليس من نية حركة التحرر أن تجعل الثورة دائمة ولكن أن تقودها بأسرع وقت ممكن في طريق "القانون"، إلى آخره، إلى آخره.
إن أكثر العناصر جذرية في هذه الديمقراطية نفسها، لم يجازفوا بالوقوف ضد الثورة حتى من وجهة نظر "مكاسب" دستورية مؤمنة سلفا. فهذه البلاهة البرلمانية التي تسبق نشوء البرلمانية ذاتها لا تشكل سلاحا ماضيا في الصراع ضد الثورة البروليتارية. فنجدهم يختارون طريقا أخرى. إنهم يحددون موقفهم ليس على أساس القانون ولكن على ما يبدو لهم وكأنه أساس للوقائع، أي على أساس "الإمكان" التاريخي، وعلى أساس "الواقعية" السياسية، وأخيرا… أخيرا حتى على أساس "الماركسية" ذاتها. ولم لا؟ ألم يكن على حق ذلك البرجوازي الفينيسي أنطونيو إذ قال: "الشيطان قد يستشهد حتى بالإنجيل لخدمة أغراضه"؟.
إن هؤلاء الديمقراطيين الراديكاليين لا يرهبون فكرة الحكومة العمالية في روسيا فحسب، إنهم يتنكرون إمكان قيام ثورة اشتراكية في أوروبا في الحقبة التاريخية المقبلة أيضا. إنهم يقولون: "إن الشروط المسبقة للثورة لم تتوفر بعد". هل هذا صحيح؟ ليست القضية بالطبع، قضية تحديد ساعة الصفر لقيام الثورة الإشتراكية، ولكن من الضروري الإشارة إلى توقعاتها التاريخية الحقيقية.


--------------------------------------------------------------------------------

7- الشروط المسبقة لتحقيق الإشتراكية
إن الماركسية قد حوّلت الاشتراكية إلى علم، غير أن هذا لم يمنع بعض "الماركسيين" من تحويل الماركسية إلى مذهب طوباوي.
لقد عرض روجكوف، في معرض رده على البرمجة الاشتراكية والتعاونية، "الشروط المسبقة الضرورية للمجتمع المقبل كما أرساها ماركس" فطرح هذا السؤال: "هل توفرت حتى الآن الشروط المسبقة المادية والموضوعية التي تتكون من التطور التقني الذي يضعف دافع الكسب الفردي والانشغال بالنقد(؟) والمجهود والمبادرة والمجازفة الفردية ويحد منها، والذي يجعل بالتالي من مسألة الإنتاج الإجتماعي مسألة من المرتبة الأولى؟ إن مثل هذا المستوى من التقنية يرتبط ارتباطا صميما بسيطرة الإنتاج الكبير شبه التام على الجميع(؟) فروع الإقتصاد. فهل بلغنا هذا الطور؟ حتى الشروط المسبقة الذاتية والنفسية ما تزال غير متوفرة مثل نمو الوعي الطبقي لدى البروليتاريا إلى المستوى الذي يحقق الوحدة الروحية بين غالبية الشعب الساحقة". ويستطرد روجكوف قائلا: "إننا نعلم بوجود جمعيات إنتاجية مثل معامل الزجاج الفرنسية الشهيرة في "آلبي" وبعدة جمعيات زراعية أخرى في فرنسا، ومع ذلك فإن تجربة فرنسا تؤكد، بما لا يسمح الشك، أنه حتى ظروف بلد عريق في تقدمه كفرنسا لم تتبلور بما فيه الكفاية لتسمح بطغيان العلاقات التعاونية. هذه المشاريع هي ذات حجم متوسط فقط، وليس مستواها التقني أعلى مستوى الفعاليات الرأسمالية، إنها ليست في مقدمة التطور الصناعي، إنها لا تقوده، وإنما هي أقرب إلى المستوى المتوسط المتواضع.
"فقط عندما تبرهن تجربة الجمعيات الإنتاجية الفردية عن كونها تلعب دورا قياديا في الحياة الإقتصادية يصبح بمقدورنا القول أننا نقترب من نظام جديد، وإذ ذاك فقط نستطيع أن نتأكد من أن الظروف الضرورية لوجودها قد توفرت".
مع احترامنا لنوايا روجكوف الحسنة، يؤسفنا أن نعترف أنه ناذرا ما نلتقي حتى في الكتابات البرجوازية تخبّطا كالذي يقع فيه بصدد ما يسمّى بالشروط المسبقة لتحقيق الإشتراكية. ويجدر بنا أن نلقي نظرة على هذا التخبط إن لم يكن من أجل روجكوف فمن أجل القضية.
يعلن روجكوف أننا لم نصل بعد إلى ذلك المستوى من التطور التقني الذي يضعف دافع الكسب الفردي والانشغال بالنقد[؟] وبالمجهود وبالمبادرة والمجازفة الفردية ويحدّ منها، والذي يجعل بالتالي من مسألة الإنتاج الإجتماعي مسألة في المرتبة الأولى.
إنه لمن الصعب أن نكتشف ما يعنيه هذا المقطع. يبدو أن روجكوف يريد أن يقول، في الدرجة الأولى، أن التقنية الحديثة لم تطرد بعد من الصناعة عددا كافيا من طاقات العمل البشري؛ وفي الدرجة الثانية، أن عملية الطرد هذه لن تتمّ إلا بعد أن تسيطر المشاريع الكبرى سيطرة شبه تامة على جميع فروع الإقتصاد فيتحول بالتالي جميع سكان البلد إلى بروليتاريين تحولا شبه كامل. ويدّعي روجكوف أن هاذين هما الشرطان المسبقان للاشتراكية كما "أرسى قواعدها ماركس".
فلنحاول أن نتصور كيف سيكون وضع العلاقات الرأسمالية التي يعتبر روجكوف أن الاشتراكية ستواجهها عند قدومها. إن "السيطرة شبه التامة للمشاريع الكبيرة على جميع فروع الإقتصاد" يعني، في ظل الرأسمالية، أن يتحول المنتجون الصغار والمتوسطون في الزراعة والصناعة إلى بروليتاريين كما ورد سابقا، أي أن تحول الشعب بأسره إلى بروليتاريا. غير أن السيطرة التامة للتقنية الآلية على هذه المشاريع الكبرى سوف تؤدي إلى التقليل من تشغيل طاقة العمل البشرية إلى أبعد حد، فتتحول الغالبية الساحقة من سكان البلد، فلنقل 90% منهم، إلى جيش عمل احتياطي يعيش في المساكن العمالية على حساب الدولة. لقد قلنا 90% من عدد السكان، ولكن لا شيء يمنعنا من أن نكون منطقيين فنتخيل وضعا تقتصر فيه عملية الإنتاج كلها على آلة أوتوماتيكية واحدة تملكها جمعية صناعية واحدة يفي قرد مدّرب واحد حاجتها إلى العمل الحيّ. وكما نعلم هذه النظرية المتماسكة اللامعة التي تدعو إليها البروفيسور "توغان- بارانوفسكي". في مثل هذه الظروف، لا يتحلّ "الإنتاج الإجتماعي" "المرتبة الأولى" فحسب، بل يسيطر سيطرة تامة أيضا. وفي مثل هذه الظروف، من الطبيعي أن يتحول الاستهلاك أيضا تحولا اشتراكيا لأن الأمة بأسرها، باستثناء العشرة بالمائة الذين يملكون "الترو تست" ستعيش على نفقة الحساب العام في المساكن العمالية. وهكذا يطل من وراء روجكوف وجه مألوف باسمٌ هو وجه "توغان- بارانوفسكي". والآن، تستطيع الإشتراكية أن تظهر على المسرح. فيخرج الشعب من المساكن العمالية ويصادر أملاك مجموعة المالكين. ولا حاجة طبعا للثورة أو لديكتاتورية البروليتاريا.
يعتبر روجكوف أن الدلالة الاقتصادية الثانية على نضج البلد لقيام الإشتراكية تكمن في إمكانية سيطرة الإنتاج التعاوني في داخله. وحتى معامل الزجاج التعاونية في "البي" في فرنسا ليست على مستوى أرقى من مستوى أي مشروع رأسمالي آخر. فالإنتاج الاشتراكي يصبح ممكنا فقط عندما تكون التعاونيات في مقدمة التطور الصناعي، أي عندما تكون هي المشاريع القائدة.
إن هذه الحجة بكاملها مقلوبة رأسا على عقب. إن التعاونيات لا تستطيع أن تقود التطور الصناعي ليس لأن هذا التطور لم يقطع الأشواط البعيدة وإنما لأنه قد تقدم أبعد من اللازم. ولا شك في أن التطور الإقتصادي يخلق أساسا يقوم عليه التعاون، ولكن ما هو نوع هذا التعاون؟ إذا كنا نبحث عن التعاون الرأسمالي، المبني على العمل المأجور، فإن كل مصنع يرينا صورة من هذا التعاون الرأسمالي. ومع تطور التقنية تتزايد أهمية مثل هذا التعاون أيضا. ولكن ما هي الطريقة التي تمكن تطور الرأسمالية من وضع الجمعيات التعاونية في "مقدمة الركب الصناعي"؟ وعلى ماذا يبني روجكوف آماله أن الجمعيات التعاونية سوف تتمكن من طرد الجمعيات الصناعية "والتروستات" والحلول مكانها في مقدمة ركب التطور الصناعي؟ من البديهي أنه إذا تمّ ذلك، فلن يبقى على الجمعيات التعاونية إلا أن تقدم فورا على مصادرة جميع المشاريع الرأسمالية، ثم تخفيض بعد ذلك ساعات العمل في اليوم بحيث يتوفر العمل للجميع وتعدل حجم الإنتاج في مختلف المجالات لكي تتفادى الأزمات. بهذه الطريقة تكون قد أوجدت المعالم الأساسية للنظام الإشتراكي. ويتضح هنا أيضا أنه لا حاجة مطلقا للثورة أو لديكتاتورية البروليتاريا.
أما الشرط المسبق الثالث فهو ذو طابع نفسي: الحاجة إلى "أن يصل الوعي الطبقي عند البروليتاريا إلى المستوى الذي يخلق الوحدة الروحية بين غالبية الشعب الساحقة". بما أن "الوحدة الروحية" في هذا المجال تعني، ولا شك، التضامن الإشتراكي الواعي، نخلص إذن إلى أن الرفيق روجكوف يعتبر أن الشرط النفسي المسبق للاشتراكية هو تنظيم "غالبية الشعب الساحقة" في صفوف الحزب الاشتراكي- الديموقراطي. فمن الواضح، إذن، أن روجكوف يسلم بأن الرأسمالية، بدفعها المنتجين الصغار إلى صفوف البروليتاريا وبدفعها العمال إلى صفوف جيش العمل الاحتياطي، سوف تمهد الطريق أمام الحركة الاشتراكية- الديموقراطية لتنور غالبية الشعب الساحقة (90%) وتجمعهم في وحدة روحية.
هذا أمر يستحيل تحقيقه في عالم الرأسمالية البربرية بقدر ما يستحيل طغيان التعاونيات في نطاق المضاربة الرأسمالية. ولكن إذا كان تحقيقه ممكنا، فمن الطبيعي إذن أن تقوم "غالبية الشعب الساحقة"، الموحدة روحا ووعيا، بسحق بعض كبار الرأسماليين دون ما صعوبة بالغة وتنظيم الإقتصاد وفق نهج اشتراكي دون الحاجة إلى ثورة أو ديكتاتورية.
ولكن يبرز هنا السؤال التالي. إن روجكوف يعتبر نفسه تلميذا لماركس. غير أن ماركس، بعد عرضه "للشروط المسبقة الأساسية للاشتراكية" في "البيان الشيوعي"، اعتبر ثورة 1848 مدخلا مباشرا إلى الثورة الاشتراكية. طبعا لا يحتاج المرء إلى نظر ثاقب لكي يفهم، بعد ستين عاما، أن ماركس كان مخطئا لأن العالم الرأسمالي ما زال قائما. ولكن كيف ارتكب ماركس خطاً كهذا؟ ألم يلاحظ أن المشاريع الكبيرة لم تسيطر بعد على جميع فروع الاقتصاد، وإن التعاونيات الإنتاجية لم تستول بعد على قيادة المشاريع الكبرى، وأن غالبية الشعب الساحقة لم تتوحد بعد حول الأفكار التي طرحها "البيان الشيوعي"؟ وإذا كنا لا نلاحظ هذه الأشياء حتى في وقتنا هذا، لماذا لم يلاحظ ماركس عام 1848 أنها غير موجودة؟ يبدوا أن ماركس كان يافعا طوباويا عام 1848 إذا ما قارنا بينه وبين جهابذة الماركسية الحاليين المعصومين من الخطأ !
هكذا نرى أنه بالرغم من أن الرفيق روجكوف لا ينتمي بأي حال من الأحوال إلى نقاد ماركس، فإنه يهمل كون الثورة البروليتاريا من الشروط المسبقة الأساسية للاشتراكية. وبما أن روجكوف يعبر بوضوح تام عن آراء عدد لا بأس به من الماركسيين في كلا جناحي الحزب، فمن الضروري أن نستدل إلى جذور الأخطاء التي ارتكبها في المبدأ وفي الوسيلة.
ولابد من أن نشير بشكل عابر إلى أن حجّة روجكوف فيما يتعلق بمصير التعاونيات تخصُّه هو وحده. فلم يسبق لنا أن قابلنا اشتراكيين يعتقدون بمقل هذا التقدم البسيط الدائم نحو مركزة الإنتاج وإفقار الشعب إلى جانب اعتقادهم، بالدور الطاغي الذي تلعبه الجمعيات التعاونية الإنتاجية قبيل ثورة البروليتاريا. إن جميع هذين الشرطين المسبقين على صعيد النمو الاقتصادي أصعب بكثير من جمعهما في رأس الباحث رغم إنه كان يبدو لنا أن حتى هذا الأخير أمر مستحيل.
ولكننا سوف نعالج "شرطين مسبقين" آخرين يعبّران عن عُقَدٍ أكثر وضوحا. لا شك في أن تمركز الإنتاج وتطور التقنية ونمو الوعي عند الجماهير هي الشروط المسبقة الأساسية للاشتراكية. غير أن هذه العمليات تجري في آن واحد وتكون الواحدة منها حافزاً للأخرى، ولكن تعيق الواحدة منها الأخرى، في الوقت ذاته، وتحدّ منها. فكل واحدة من هذه العمليات تتطلب، وهي في مستوى أرقى، تطورا معينا لعملية أخرى على مستوى أدنى. غير أن التطور الكامل لكل منها يتعارض مع التطور الكامل للعمليات الأخرى.
لا شك في أن تطور التقنية يبلغ حده المثالي عند توفر تركيب آلي واحد ينتزع المواد الخام في رحم الطبقية ويلقى بها عند قدمي الإنسان على شكل مواد استهلاكية جاهزة. ولو لم تكن العلاقات الطبقية والنضال المتأتي منها عاملا يحد من وجود النظام الرأسمالي، لكان لنا بعض الحق في أن نفترض أن التقنية، عندما تقترب من بلوغ مثال التركيب الآلي الواحد ضمن إطار النظام الرأسمالي، سوف يؤهلها هذا أن تلغي الرأسمالية فورا.
إن تمركز الإنتاج الذي ينتج عن قوانين المضاربة يتجه، من تلقاء ذاته، إلى إفقار جميع السكان. وإذا استثنينا هذا الاتجاه، يحقّ لنا أن نفترض أن الرأسمالية سوف تقوم بعملها إلى النهاية إذا لم تندلع الثورة خلال عملية الإفقار، غير أن وجود علاقة معينة بين القوى يحتم اندلاع الثورة قبل مدة طويلة من أن تحول الرأسمالية سكان الأمة إلى جيش احتياطي يعيش في ثكنات هي أشبه بالسجون.
وبالإضافة لذلك، فلا بد للوعي من أن ينمو بشكل مضطرد، ذلك بفضل تجربة النضال اليومي وبفضل المجهود الواعي الذي تبذله الأحزاب الاشتراكية. وإذا استثنينا هذه العملية، يمكننا أن نلاحق في مخيلتنا هذا النمو حتى تنضم غالبية الشعب إلى النقابات والمنظمات السياسية يجمع بينها روح التضامن ووحدة الهدف. إذن تسنّى لهذه العملية حقا أن تتزايد كميا دون أن يؤثر ذلك على نوعيتها، إذن لأمكن تحقيق الاشتراكية سلميا بواسطة "حركة مدنية" شاملة ووعيا في وقت ما من القرن الحادي والعشرين أو الثاني والعشرين.
إلا أن النقطة كلها تكمن في أن العمليات التي تشكل الشروط المسبقة التاريخية للاشتراكية لا تتطور بشكل معزول وإنما تحدّ الواحدة منها الأخرى وعندما تبلغ تطورا معينا، تحدّده ظروف عديدة بعيدة كل البعد عن الحدود الحسابية لهذه العمليات، تتغير نوعيا ويتولد من تركيبها المعقد ما اصطلح على تسميته بالثورة الإجتماعية.
سنبدأ من العملية الآنفة الذكر: نمو الوعي. إن هذه العملية لا تأخذ مجراها كما هو معلوم في الأكاديميات حيث يمكن حجز البروليتاريا بشكل مصطنع لخمسين أو مائة أو حتى خمسمائة عام، وإنما تأخذ مجراها في مسيرة المجتمع الرأسمالي الشاملة على أساس صراع طبقي لا يتوقف. وإن نمو الوعي عند البروليتاريا يحوّل الصراع الطبقي ويضفي عليه طابعاً هادفا وأكثر عمقا مما يستجلب بدوره ردة فعل من قبل الطبقات المسيطرة. ويصل نضال البروليتاريا ضد البرجوازية إلى مرحلة الانفراج قبل زمن طويل من بدء سيطرة المشاريع الكبرى على جميع فروع الصناعة.
وبالإضافة إلى ذلك، يصح القول طبعا أن نمو الوعي السياسي يعتمد على تزايد أعداد البروليتارية، وأن ديكتاتورية البروليتاريا يفترض أن تكون أعداد البروليتاريا كبيرة بحيث تمكنها من التغلب على مقاومة الثورة البرجوازية المضادة. إلا أن هذا لا يعني، بأي حال من الأحوال، أنه يجب على "غالبية الشعب الساحقة" أن تكون في الطبقة العاملة، أو أن تكون "الغالبية الساحقة" من العمّال من الاشتراكيين الواعين. ومن الواضح، طبعا، أنه يجب أن يكون جيش البروليتاريا الثوري الواعي أقوى من جيش رأس المال المضاد للثورة؛ وكذلك يجب أن تكون الفئات الوسطى والمترددة أو غير المبالية من الشعب في وضع يسمح لنظام ديكتاتورية البروليتاريا أن يستميلها إلى معسكر الثورة وإلا ينفّرها فتنضم إلى معسكر أعدائها. ويتوجب على السياسة البروليتارية، طبعا، أن تعي ذلك وأن نأخذه بعين الاعتبار.
إن كل هذا يفترض هيمنة الصناعة على الزراعة وسيطرة المدينة على الريف.
*****
سوف ننتقل الآن إلى تفحص الشروط المسبقة للاشتراكية وفق تقّلص نسبة عموميتها وتزايد نسبة تعقيدها.
1- ليست الاشتراكية مسألة توزيع متساو فحسب وإنما هي مسألة إنتاج مبرمج كذلك.و الاشتراكية، أي الإنتاج التعاوني في نطاق واسع، ممكنة فقط عندما يبلغ تطور قوى الإنتاج مستوى تنتج فيه المشاريع الكبرى أكثر مما تنتج المشاريع الصغيرة. فعندما ترجح كفة المشاريع الكبيرة على كفة المشاريع الصغيرة، أي عندما يتزايد نمو التقنية، تتضاعف الفوائد الاقتصادية للإنتاج الاشتراكي ويصبح المستوى الثقافي للشعب كله أكثر ارتفاعا نتيجة التوزيع المتساوي المبني على الإنتاج المبرمج.
لقد كان الشرط المسبق الأول للاشتراكية متوفرا منذ زمن طويل، منذ أن أدّى التقسيم الإجتماعي للعمل إلى تقسيم العمل في نظام المانفاتورة. وقد اتسعت رقعته منذ أن حلّ الإنتاج الآلي في المصنع مكان المانفاتورة. فغدت المشاريع الكبرى أكثر وأكثر فائدة الأمر الذي يعني أن تحويل هذه المشاريع إلى مؤسسات اشتراكية سوف يزيد من ثروة المجتمع. ومن الواضح أن انتقال جميع مشاغل الصناعة اليدوية إلى ملكية عامة لجميع الصناع ما كان سيزيد من ثرائهم قيراطا واحدا؛ في حين أن انتقال المانفاتورة إلى ملكية عامة للعمال بالقطعة، أو انتقال المصانع إلى أيدي العمال الذين يعملون فيها، أو بالأحرى انتقال جميع وسائل الإنتاج الكبيرة إلى أيدي جميع السكان سوف يرفع مستوى الشعب المادي ولا شك؛ وبمقدار ما يكون المستوى الذي بلغه الإنتاج الكبير كذلك يكون مستوى الشعب.
غالبا ما تتكلم الكتابات الاشتراكية عن "بيلرز"، النائب الإنكليزي [42] الذي قدم للبرلمان عام 1696، أي قبل مؤامرة "بابوف" بمدة قرن، مشروعا يقضي بإنشاء جمعيات تعاونية تزوّد نفسها بجميع ما تحتاجه بشكل مستقل. ويقضي هذا الإجراء بأن تضم هذه التعاونيات الإنتاجية عددا يتراوح بين مائتين وثلاثمائة شخص. لن نستطيع هنا أن نمتحن حجة السيد "بيلرز" فهي ليست ضرورية لما نسعى إليه، المهم في الأمر هو أن الاقتصاد الجماعي، حتى ولو نظرنا إليه فقط على أساس مجموعات مائة أو مائتين أو ثلاثمائة أو خمسمائة شخص، كان يعتبر إجراءً نافعا من وجهة النظر الإنتاجية حتى في نهاية القرن السابع عشر.
وفي بداية القرن التاسع عشر، نشر "فورييه" مشاريعه المتعلقة بإنشاء جمعيات إنتاجية-استهلاكية تدعى "الفالانستير" تضم الواحدة منها عددا يتراوح بين ألفين وثلاثة آلاف شخص. ولم تكن حسابات فورييه تتميّز بالدقة مطلقا، وعلى كلٍ فقد أوحى له تطور المانفاتورة في ذلك الحين بجمعيات اقتصادية أوسع بكثير من تلك التي ذكرناها منذ قليل. ومهما يكن من الأمر، فمن الواضح أن جمعيات "جون بيلرز" و"الفالانستير" التي يحلم بها فورييه على حد سواء هي أقرب ما تكون في طبيعتها إلى المشاعات الإقتصادية الحرة التي يحلم بها الفوضويون. ولا تكمن طوباوية هذه المشاعات في "استحالة تحقيقها" ولا في كونها "ضد الطبيعة"، فلقد برهنت تجربة المشاعات الشيوعية في أمريكا عن إمكان تحقيقها، وإنما تكمن في كونها متخلفة بمائتي عام عن مسيرة التطور الإقتصادي.
لقد أدّى تطور التقسيم الإجتماعي من وجهة الإنتاج الذي يعتمد على الآلة من جهة أخرى إلى إيجاد وضع يجعل من الدولة، في زماننا هذا، الهيئة التعاونية التي تستطيع أن تستغل فوائد الإنتاج الجماعي على نطاق واسع. وبالإضافة إلى ذلك فإن سبابا اقتصادية وسياسية توجب على الإنتاج الإشتراكي أن يتخطى الحدود العنيفة لكل دولة بمفردها.
لقد أحصى "اتلنتيكس"، الإشتراكي الألماني الذي لا يتبنى وجهة النظر الماركسية، المنافع الإقتصادية المتأتية من تطبيق الاقتصاد الاشتراكي ضمن نطاق ألمانيا في نهاية القرن الثامن عشر. ولم يكن اتلنتيكس يتميز مطلقا بالخيال المحلِّق. فقد كانت أفكاره تدور عادة في فلك رتابة الرأسمالية الاقتصادية. فبنى حججه على كتابات علماء زراعيين ومهندسين معاصرين يمكن الإعتماد عليهم. وإن هذا لا يضعف من حججه إنما هو الجانب المنيع منها إذ يحول دون إنحرافه في تفاؤل لا مبرر له. وعلى كلٍ، فقد خلص اتلنتيكس إلى أن دخل العامل سوف يتضاعف مثنى وثلثا، وأن يوم العمل سوف يتقلص إلى نصف ما كان عليه إذا توفر التنظيم الصحيح للاقتصاد الاشتراكي وتشغيل الموارد التقنية التي كانت متوفرة في منتصف العقد الأخير من القرن التاسع عشر.
ومع ذلك لا يجب أن نظن أن اتلنتيكس هو أول من أظهر فوائد الإشتراكية الاقتصادية. إن ارتفاع إنتاجية العمل في المشاريع الكبرى، من جهة، وضرورة تنظيم الإنتاج من جهة أخرى، كما أفصحت عنها الأزمات الاقتصادية، لهي أدلة أكثر اقتناعا بضرورة الاشتراكية من الدفتر الذي يعرض فيه اتلنتيكس حساباته الاشتراكية. إن الخدمة التي قدّمها تكمن في كونه عبّر عن هذه الفوائد بواسطة أرقام تقريبية.
يحق لنا، استنادا إلى ما ورد، أن نخلص إلى أن النمو المضطرد لطاقة الإنسان التقنية سوف تزيد من منافع الاشتراكية أكثر فأكثر، وأن الشرط المسبق للتقنية الكافية لتحقيق الإنتاج الجماعي متوفرة منذ مائة أو مأتي سنة، وان الاشتراكية في الوقت الحاضر مفيدة من الناحية التقنية ليس على الصعيد الوطني فحسب وإنما على الصعيد العالمي إلى بعيد أيضا.
إن مجرد توفر الفوائد التقنية لم يكن وحده كافيا لتحقيق الاشتراكية. لقد تجلت فوائد الإنتاج الكبير على شكل رأسمالي وليس على شكل اشتراكي خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر. ولم تنفذ مشاريع بيلرز أو فورييه. لماذا؟ لأن القوى الاجتماعية المؤهلة والمستعدة لتنفيذها لم تكن قد وجدت بعد.
2- ننتقل الآن من الشروط المسبقة ذات الطابع الإنتاجي والتقني إلى الشروط المسبقة للاشتراكية ذات الطابع الاجتماعي- الاقتصادي. لو لم نكن نعالج في هذا المضمار مجتمعاً يمزقه التناقض الطبقي، وإنما مجتمع منسجم يختار بوعي شكل نظامه الاقتصادي لكانت حسابات اتلنتيكس كافية، ولا شك، للشروع من بناء الإشتراكية. هكذا، بالتأكيد، كان اتلنتيكس، ذلك الاشتراكي المبتذل، ينظر إلى ما قام به. إن وجهة النظر هذه لم يعد بالإمكان تطبيقها في الوقت الحاضر إلا ضمن حدود عمل رجل أعمال فردي أو شركة. ومن حقنا أن نفترض أن المالكين لن يقبلوا بأية خطة للإصلاح الإقتصادي، كإدخال الآلية الحديثة واستعمال مواد خام جديدة أو شكل جديد من أشكال تنظيم العمل أو أنظمة جديدة للترقم، إلا إذا أمكن تبيان الفائدة التجارية التي تنتج عنها. غير أن هذا ليس كافيا ما دمنا في صدد معالجة اقتصاد مجتمع بكامله. إن مصالح متضاربة تتصارع هنا. فما هو لصالح الواحد ليس لصالح الآخر. إن أنانية الطبقة الواحدة لا تسيء إلى أنانية الطبقة الأخرى فحسب وإنما تسيء إلى المجتمع بأسره أيضا. لذا فالشرط الضروري لتحقيق الإشتراكية هو أن يوجد، بين الطبقات المتعادية في المجتمع الرأسمالي قوّة اجتماعية لها مصلحة، بحكم ظرفها الموضوعي، في تحقيق الإشتراكية وتكون على جانب من القوة بحيث تستطيع أن تتغلب على المصالح والهجمات المعادية لكي تحقق هذه الإشتراكية.
إن إحدى الخدمات الأساسية التي قدمتها الاشتراكية العلمية هي أنها اكتشفت، على الصعيد النظري، إن البروليتاريا هي هذه القوة الإجتماعية؛ وبيّنت أن هذه الطبقة، التي تنمو بشكل حتمي مع نمو الرأسمالية، لا تجد خلاصها إلا في الاشتراكية؛ وأن وضع البروليتاريا العام يدفعها نحو الإشتراكية وأنه لا بد للاشتراكية من أن تصبح في المدى البعيد أيديولوجية الطبقة العاملة.
من السهل إذن، أن نبين الخطوة الجبارة إلى الوراء التي خطاها اتلنتيكس عندما يؤكد أنه حالما يثبت "أن انتقال وسائل الإنتاج إلى يد الدولة لا يوفر البحبوحة العامة فحسب بل يؤدي إلى تخفيض يوم العمل أيضا، يجعل من موضوع تأكد صحة نظرية تمركز رأس المال واختفاء الطبقات الوسطى في المجتمع موضوعا لا أهمية له".
ويعتبر اتلنتيكس أنه طالما تتأكد فواد الاشتراكية "يغدو من العبث تعليق الآمال على صنم التطور الإقتصادي، ويتوجب القيام بتحريات واسعة والشروع [!] في التحضير الكامل الشامل للانتقال من الإنتاج الفردي إلى الإنتاج الحكومي أو الإجتماعي [43]".
عندما يعترض اتلنتيكس على الطابع المعارض البحث لتكتيك الاشتراكيين-الديموقراطيين، ويقترح "الشروع" فورا في تحضير للانتقال إلى الاشتراكية، إنما ينسى أن الإشتراكيين-الديموقراطيين ما زالوا يفتقرون إلى القوة اللازمة لتحقيق ذلك، وأن وليم الثاني وبولا وغالبية أعضاء الرايخستاغ الألمان لا ينوون مطلقا أن يدخلوا الاشتراكية رغم كونهم يمسكون بزمام الحكم. وإن خطط اتلنتيكس الاشتراكية ليست أكثر إقناعا لسلالة الهوهنزولرن مما كانت عليه خطط فورييه بالنسبة لسلالة البوربون؛ ولا يجب أن يغيب عن أذهاننا أن فورييه قد بنى "مدينته الفاضلة السياسية" على بدع حماسية في حقل النظرية الاقتصادية، في حين أن اتلنتيكس، الذي لا يقل طوباوية عن فورييه في حقل السياسية، قد بنى نظريته على إحصائيات رزينة متحذلقة.
ما هو المستوى الذي يجب أن يبلغه التمايز الطبقي لكي يتحقق الشرط المسبق الثاني للاشتراكية؟ وبكلمات أخرى: ماذا يجب أن يكون الثقل العددي النسبي للبروليتاريا؟ هل يجب أن يشكل نصف عدد السكان أم ثلثيه أم تسعة أعشاره؟ إنه لمن العبث أن نحاول تعريف الحدود الحسابية المجرّدة لهذا الشرط المسبق الثاني للاشتراكية؟ ففي الدرجة الأولى، علينا أن نقرر، في نطاق هذا المجهود المنهجي، من هو الشخص الذي يمكن تصنيفه بأنه بروليتاري؟ هل يجب أن نضع تحت هذا الإسم تلك الفئة الواسعة التي تقع بين البروليتاريا والفلاحين؟ هل يجب أن نضم الجماهير الاحتياطية بروليتاريا المدن، الذين يندمجون في البروليتاريا الطفيلية كمتسولين ولصوص من جهة، أو يملئون من جهة أخرى. شوارع المدينة كتجار صغار يلعبون دورا طفيليا فيما يتعلق بالنظام الإقتصادي ككل؟ ليست المسألة بسيطة على الإطلاق.
إن أهمية البروليتاريا تعتمد كليا على الدور الذي تلعبه في الإنتاج الكبير. إن البرجوازية تعتمد، في نضالها من أجل السيطرة السياسية، على قوتها الإقتصادية. وقبل أن تتمكن من تأمين السيطرة السياسية تعمد إلى حصر وسائل الإنتاج في البلد بين أيديها. هذا هو العامل الذي يمدِّد وزنها في المجتمع. ومهما يكن من الأمر، فإن البروليتاريا، بالرغم من الأوهام التعاونية، ستظل محرومة من وسائل الإنتاج إلى حين قيام الثورة الاشتراكية. إن قوتها الإجتماعية تكمن في كونها هي التي تستطيع تحريك وسائل الإنتاج التي تسيطر عليها البرجوازية. والبروليتاريا هي، من وجهة النظر البرجوازية، إحدى وسائل الإنتاج التي تكون بالتقائها مع الوسائل الأخرى تركيبا موحدا، ولكن البروليتاريا هي وحدها الجزء غير الآلي في هذا التركيب، ولا يمكن تحويلها إلى وضع آلة أوتوماتيكية مهما بذلت البرجوازية من مجهود. إن هذا الظرف يخول البروليتاريا أن توقف مسيرة اقتصاد المجتمع، جزئيا أو كليا، بواسطة إضرابات جزئية أو عامة. ويتضح من هذا أن أهمية البروليتاريا تتزايد بنسبة موازية لتزايد عدد القوى الإنتاجية التي تتولى تحريكها. هذا يعني، أن العامل في مصنع كبير، إذا ظلت العوامل الأخرى ثابتة، يملك ثقلا اجتماعيا أكبر من الثقل الذي يملكه عامل يدوي؛ وكذلك يملك العامل في المدينة ثقلا أكبر من ذلك الذي يملكه العامل في الريف. وبكلمات أخرى، فإن الدور السياسي الذي تلعبه البروليتاريا يتعاظم بقدر ما يزداد طغيان الإنتاج الكبير على الإنتاج الصغير، وبقدر ما تسيطر الصناعة على الزراعة وتسيطر المدينة على الريف. وإذا عدنا إلى تاريخ ألمانيا أو إنكلترا في الحقبة عندما كانت بروليتاريا هاذين البلدين تشكل نسبة من عدد السكان موازية للنسبة التي تشكلها البروليتاريا الآن في روسيا، نجد أن أهميتها الموضوعية لم تكن تؤهلها أن تلعب دورا سياسيا كالدور الذي تلعبه البروليتاريا في روسيا الآن.
إن الشيء نفسه ينطبق على دور المدن، كما سبق ورأينا. عندما كان عدد سكان المدن في ألمانيا يشكل 15% فقط من مجموع عدد السكان في البلد، كما هو الوضع في روسيا الآن، لم يخطر ببال أحد أن المدن الألمانية تستطيع أن تلعب دورا في حياة البلد الإقتصادية والسياسية كالذي تلعبه المدن الروسية في أيامنا هذه. إن حصر المؤسسات الصناعية والتجارية الكبيرة في المدن، وربط المدن بالريف بواسطة شبكة سكة حديد قد أضفى على مدننا أهمية تفوق بكثير أهمية عدد سكانها فقط؛ إن تزايد أهميتها قد سبق بأشواط بعيدة نمو عدد سكانها، في حين أن نمو عدد سكان المدن قد فاق بدوره الزيادة الطبيعية لعدد السكان في الريف بشكل عام… وفي إيطاليا عام 1848 لم يكن عدد العمال اليدويين - ليس البروليتاريين منهم فحسب وإنما الصناع المستقلين- يزيد عن 15% من مجموع عدد السكان، إنه ليس أقل من نسبة العمال اليدويين والبروليتاريين في روسيا الآن. ولكن الدور الذي كان يلعبه هؤلاء كان أضعف بكثير من الدور الذي تلعبه البروليتاريا الصناعية في روسيا.
يجب أن يتضح من جميع ما قيل أن نحاول بشكل مسبق تحديد النسبة من مجموع السكان التي يجب أن تكون في صفوف الطبقة العاملة في لحظة الإستيلاء على الحكم لهي مهمة لا تثمر. عوضا عن ذلك، سوف نقدم بعض الأرقام التقريبية التي تبين القوة العددية النسبية للطبقة العاملة في البلدان المتقدمة في الوقت الحاضر. كان عدد السكان العاملون في ألمانيا عام 1895 يبلغ 20.500.000 (هذا الرقم لا يشمل الجيش ولا الموظفين أو الأشخاص الذين لا يشتغلون في عمل محدد) ومن هذا العدد، كان هناك 12.500.00 عاملا (بما فيهم العمال المأجورين في الزراعة والصناعة والتجارة والخدمات البيتية)، وكان عدد العمال والعمال الزراعيين 10.750.000. وكان العدد الأكبر من الـ 8.000.000 الباقية من البروليتاريين أيضا من عمال من الصناعات المنزلية من أفراد العائلة العاملين. إلى آخره. وكان عدد العمال المأجورين في الزراعة يبلغ وحده 5.750.000 عاملا. فكان السكان العاملون في الزراعة يشكلون 36% من مجموع عدد السكان في البلد. نكرّر أن هذه الأرقام تشير إلى الوضع عام 1895. لقد أحدثت السنوات الإحدى عشر الأخيرة تغييرا هائلا، ولا شك، في اتجاه زيادة نسبة سكان المدن على نسبة سكان الريف (كان عدد سكان الريف يشكل عام 1882، 42% من المجموع)، وفي اتجاه زيادة نسبة البروليتاريا الصناعية على نسبة البروليتاريا الزراعية، وأخيرا في اتجاه زيادة كمية رأس المال المنتج لكل عامل صناعي كما كانت عليه عام 1895. ولكن حتى أرقام 1895 تبين أن البروليتاريا الألمانية تشكل القوة الإنتاجية الطاغية في البلد منذ زمن بعيد.
إن بلجيكا بلد صناعي بحيث يبلغ عدد سكانه 7.000.000 شخصا. ومن بين كل مائة شخص يعملون في عمل أو في آخر، يعمل 41% منهم في الصناعة بالمعنى الضيق لهذه الكلمة، ويعمل 21% فقط في الزراعة. ومن بين 3.000.000 شخص يعملون بشكل ثابت يوجد 1.800.000 منهم في صفوف البروليتاريا أي 60%. وتصبح الصورة أكثر وضوحا عندما نضيف إلى البروليتاريا المتميزة بوضوح العناصر الإجتماعية المرتبطة فيها، ما يسمى بالمنتجين "المستقلين" كالموظفين الصغار والجنود، إلى آخره الذين هم مستقلون شكلا فقط في حين أنهم عبيد لرأس المال فعلا.
وتمثل بريطانيا المكانة الأولى فيما يتعلق بتصنيع الإقتصاد وإفقار السكان. ففي عام 1901، بلغ عدد الأشخاص الذين يعملون في الزراعة، والتحريج وصيد الأسماك 2.300.000 شخصا، في حين بلغ عدد العاملين في الصناعة والتجارة والنقل 12.500.000 شخصا، وهكذا نرى أن سكان المدن يفوقون سكان الريف عددا في البلدان الأوروبية الرئيسية. غير أن الطغيان العظيم لسكان المدن لا يكمن فقط في كتلة القوى الإنتاجية التي يكونونها، وإنما في التكوين النوعي لأفرادها. فالمدينة تجذب أكثر العناصر حيوية وذكاء ومقدرة من الريف. إن محاولة إثبات هذا بواسطة الإحصائيات لأمر صعب، رغم أن المقارنة في تركيب الأعمار لسكان المدينة والريف هو دليل غير مباشر على ذلك. ولهذه الحقيقة دلالتها الخاصة. ففي ألمانيا 1896 كان عدد الذين يعملون في الزراعة 8.000.000 وكان عدد الذين يعملون في الصناعة 8.000.000 أيضا. ولكن إذا قسمنا السكان وفق أعمارهم، نجد الذين يعملون في الزراعة يفوقون عدد الذين يعملون في الصناعة بمليون شخص في سليمي الأبدان تتراوح أعمارهم بين 14 و40 عاما. هذا يظهر أن "الكهول واليافعين" هم الذين يبقون بشكل خاص في الريف.
ويؤدي بنا هذا إلى الإستنتاج أن نمو الصناعة، ونمو المشاريع الكبرى، ونمو المدن، ونمو البروليتاريا بشكل عام والبروليتاريا الصناعية بشكل خاص قد مهّد الطريق ليس فقط أمام نضال البروليتاريا من أجل السلطة السياسية وإنما من أجل استيلائها على الحكم كذلك.
3- أصبح بإمكاننا الآن أن نعالج الشرط المسبق الثالث للاشتراكية: ديكتاتورية البروليتاريا. إن السياسة هي الصعيد حيث تتقاطع الشروط المسبقة الموضوعية للاشتراكية مع الشروط المسبقة الذاتية. ففي ظروف اجتماعية-اقتصادية محدّدة تضع طبقة معينة نصب أعينها هدف الاستيلاء على السلطة السياسية، فتجمع قواها وتزن قوة العدو وتقدر الوضع. حتى في هذا النطاق الثالث لا تكون البروليتاريا حرة تماما. فعلاوة عن العوامل الذاتية، كالوعي والاستعداد والمبادرة التي يسير تطورها وفق منطق خاص، ستواجه البروليتاريا في معرض تنفيذها لسياستها عددا من العوامل الموضوعية كسياسة الطبقات الحاكمة، ومؤسسات الدولة الموجودة (كالجيش والمدارس الطبقية والكنيسة الحكومية) والعلاقات الدولية، إلى آخره.
سوف نعالج في بادئ الأمر الظروف الذاتية: استعداد البروليتاريا للثورة الاشتراكية. لا يكفي طبعا أن يكون مستوى القضية قد جعل الإقتصاد الاشتراكي مفيدا من وجهة نظر إنتاجية العمل الاجتماعي. ولا يكفي أيضا أن يكون التمايز الطبقي الذي يقوم على هذه التقنية قد خلق طبقة عاملة هي الطبقة الأساسية نظرا لأعدادها وللدور الإقتصادي الذي تلعبه، والتي لها مصلحة موضوعية في الإشتراكية. فمن الضروري أيضا أن تكون هذه الطبقة واعية لمصالحها الموضوعية؛ من الضروري أن تكون قد فهمت أن لا مخرج لها إلا من خلال الاشتراكية، ومن الضروري أن تنضوي تحت لواء جيش يكون من القوة بحيث يستطيع الاستيلاء على السلطة السياسية في معركة علنية.
إنه من البلاهة في الوقت الحاضر أن ننكر ضرورة أن تتحضر البروليتاريا على هذا الشكل. إن "البلانكيين" الذين تخطاهم الزمن هم وحدهم الذين يأملون بالخلاص من خلال مبادرة منظمات تآمرية تتبلور بمعزل عن الجماهير؛ أما الفوضويون، الذين يقعون على طرفي نقيض معهم هم الذين يعتقدون بانتفاضة جماهيرية عفوية لا يمكن لأحد أن يتكهن بما ستؤدي إليه. إن الاشتراكيين-الديمقراطيين يعتبرون أن استلام السلطة هو عمل واع تضطلع به طبقة ثورية.
غير أن عددا من الإيديولوجيين [44] (بالمعنى السيئ لهه الكلمة، أي هؤلاء الذين يقلبون الأمور رأسا على عقب) يتكلمون عن تحضير البروليتاريا للاشتراكية بمعنى بعثها أخلاقيا. فيجب على البروليتاريا، وحتى على "البشرية" جمعاء، أن تتحرر بادئ بدء من طبيعتها الأنانية القديمة ويجب أن تطغى الغيرة على الحياة الاجتماعية، وإلى ما هنالك. وبما أننا مازلنا بعيدين جدا عن مثل هذا الوضع، وبما أن "الطبيعة البشرية" تتغير ببطء شديد، إذن تؤجل الاشتراكية لعدة قرون. قد تبدو وجهة النظر هذه واقعية جدا وتطويره وإلى ما هنالك، ولكنها ليست في الواقع سوى ضرب من التبشير الأخلاقي الضحل.
ويُفترض أنه يجب تنمية النفسية الاشتراكية قبل قيام النظام الاشتراكي، وبكلمات أخرى انه من الممكن الوصول إلى نفسية اشتراكية في ظل النظام الرأسمالي. لا يجب أن نخلط، في هذا المضمار، بين الإتجاه الواعي نحو الإشتراكية وبين النفسية الإشتراكية. فإن هذه الأخيرة تفترض تحرّر الحياة الاقتصادية من الدوافع الأنانية، في حين ينبثق الاتجاه نحو الاشتراكية والنضال لبلوغها في النفسية الطبقية عند البروليتاريا. ومهما يكن من أمر، ثمة نقاط التقاء عديدة بين النفسية الطبقية عند البروليتاريا وبين نفسية المجتمع الطبقي، ولكن ثمة بون شاسع يفصل بينهما.
يوّلد النضال المشترك ضد الإستغلال ومضات رائعة من المثالية والتضامن الرفاقي والتضحية بالنفس؛ وفي الوقت نفسه فإن الصراع الفردي من أجل البقاء، وهوّة الفقر السحيقة، والتمايز في صفوف العمّال أنفسهم، وضغط الجماهير الجاهلة من تحت تأثير الأحزاب البرجوازية الفاسدة لا تسمح لهذه الومضات الرائعة أن تتطور بشكل كامل. ومع هذا كله، ورغم أن العامل العادي يبقى أنانيا متحذلقا ولا يفوق الممثل العادي للطبقات البرجوازية في "القيمة الإنسانية"، رغم هذا كله يعرف هذا العامل من خلال التجربة أنه لا يمكن إيفاء أبسط متطلباته وأهوائه الطبيعية إلا على أنقاض النظام الرأسمالي…
إذا كانت الاشتراكية تهدف إلى خلق طبيعة بشرية جديدة ضمن حدود المجتمع القديم فهي لن تكون إلا نسخة جديدة عن الطوباويات الأخلاقية. إن الاشتراكية لا تهدف إلى خلق نفسية اشتراكية كشرط مسبق للاشتراكية، وإنما تهدف إلى خلق ظروف حياة اشتراكية كشرط مسبق للنفسية الاشتراكية.



--------------------------------------------------------------------------------

8- الحكومة العمالية في روسيا والاشتراكية
لقد بيّنا في الفصل السابق أن التطور الإقتصادي في البلدان الرأسمالية المتقدمة قد خلق المتطلبات الموضوعية لقيام الثورة الاشتراكية. ولكن، ما الذي نستطيع قوله في هذا المجال بصدد روسيا؟
هل بمقدورنا أن نتوقع أن يكون انتقال الحكم إلى البروليتاريا الروسية بداية لتحويل اقتصادنا الوطني إلى اقتصاد اشتراكي؟ منذ سنة أجبنا على هذا السؤال في مقالة شنت عليها الصحف الناطقة بلسان كلا الجناحين في حزبنا هجوما عنيفا. وفي تلك المقالة قلنا ما يلي:
"يقول ماركس: "إن عمال باريس لم يطلبوا من العامية التي أقاموها أن تصنع المعجزات". ونحن أيضا لا يجب أن نتوقع معجزات سريعة من دكتاتورية البروليتاريا الآن. فالسلطة السياسية ليست جبروتا سماويا. ومن العبث الافتراض أنه يكفي أن تستلم البروليتاريا الحكم لتستبدل الرأسمالية بالاشتراكية بواسطة بضعة قرارات. إن النظام الإقتصادي لا تصنعه أعمال الحكومة. وكل ما تستطيع البروليتاريا أن تقوم به أن تستعمل قوتها السياسية بكل الزخم المتوفر لديها لتعبد طريق الانتقال إلى الجماعية وتقصرها.
في البدء، تحقق البروليتاريا تلك الإصلاحات المدرجة في ما يسمى ببرنامج الحد الأدنى، ثم يفرض عليها وضعها ذاته أن تنتقل مباشرة إلى اتخاذ الإجراءات التجميعية.
إن سن قوانين الثماني ساعات عمل في اليوم والضريبة التصاعدية على الدخل ستكون أمورا سهلة نسبيا، ولكن حتى في هذا المضمار يكون مركز الثقل هو في تنظيم عملية تنفيذ هذه القوانين وليس في سن "القوانين" بحد ذاتها. ولكن الصعوبة الأساسية هي في تنظيم الدولة للإنتاج في تلك المصانع التي أغلقها أصحابها ردا على إصدار هذه القوانين - وهنا يكمن الانتقال إلى الجماعية! وسيكون من السهل نسبيا إصدار قانون يلغي حق الإرث وتطبيقه. فالمواريث التي على شكل رأس مال نقدي لن تحرج البروليتاريا ولن تثقل على اقتصادها. ولكن لكي تتمكن الدولة العمالية من أن تلعب دور الوريث للأرض ولرأس المال الصناعي يجب أن تكون مهيأة لتنظيم الإنتاج الإجتماعي.
إن نفس القول ينطبق ولكن على مدى أوسع على مصادرة الممتلكات أكانت هذه المصادرة بتعويض أم بدون تعويض. إن المصادرة بتعويض مفيدة سياسيا ولكنها صعبة التحقيق من الناحية المالية، بينما المصادرة بدون تعويض مفيدة من الناحية المالية ولكنها صعبة التحقيق على الصعيد السياسي. ولكن المصاعب الكبرى هي التي ستواجه الحكومة العمالية خلال تنظيمها للإنتاج. نكرّر: إن حكومة البروليتاريا ليست حكومة تصنع المعجزات.
يجب أن يبدأ التحويل الإشتراكي في الإنتاج بتلك الفروع من الصناعة التي تقدم أقل قدر ممكن من المصاعب. فتكون الصناعة الاشتراكية، في الفترة الأولى، شبيهة بعدد من الواحات ترتبط بالقطاع الخاص بواسطة القوانين التي تنظم دورة البضاعة. وبقدر ما يرسخ النظام السياسي الجديد بقدر ما تكون الإجراءات الاقتصادية التي تتخذها البروليتاريا فيما بعد أكثر جرأة. ففي هذه الإجراءات تستطيع ويجب عليها لا فقط أن تعتمد على قوى الإنتاج الوطنية ولكن على التقنية في العالم كله أيضا، مثلما لن تعتمد في سياستها الثورية على تجربة العلاقات الطبقية داخل البلد فحسب ولكن تعتمد أيضا على التجربة التاريخية كلها التي خاضتها البروليتاريا العالمية".
إن سيطرة البروليتاريا السياسية تسير في خط عكسي مع عبوديتها الاقتصادية. ومهما تكن الشعارات التي جاءت باسمها البروليتاريا إلى الحكم فإنها مجبرة على السير في طريق السياسة الاشتراكية. إنه لمن الطوباوية المفرطة أن نعتقد أنه بإمكان البروليتاريا، التي يدفعها التركيب الداخلي للثورة البرجوازية إلى استلام السلطة السياسية، ان تحصر رسالتها في خلق الظروف الديموقراطية والجمهورية لسيطرة البرجوازية اجتماعيا؛ إنها لن تتمكن من ذلك حتى ولو كانت تريده. إن سيطرة البروليتاريا السياسية، حتى ولو كانت آنية، سوف تضعف إلى حد بعيد من مقاومة رأس المال الذي يحتاج دوما إلى مساندة الدولة له بحيث تفتح آفاقا جديدة أمام نضال البروليتاريا الاقتصادي.إن العمال لا يمكن أن يطالبوا الحكومة الثورية بالتعويض على المضربين، ولا يمكن لحكومة تعتمد على العمال ان ترفض مثل هذا الطلب. على أن هذا يؤدي إلى إبطال مفعول جيش العمال الاحتياطي وإلى جعل العمال مسيطرين ليس في المجال السياسي فحسب ولكن في المجال الإقتصادي أيضا، فتتحول الملكية الفردية في وسائل الإنتاج إلى خرافة ليس إلا. هذه النتائج الإجتماعية-الاقتصادية الحتمية لدكتاتورية البروليتاريا سوف تبرز بسرعة فائقة، حتى قبل الانتهاء من إرساء النظام السياسي على أسس ديموقراطية. إن الحاجز الذي يفصل بين برنامج "الحد الأدنى" وبرنامج "الحد الأقصى" ينهار حالا عند مجيء البروليتاريا إلى الحكم.
إن أول أمر يجب أن يعالجه النظام البروليتاري عند استلامه للحكم هو حل القضية الزراعية التي يتوقف عليها مصير جماهير غفيرة من الشعب الروسي. وفي معرض حل هذه القضية، وأية قضية أخرى، على البروليتاريا أن تضع نصب أعينها الهدف الأساسي لسياستها الاقتصادية أي السيطرة على أوسع قطاع ممكن تنفذ فيه تنظيم الاقتصاد الاشتراكي. إلا أن الطريقة التي تنفذ فيها هذه السياسة الزراعية وسرعة هذا التنفيذ تعتمدان على الموارد المادية الموضوعية تحت تصرف البروليتاريا وعلى العمل بحذر حتى لا تدفع بالحلفاء الممكنين إلى صفوف أعداء الثورة.
إن القضية الزراعية، أي قضية مصير الزراعة في علاقاتها الاجتماعية لا تقتصر بالطبع على قضية الأرض أي على قضية أشكال ملكية الأرض. ولا شك في أن حل قضية الأرض، حتى وإن كان لا يحدد مصير التطور الزراعي، فإنه على الأقل يحدد مصير السياسة الزراعية التي تنتهجها البروليتاريا. وبكلمات أخرى، فإن موقف النظام البروليتاري من قضية الأرض سيكون على ارتباط وثيق بموقفه العام من اتجار التطور الزراعي ومقتضياته. لهذا السبب تحتل القضية الزراعية المكانة الأولى.
إن أحد الحلول لقضية الأرض، التي جمع حولها الإشتراكيون-الثوريون تأييدا واسعا هو تأميم كل الأرض، وهذه العبارة، إذا جردناها من طلائها الأوروبي، تعني مجرد "المساواة في استثمار الأرض" (أو "التوزيع الأسود"). وهكذا فإن توزيع الأرض بالتساوي يفترض مصادرة جميع الأراضي ليس فقط الأراضي المملوكة فرديا بشكل عام وإنما تلك التي يملكها الفلاحون فرديا وحتى أراضي المشاع. فإذا تذكرنا أن هذه المصادرة ستكون من أولى إجراءات النظام الجديد، حيث تكون علاقات الرأسمالية - البضاعة ما تزال طاغية، نجد أن الفلاحين سيكونون أول "ضحايا" هذه المصادرة (أو بالأحرى هذا ما سوف يعتقدون). وإذا تذكرنا أن الفلاح كان يدفع، خلال عدة عقود، رسوم الإعفاء التي حولت الأرض إلى ملك فردي له؛ وإذا تذكرنا أن بعض الفلاحين الميسورين قد استملكوا مساحات شاسعة من الأرض بشكل فردي على حساب تضحيات كبيرة ولا شك ما زال الجيل الحالي يدفع ثمنها؛ إذا تذكرنا كل هذا يسهل علينا أن نتوقع أن محاولة تحويل الأرض المشاعية والملكيات الفردية الصغيرة إلى أملاك دولة سوف تلقى مقاومة عنيفة. إن النظام الجديد إذا تصرف بهذا الشكل سوف يبدأ بإثارة معارضة قوية ضده في أوساط الفلاحين.
ما هو السبب الذي يدعو لتحويل الأراضي المشاعية والملكيات الفردية الصغيرة إلى أملاك دولة؟ لكي تغدو، بشكل أو بآخر، تحت تصرف جميع مالكي الأرض، بما فيهم الفلاحون الذين لا أرض لهم والعمال الزراعيون، ليستثمروها اقتصاديا "بالتساوي". وهكذا لن يربح النظام الجديد شيئا على الصعيد الاقتصادي بمصادرة الملكيات الصغيرة والأرض المشاع ما دامت أراضي الدولة والأراضي العامة سوف يجري استثمارها على شكل الملكيات الفردية بعد توزيعها. أما على الصعيد السياسي، فإن النظام الجديد يكون قد ارتكب بذلك خطأ كبيرا لأنه سيحرض جماهير الفلاحين ضد بروليتاريا المدن، موجهة السياسة الثورية.
إلى جانب ذلك، يسلم التوزيع العادل للأرض بأنه سيجري تحريم تشغيل العمال لقاء أجر قانونيا. إن إلغاء العمل المأجور يمكن ويجب أن يكون نتيجة للإصلاح الإقتصادي، ولكن لا يمكن تحديده بشكل مسبق بالتحريم القانوني. فلا يكفي أن نحرم على الرأسمالي صاحب الأرض أن يشغل العمال لقاء أجر، يجب علينا أولا أن نضمن للعامل غير المالك للأرض سبل البقاء على قيد الحياة، السبل المعقولة من وجهة النظر الإجتماعية-الاقتصادية. تحت برنامج المساواة في استثمار الأرض، يؤدي تحريم تشغيل العمال لقاء أجر إلى إجبار العمال غير المالكين للأرض على الاستيطان في قطع صغيرة من الأرض من جهة، وإجبار الحكومة على تزويدهم بالمواد والمعدات اللازمة لإنتاجهم غير المعقول من وجهة النظر الإجتماعية.
من المفهوم طبعا أن تدخل البروليتاريا في تنظيم الزراعة لن يبدأ بربط العمال المشتتين بقطع أرض مبعثرة، ولكن باستثمار الملكيات الواسعة من قبل الدولة أو العاميات. وفقط بعدما تترسخ أسس الإنتاج الإشتراكي يمكن دفع عملية التحويل الاشتراكي إلى الأمام نحو تحريم العمل المأجور. هذا سيجعل الزراعة الرأسمالية الصغيرة مستحيلة، لكنه يفسح المجال أمام بقاء الملكيات التي تكفي نفسها بنفسها أو التي تقترب من الكفاف، إن المصادرة القسرية لهذه الملكيات لا يدخل ضمن نطاق مشاريع البروليتاريا الاشتراكية.
وعلى كل حال، فلا يمكن أن نتعهد بتنفيذ برنامج توزيع عادل يسلِّم بمصادرة محض شكلية ولا هدف لها للملكيات الصغيرة من جهة ويطالب بتفتيت الملكيات الواسعة إلى قطع صغيرة من جهة أخرى. إن هذه السياسة الخاسرة من وجهة النظر الاقتصادية، لا يمكن الا أن تخفي وراءها دافعا رجعيا-طوباويا، وسوف تؤدي قبل كل شيء إلى إضعاف الحزب الثوري سياسيا.
******
ولكن إلى أي مدى تستطيع الطبقة العاملة أن تنفذ سياستها الاشتراكية في ظروف روسيا الاقتصادية؟ شي واحد أكيد هو أنها سوف تصطدم بعراقيل سياسية قبل أن تصطدم بالعراقيل التي يضعها في طريقها تخلف البلد التقني. بدون مساعدة حكومية مباشرة تقدمها لها البروليتاريا الأوروبية لن تتمكن الطبقة العاملة في روسيا من البقاء في الحكم وتحويل سيطرتها الآنية إلى دكتاتورية اشتراكية دائمة. هذا أمر لا شك فيه. ومن جهة أخرى، ليس هنالك أدنى شك في أن الثورة الاشتراكية في الغرب سوف تمكننا من تحويل سيطرة الطبقة العاملة الآنية حالا إلى دكتاتورية اشتراكية.
في عام 1904، كتب كاوتسكي، في معرض مناقشته لتوقعات التطور الاجتماعي في روسيا ولإمكان قيام ثورة مبكرة في روسيا، ما يلي:
"إن الثورة في روسيا لا يمكن أن تؤدي حالا إلى قيام نظام إشتراكي.
لأن الظرف الاقتصادية في البلد لم تنضج النضج الكافي لهذا الغرض".
إلاّ أن الثورة الروسية ستكون بالتأكيد حافزا للحركة البروليتارية في سائر بلدان أوروبا، وكنتيجة للصراع الذي يدور قد تأتي البروليتاريا الألمانية إلى الحكم. ويستطرد كاوتسكي قائلا:
"إن نتيجة كهذه سيكون لها تأثيرها على أوروبا كلها. فيجب أن تؤدي إلى سيطرة البروليتاريا السياسية في أوروبا الغربية، وتوّفر للبروليتاريا في أوروبا الشرقية إمكان تلخيص مراحل تطورها فتشيد المؤسسات الاشتراكية بشكل مصطنع ناقلة إليها عن النموذج الألماني. لا يستطيع المجتمع ككل أن يقفز بشكل مصطنع عن أية مرحلة من مراحل تطوره. ولكن تستطيع قطاعات من هذا المجتمع أن تستعجل تطورها المتأخر بتقليد البلدان الأكثر تقدما، وبفضل هذا التقليد قد تتمكن حتى من أن تصبح في طليعة ركب التطور لأنها لا ترزح تحت ثقل التقاليد التي تحملها البلدان الأكثر قدما منها… من المحتمل أن يحصل ذلك ولكن، كما قلنا سابقا، إننا نترك هنا مجال الحتمية لندخل مجال الإحتمال، لذا يمكن للأمور أن تسير في مجرى آخر".
لقد كتب المفكر الديموقراطي-الإجتماعي الألماني هذه الأسطر في زمن كان يعالج فيه ما إذا كانت الثورة سوف تندلع في روسيا أو في الغرب أولا. وفيما بعد، تفتقت البروليتاريا الروسية عن قوة هائلة لم يتوقعها الديموقراطيون-الاجتماعيون حتى في أكثر اللحظات تفاؤلاً. لقد تحدد مجرى الثورة الروسية فيما يتعلق بسماتها الأساسية. إن ما كان منذ سنتين أو ثلاث ممكناً قد أصبح محتملاً وكل الدلائل تشير إلى أنه على اهبته أن يصير حتمياً.



--------------------------------------------------------------------------------

9- أروبا والثورة
في يونيو عام 1905 كتبنا ما يلي:
"لقد مرّ أكثر من نصف قرن على عام 1848، نصف قرن من الانتصارات الرأسمالية المضطردة في العالم كله، نصف قرن من التكيّف المتبادل بين قوى الرجعية البرجوازية وقوى الرجعية الإقطاعية، نصف قرن كشفت فيه البرجوازية النقاب عن شهوتها الجنونية للسيطرة واستعدادها للقتال بوحشية من أجلها.
" ومثلما يصطدم الباحث عن "الحركة الدائمة" بعقبات جديدة دوما فيجمع الآلة تلو الآلة بغية تجاوزها، كذلك بدّلت البرجوازية آلة حكمها وأعادت بناءها بحيث تتفادى الصراع "غير القانوني" مع القوى المعادية لها. ولكن كما أنه لابد للباحث عن الحركة الدائمة من أن يصطدم في النهاية بعقبة لا يمكن تخطيها هي "قانون المحافظة على الطاقة"، كذلك لا بد للبرجوازية من أن تصطدم في طريقها بالعقبة التي لا يمكن تخطيها أيضا وهي التناقض الطبقي الذي لا يمكن تسويته إلا بواسطة الصراع.
"إن الرأسمالية إذ تربط جميع البلدان بعضها ببعض بأسلوب إنتاجها وبتجارتها تحوّل العالم بأسره إلى كيان اقتصادي وسياسي واحد. وكما يربط التسليف الحديث آلاف المشاريع بوشائج غير منظورة ويتيح لرأس المال فرصة التحرك بسرعة مذهلة بحيث يحول دون حدوث عدة إفلاسات صغيرة ولكنه يسبب في الوقت نفسه موجة غير متوقعة من الأزمات الإقتصادية العامة، كذلك فإن كل مجهود الرأسمالية الاقتصادي والسياسي وتجارتها العالمية ونظام الديون الحكومية الهائلة والتجمعات السياسية للدولة التي تضم جميع القوى الرجعية في نوع من الشركة المساهمة العالمية قد حال دون وقوع جميع الأزمات السياسية الافرادية وخلق أساس أزمة اجتماعية ذات حجم فظيع في آن واحد. إن البرجوازية، بعملها على طمس جميع معالم المرض وتفاديها للمصاعب وتأجيلها لجميع القضايا العميقة المتعلقة بالسياسة الداخلية والدولية وتمويهها لجميع التناقضات، قد استطاعت أن تؤجل الانفراج ولكنها مهدت بذلك لتصفية جذرية لحكمها على الصعيد العالمي. لقد تمسكت البرجوازية بجشع بكل قوة رجعية دون أن تتحرّى أصلها. وما البابا والسلطان العثماني إلا بعض من أصدقائها. والسبب الوحيد لكونها لم توثق عرى "الصداقة" مع إمبراطور الصين هو أنه لا يمثل أية قوة. فكان من مصلحتها أن تنهب أملاكه عوضا عن أن تحتفظ به في خدمتها، مثلما تحتفظ بشرطتها التي تدفع لها من خزينتها الخاصة. وهكذا نجد أن البرجوازية العالمية قد جعلت استقرار حكمها يعتمد إلى أقصى حد على عدم استقرار الجيوب الرجعية الموروثة عن عهد ما قبل البرجوازية.
إن هذا يضفي على الأحداث التي نشاهدها طابعا دوليا ويفتح أمامنا آفاقا واسعة. إن تحرّر روسيا السياسي بقيادة الطبقة العاملة سيرفع هذه الطبقة إلى مستوى لم يعرفه التاريخ من قبل ويضع في متناول أيديها قوى وموارد جبارة ويجعلها رائدة تصفية الرأسمالية العالمية التي وفّر التاريخ لها جميع الظروف الموضوعية".
وإذا لم تبادر البروليتاريا الروسية، بعد سيطرتها الآنية على الحكم، إلى نقل الثورة إلى الأرض الأوروبية، فإن قوى الإقطاعية-البرجوازية الرجعية في أوروبا سوف تجبرها على ذلك. ومن العبث طبعا أن نحدد في هذا الوقت الوسائل التي يجب على الثورة الروسية أن تتبعها للانقضاض على أوروبا الرأسمالية القديمة. فقد تكشف هذه الوسائل عن نفسها بشكل مفاجئ. فلنأخذ مثال بولونيا لكونها حلقة وصل بين الشرق الثوري والغرب الثوري. إننا نأخذ هذا المثال لتوضيح فكرتنا إلاّ أننا لا نعتبره توقعا فعليا لما قد يحدث في ذلك البلد.
إن انتصار الثورة في روسيا سوف يؤدي إلى الإنتصار الحتمي للثورة في بولونيا. وليس من الصعب أن نتصوّر أن وجود نظام ثوري في المقاطعات البولونية العشر التي تسيطر عليها روسيا سوف يكون حافزا لاندلاع الثورة في غاليسيا وبوزانان. وسوف تجيب حكومة سلالة الهوهنزوليرن وحكومة سلالة الهابسبورغ على هذا بإرسال الوحدات العسكرية إلى الحدود البولونية بغية اجتيازها وسحق العدو في مركزه: وارسو. ومن الواضح أن الثورة الروسية لا تستطيع ترك جبهتها الغربية بين أيدي جنود بروسيا والنمسا. ستكون الحرب ضد حكومتي وليام الثاني وفرانز جوزيف، في مثل هذه الظروف، عملية دفاع عن النفس تلجأ إليها الحكومة الثورة في روسيا. فماذا يجب أن يكون موقف البروليتاريا في النمسا وألمانيا آنذاك؟ من البديهي أنه لا يجوز أن تلتزم جانب الصمت بينما تخوض جيوش بلديها حربا صليبية ضد الثورة. إن الحرب بين ألمانيا الإقطاعية-البرجوازية وبين روسيا الثورية سوف تؤدي بالضرورة إلى اندلاع الثورة في ألمانيا. إننا نقول للذين يبدو لهم هذا القول مطلقا للغاية أن يحاولوا التفكير بأي حدث تاريخي آخر يكون أكثر ملاءمة لإجبار العمال الألمان على خوض معركة علنية لكشف قوتها ضد الرجعيين الألمان.
عندما أعلنت حكومة تشرين (أكتوبر) في روسيا الأحكام العرفية في بولونيا فجأة، سرت إشاعات تقول أن هذه قد تم تلبية لتعليمات مباشرة من برلين. وعشية حل مجلس الدوما، هددت صحف الدولة بنشر أخبار عن الاتصالات التي جرت للتفاوض بين حكومتي برلين وفيينا غايتها التدخل المسلح في شؤون روسيا الداخلية لقمع محاولة قلب الحكومة. ولم يفلح التكذيب الوزاري في محو تأثير الصدمة التي أحدثتها أنباء هذه الاتصالات. فقد اتضح أن خطة للثأر من الثورة بشكل دموي تعدّ في قصور الدول الثلاث المجاورة. وهل يمكن للأمور أن تكون غير ذلك؟ هل تستطيع الملكيات شبه-الإقطاعية المجاورة أن تقف مكتوفة الأيدي بينما تقترب نيران الثورة من حدود سلطانها؟
إن الثورة الروسية، عندما كانت ما تزال بعيدة كل البعد عن إحراز النصر، قد فعلت فعلها في التأثير على غاليسيا من خلال بولونيا. لقد صاح ذاسزنسكي في مؤتمر الحزب الاشتراكي-الديموقراطي البولوني في "لفوف" في شهر أيار من هذا العام: "من كان يستطيع أن يتكهن منذ عام بما يجري الآن في بولونيا؟ لقد زرعت هذه الحركة الفلاحية الدهشة في كل أنحاء النمسا. مقاطعة زباراز تنتخب اشتراكيا ديمقراطيا لمنصب نائب حاكم مجلس المقاطعة. والفلاحون يصدرون صحيفة اشتراكية ثورية موجهة لإخوانهم الفلاحين اسمها "الراية الحمراء"، الاجتماعات الجماهيرية الضخمة تعقد بحضور 30.000 فلاح، والمواكب التي تحمل الاعلام الحمراء وتنشد الاغاني الثورية تخترق شوارع قرى غاليسيا التي كانت هادئة لا مبالية… ماذا يحصل عندما تنطلق من روسيا صرخة تأميم الأرض وتصل إلى مسامع هؤلاء الفلاحين المدقعين؟" منذ أكثر من عامين أشار كاوتسكي، في معرض حواره مع الإشتراكي البولوني "لوسنيا" إلى أنه يجب ألا ننظر بعد الآن إلى روسيا على أنها كرة ثقيلة على أقدام بولونيا، أو أن ننظر إلى بولونيا على أنها قطاع شرقي من أوروبا الثورية يخترق كالرمح مجاهل البربرية المسكوية. ويعتبر كاوتسكي أنه في حال اندلاع الثورة الروسية وتحقيق انتصارها، فإن القضية البولونية "سوف تزداد حدة مرة أخرى ولكن ليس بالمعنى الذي يريده لوسنيا. فهي لن تكون موجهة ضد روسيا هذه المرة وإنما ضد النمسا وألمانيا، وإلى مدى ما تخدم بولونيا قضية الثورة لن تظل مهمتها محصورة في الدفاع عن الثورة ضد روسيا وإنما أن تنقل الثورة إلى ألمانيا والنمسا". إن هذا التنبؤ أقرب إلى التحقيق مما ظنه كاوتسكي.
بيد أن بولونيا الثورية ليست، في أي حال من الأحوال، المنطلق الوحيد للثورة في أوروبا. لقد أشرنا سابقا إلى أن البرجوازية قد امتنعت في جميع المناسبات عن حلّ العديد من القضايا الخطيرة المعقدة التي تؤثر على السياسة الداخلية والخارجية. ولكونها وضعت أعدادا هائلة من الناس تحت السلاح لم تتمكن الحكومات البرجوازية من أن تشق طريقها بالسيف وسط أدغال السياسة الدولية. إن حكومة تحظى بتأييد الأمة التي جرى المساس بمصالحها الحيوية أو حكومة على شفير الهاوية تدفعها شجاعة اليأس تستطيع أن ترسل المئات والآلاف من البشر إلى ساحات الحرب. إن الثقة الكبيرة بالنفس أو المغامرة الجنونية قد ترمي بأمتين في حلبة الصراع في ظل الظروف الحديثة للثقافة السياسية والعلم العسكري حيث يحق للجميع الانتخاب وحيث تطبق الخدمة العسكرية على الجميع. ففي الحرب الفرنسية-البروسية عام 1870 كان بيسمارك يقاتل من أجل فرض سيطرة بروسيا على ألمانيا مما يؤدي إلى تحقيق الوحدة القومية، هذه الضرورة الأولية التي يؤمن بها كل ألماني؛ هذا في الجهة وفي الجهة الأخرى كانت هناك حكومة نابليون الثالث الصلفة والضعيفة التي تكرهها الأمة والمستعدة لأية مغامرة تبقيها سنة أخرى في الحكم. وقد حصل توزيع الأدوار نفسه في الحرب الروسية-اليابانية. ففي جهة، كانت حكومة الميكادو، التي لم تعارضها بعد بروليتاريا ثورية، تقاتل من أجل سيطرة رأس المال الياباني على الشرق الأقصى، وفي الجهة الأخرى كانت هناك حكومة فردية فات أوانها تسعى إلى تغطية هزائمها الداخلية بتحقيق الانتصارات في الخارج.
في البلدان الرأسمالية القديمة لا يوجد مطالب "قومية" أي مطالب المجتمع البرجوازي ككل تستطيع البرجوازية الحاكمة أن تدّعي أنها حاميتها. إن حكومات فرنسا وبريطانيا وألمانيا والنمسا عاجزة عن شن حروب قومية. إن مصالح الجماهير الحيوية ومصالح القوميات المضطهدة والسياسة الداخلية البربرية التي تنهجها دولة مجاورة كلها عاجزة عن دفع حكومة برجوازية واحدة إلى الحرب ذات طابع تحريري وبالتالي قومي. ومن الناحية الثانية، فإن مصالح الجشع الرأسمالي التي تدفع، بين الحين والآخر، هذه الحكومة أو تلك إلى أن تقرقع بمهمازها وتلوح بسيفها في وجه العالم بأسره لا يمكن أن تلقى أي تجاوب بين الجماهير. لهذا السبب لا تستطيع البرجوازية أن تخوض حروبا قومية ولا أن تعلنها أو تقودها. فقد اتضح من تجربتين اثنتين في جنوب إفريقيا والشرق الأقصى المآل الذي آلت إليه الحروب المعادية للقومية.
إن الهزيمة الشنيعة التي منيت بها الرجعية الاستعمارية في بريطانيا لا تعود، في التحليل الأخير، إلى الدرس الذي لقنتها إياه حرب "البوير"، إن حق التقرير الذاتي السياسي الذي اكتسبته البروليتاريا البريطانية هو نتيجة أكثر أهمية للسياسة الاستعمارية وأكثر تهديدا لمصالح البرجوازية، وما إن يبدا هدا التقرير الذاتي فلسوف يتقدم بخطوات سريعة. أما بالنسبة لتأثير الحرب الروسية-اليابانية على حكومة بتروغراد، فإنها جد معروفة بحيث لا حاجة للتوقف عندها. ولكن حتى إذا طرحنا هاتين التجربتين جانبا، نجد أنه من اللحظة التي بدأت فيها البروليتاريا بالوقوف على رجليها امتلك الحكومات الأوروبية رعب دائم من أن تخيرها هذه بين الحرب والثورة. إن هذا الخوف من تمرد البروليتاريا بالذات هو الذي يفرض على البرجوازية، حتى وهي تصوّت إلى جانب صرف مبالغ طائلة من المال للحرب، أن تصرّح بخشوع بأنها إلى جانب السلم. وأن تحلم "بلجان تحكيم دولية" وحتى بمنظمة الولايات المتحدة الأوروبية. إن هذه التصريحات التعيسة لا تستطيع، طبعا، أن تلغي التناحرات الطبقية بين الدول ولا أن تؤجل الإصطدامات المسلحة.
إن السلم المسلح الذي كان قائما في أوروبا بعد الحرب البروسية-الفرنسية يعتمد على ميزان القوى في أوروبا الذي يفترض مناعة تركيا وتجزئة بولونيا والحفاظ على النمسا، أي على وجود نوع من الفسيفساء الاثنية (فسيفساء الشعوب)، كما يعتمد أيضا على المحافظة على الحكم المطلق في روسيا مدججا بالسلاح لكي يلعب دور شرطة الرجعية الأوروبية. إلاّ أن الحرب الروسية-اليابانية قد وجهت ضربة قاسية لهذا النظام الذي تجري المحافظة عليه بتصنع والذي يمثل الحكم الفردي المكانة الأولى فيه. فانفصلت روسيا عما يسمّى "القوى الأوروبية المتناغمة". (Concert of powers) فإنهار توازن القوى. ومن جهة أخرى، أثارت انتصارات اليبابان الغرائز العدوانية الكامنة في البرجوازية الرأسمالية وخاصة القطاع المصرفي منها الذي يلعب دورا هاما في السياسة المعاصرة. وتفاقم خطر نشوب حرب في المنطقة الأوروبية. الصراعات تختمر في كل مكان، وإذا قد تم حلها حتى الآن بالوسائل الديبلوماسية فليس هناك من ضمانة أن تظل هذه الوسائل ناجحة إلى زمن طويل. غير أن نشوب حرب أوروبية يعني حتما اندلاع الثورة الأوروبية.
لقد أعلن الحزب الإشتراكي في فرنسا، إبان الحرب الروسية-اليابانية، أنه إذا تدخلت الحكومة الفرنسية إلى جانب الحكم الفردي في روسيا، فإنه سوف يدعو البروليتاريا إلى اتخاذ إجراءات حاسمة قد تؤدي حتى إلى العصيان. وفي مارس عام 1906، عندما تجلى الصراع بين فرنسا وألمانيا حول مراكش، اتخذ "المكتب الاشتراكي الدولي" قرارا بأنه في حال تفاقم خطر الحرب "سوف يضع أفضل وسائل العمل تحت تصرف جميع الأحزاب الاشتراكية الدولية والطبقة العاملة المنظمة لمنع نشوب الحرب ولإنهائها". وطبعا بقي هذا القرار حبرا على ورق. فقد كان يحتاج إلى نشوب حرب لامتحان صحته، إلاّ أن الدولة البرجوازية كان لها أسبابها التي تبرر تهربها من مواجهة هذا الامتحان. ولكن، من سوء حظ البرجوازية أن منطق العلاقات الدولية هو أقوى من منطق الديبلوماسية.
إن إفلاس الدولة في روسيا، أكان نتيجة لإستمرار البرقراطية في تسيير الأمور أم نتيجة لوجود حكومة ثورة ترفض أن تدفع ثمن شرور النظام القديم، سيكون له تأثير بالغ على فرنسا. إن الراديكاليين، الذين يسيطرون على مقدرات فرنسا السياسية الآن، قد تعهدوا عند استلامهم الحكم باتخاذ جميع التدابير اللازمة لحماية مصالح رأس المال. لهذا السبب، هناك أساس متين للافتراض أن الأزمة المالية المتأتية من إفلاس روسيا سوف ينعكس بشكل مباشر على فرنسا على شكل أزمة سياسية حادة لا تنتهي إلا بانتقال الحكم إلى الاشتراكية. وبطريقة أو بأخرى سوف تدخل الثورة حدود أوروبا الرأسمالية القديمة أكان ذلك من خلال اندلاع ثورة في بولونيا أم من خلال نتائج حرب أوروبية أم نتيجة لإفلاس الدولة في روسيا.
وحتى من دون ضغط الأحداث الخارجية، كالحرب أو الإفلاس، قد تندلع الثورة في المستقبل القريب في أحد البلدان الأوروبية نتيجة لتفاقم الصراع الطبقي. لن نحاول الآن التكهن عن أي بلد من البلدان الأوروبية سوف يكون الأول في سلوك طريق الثورة، ثمة أمر واحد لا شك فيه أن التناقضات الطبقية في جميع البلدان الأوروبية قد بلغت درجة مرتفعة من الحدّة في الأزمنة الحديثة.
إن النمو المتضخم للحركة الاشتراكية-الديموقراطية في ألمانيا، ضمن إطار دستور شبه مطلق، سوف يؤدي بالبروليتاريا حتما إلى الدخول في صراع مكشوف ضد الملكية الإقطاعية- البرجوازية. إن موضوع مقاومة الانقلاب السياسي بواسطة الإضراب العام قد أصبح الموضوعات الرئيسية في حياة البروليتاريا الألمانية السياسية منذ العام الماضي. وفي فرنسا، أدى انتقال الحكم إلى الراديكاليين إلى تحطيم القيد عن أيدي البروليتاريا التي كانت مجبرة، خلال مدة طويلة، على التعاون مع الأحزاب البرجوازية في الصراع ضد القومية وضد سيطرة الكنيسة. إن الحزب الإشتراكي، الذي أغناه التراث الحي للثورات الفرنسية الأربع، يقف وجها لوجه أمام البرجوازية المحافظة التي تتستر ببراقع الراديكالية. وفي بريطانيا، حيث يتناوب الحزبان البرجوازيات على تحريك الأرجوحة البرلمانية منذ قرن، اعتمدت البروليتاريا مؤخرا تحت تأثير سلسلة كاملة من العوامل على السير في طريق الانفصال السياسي. وبينما استغرقت هذه العملية أربعة عقود من الزمن في ألمانيا، تستطيع الطبقة العاملة البريطانية، التي تمتلك نقابات قوية تستند إلى خبرتها في النضال الاقتصادي، أن تصل إلى مقدمة جيش الاشتراكية الأوروبية بواسطة بضعة قفزات.
إن تأثير الثورة الروسية على البروليتاريا الأوروبية لهو تأثير بالغ الأهمية. فبالإضافة إلى تحطيم الحكم المطلق في روسيا، عماد الرجعية الأوروبية، سوف توفّر هذه الثورة الشروط الأولية الضرورية لإنبثاق الوعي الثوري في وعي الطبقة العاملة الأوروبية ومزاجها.
إن وظيفة الأحزاب الاشتراكية كانت وستبقى تنمية الوعي الثوري عند الطبقة العاملة، تماما مثلما يخلق التطور الرأسمالي ثورة في العلاقات الاجتماعية. ولكن عملية التحريك والتنظيم في صفوف البروليتاريا تملك قوتها الدافعة المميزة لقد طغى طابع المحافظة على الأحزاب الاشتراكية الأوروبية، وبخاصة الحزب الاشتراكي-الديموقراطي الألماني، أكبر هذه الأحزاب، بنسبة موازية لاعتناق الجماهير الواسعة للاشتراكية ولتنظيم هذه الجماهير ونمو انضباطها. وكنتيجة لذلك أصبحت الحركة الاشتراكية-الديموقراطية، بوصفها المنظمة التي تجسّد تجربة البروليتاريا السياسية، عقبة مباشرة أمام انفجار الصراع العلني بين العمال والرجعية البرجوازية. وبكلمات أخرى، فإن الطابع المحافظ الطاغي على الدعاية الاشتراكية للأحزاب البروليتارية قد يصبح، في وقت معيّن، كابحا أمام نضال البروليتاريا المباشرة لاستلام الحكم. ويؤكد التأثير البالغ للثورة الروسية أنه سوف يحطم الروتين الحزبي وذهنية المحافظة ويضع قضية المبارزة بين البروليتاريا والرجعية الرأسمالية في حيّز التنفيذ. إن النضال من أخل حق الاقتراع للجميع في النمسا وساكسونيا وبروسيا قد تفاقم تحت التأثير المباشر لإضرابات نوفمبر في روسيا. إن الثورة في الشرق سوف تنقل عدوى المثالية الثورية إلى البروليتاريا الغربية وتثير فيها الرغبة في التكلم "باللهجة الروسية" مع أعدائها وإذا وجدت البروليتاريا الروسية نفسها في الحكم، حتى ولو كان ذلك نتيجة للقاء آني للظروف في ثورتنا البرجوازية، فهي سوف تواجه حملة عداء منظمة تشنها الرجعية العالمية من جهة، وتجد من جهة ثانية استعداد البروليتاريا العالمية لمدها بالمساعدة المنظمة.
وإذا تُركت الطبقة العاملة الروسية للاعتماد على قواها فقط، فإن الثورة المضادة سوف تسحقها حتما حالما يتخلى عنها الفلاحون، فلن يكون أمامها من بديل سوى أن تربط مصير حكمها السياسي، وبالتالي مصير الثورة الروسية كلها، بمصير الثورة الاشتراكية في أوروبا. وسوف يثقل السلطة الحكومية السياسية التي وفّرها لها التقاء آني للظروف في الثورة البرجوازية الروسية، في كفة الصراع الطبقي في جميع أنحاء العالم الرأسمالي. إن البروليتاريا الروسية الحاكمة إزاء وجود الثورة المضادة ورائها، والرجعية أمامها، سوف ترسل إلى رفاقها في جميع أنحاء الأرض صيحة الحرب القديمة التي تكون هذه المرّة صيحة الهجوم الأخير: يا عمال العالم اتحدوا!.



--------------------------------------------------------------------------------

10- النضال من أجل استلام الحكم [45]
أمامي منشور حول برنامجنا وخططنا التكتيكية بعنوان "المهام التي تواجه البروليتاريا الروسية - رسالة إلى الرفاق في روسيا". وقد وقع على هذه الوثيقة: ب. اكسلرود، استروف، ا. مارتينوف، ل. مارتوف، س. سيمكوفسكي.
تعالج الرسالة موضوع الثورة بشكل عام للغاية، ويزول الوضوح والدقة بانتقال المؤلفين من وصف الحالة التي أوجدتها الحرب إلى التوقعات السياسية والاستنتاجات التكتيكية، فتغدو المصطلحات نفسها مائعة والتعريفات الإجتماعية مبهمة.
يبدو للمراقب من الخارج أن روسيا يتنازعها اتجاهان: اتجاه حريص على الدفاع الوطني، ويضم أناسا ابتداء من سلالة رومانوف وانتهاء ببليخانوف؛ واتجاه آخر يعبر الاستياء العام فيه عن نفسه بأشكال عدة من نشوء "منظمة الفرند" البيروقراطية المعارضة إلى نشوب الاضطرابات في الشوارع. ويخلق هذان الاتجاهان السائدان أيضا أوهاما عن حرية شعبية ستنبثق في المستقبل عن قضية الدفاع الوطني. وهذان الاتجاهان مسؤولان إلى حد بعيد عن الغموض الذي يكتنف مسألة "الثورة الشعبية" حتى عندما توضع هذه المسألة مقابل مسألة "الدفاع الوطني".
إن انتكاسات الحزب نفسها لم تخلق أزمة ثورية ولم توّلد أي قوى ثورية على هذه الأزمة. إن التاريخ، بالنسبة لنا، لا يبدأ مع تسليم ورسو إلى أمير بافاريا. فالتناقضات الطبقية والقوى الإجتماعية ما تزال هي نفسها التي واجهناها عام 1905 وقد طرأت عليها بعض التعديلات الهامة خلال السنوات العشر المنصرمة. إن كل ما فعلته الحرب هو أنها كشفت بشكل آلي خطي النقاب عن الإفلاس الموضوعي للنظام. ولكنها في الوقت نفسه زرعت الفوضى في الوعي الإجتماعي، فبدا وكأن "الجميع" قد أصيب بعدوى مقاومة هيندنبرغ وبعدوى الحقد على نظام حكم الثالث من يونيو. ولكن، مثلما اصطدمت منظمة "الحرب الشعبية" بالشرطة القيصرية منذ اللحظات الأولى مؤكدة بذلك أن روسيا الثالث من يونيو هي واقع وأن "الحرب الشعبية" ما هي إلا أسطورة، كذلك فإن اقتراب "الثورة الشعبية" يصطدم بشرطة بليخانوف السياسية هذا الرجل الذي يمكن اعتباره، هو وزمرته، مجرد أسطورة لو لم يكن يقف وراءه كرينسكي ومليوكوف وغوسكوف والوطنيون-الديموقراطيون والوطنيون الليبراليون المجردون من أي حسّ ثوري والمعادون للثورة.
لم يكن بإمكان "الرسالة" طبعا أن تتجاهل انقسام الأمة إلى طبقات، ولا أن تتجاهل أنه يجب على الأمة أن تنقذ نفسها من عواقب الحرب ومن النظام الحالي بواسطة الثورة. "إن الوطنيين والتشرينيين [46](الأكتوبريين) والتقدميين والكاديت والصناعيين وحتى قسم من الإنتلجنسيا الراديكالية يجب أن يعلنوا بصوت واحد عجز البيروقراطية عن الدفاع عن الوطن، وأن يطالبوا بتعبئة القوى الإجتماعية لقضية الدفاع…" وتصل الرسالة إلى الإستنتاج الصحيح فيما يتعلق بالطبيعة المعادية للثورة للموقف الذي يدعو إلى "التعاون مع حكام روسيا الحاليين ومع البيروقراطية والنبلاء والعقداء في سبيل الدفاع عن الدولة". وتبيّن الرسالة بشكل صحيح أيضا الموقف المعادي للثورة الذي يتخذه "الوطنيون البرجوازيون بكافة اتجاهاتهم"، ونضيف إلى هذا الوطنيين-الاجتماعيين الذين لم يرد ذكرهم في الرسالة.
يجب أن نخلص من هذا إلى القول أن الاشتراكيين-الديمقراطيين ليسوا الحزب الثوري المعقول فحسب، ولكنه الحزب الثوري الوحيد الموجود في البلد أيضا؛ وليست المجموعات الأخرى أقل منه تصميما على تطبيق الوسائل الثورية فحسب، ولكنها أحزاب غير ثورية أيضا. وبكلمات أخرى، فالحزب الاشتراكي-الديموقراطي، بنهجه الثوري في طرح القضايا، معزول تماما عن دخول الحلبة السياسية العلنية رغم وجود "الاستياء العام". هذا الإستنتاج الأول جدير بأن يؤخذ بعين الاعتبار ولكن بحرص شديد.
إن الأحزاب ليست طبقات طبعا، فقد يكون موقف الحزب غير منسجم مع مصالح الفئة الإجتماعية التي يعتمد عليها، وقد يتحول ذلك إلى تناقض حاد فيما بعد. إن سلوك الحزب قد يتبدل تحت تأثير المناخ الجماهيري. هذا أمر لا يرقى إليه شك. هذا سبب جديد إذن لكي نقلع عن الإعتماد، في حساباتنا، على عوامل أقل استقرارا وغير جديرة بالثقة كشعارات الحزب وخططه التكتيكية، وأن نلتفت إلى عوامل تاريخية أكثر رسوخا: إلى بنيان الأمة الإجتماعي وإلى العلاقة بين القوى الطبقية وإلى الاتجاهات التي يسير فيها التطور.
غير أن مؤلفي "الرسالة" يتجاهلون هذه القضايا تجاهلا تاما. ما هي "الثورة الشعبية" في روسيا عام 1915؟ يجيب المؤلفون ببساطة أن البروليتاريا والعناصر الديمقراطية هي التي يجب أن "تصنعها". إننا نعلم ما هي البروليتاريا، ولكن من هي "العناصر الديمقراطية"؟ هل هي حزب سياسي؟ يتضح مما ورد أعلاه أنها ليست كذلك. هل هي الجماهير إذن؟ وأي جماهير؟ طبعا، إنها البرجوازية الصناعية والتجارية الصغيرة والمثقفون والفلاحون، فلا يمكن أن يكونوا قد عنوا بعبارتهم أي فئة غير هذه.
في سلسلة من المقالات بعنوان "أزمة الحرب والتوقعات السياسية" قدّمنا تقديرا عاما لما قد يكون المدلول الثوري لهذه القوى. وباستنادنا إلى تجربة الثورة الأخيرة، تفحصنا التغيرات التي طرأت خلال السنوات العشر الأخيرة على العلاقة بين القوى كما كانت عليه عام 1905: هل كانت هذه التغيرات لصالح الديموقراطية (البرجوازية) أم ضدها؟ ذلك هو السؤال الرئيسي الذي يجب طرحه للحكم على خطط البروليتاريا التكتيكية. هل قويت الديمقراطية البرجوازية في روسيا منذ عام 1905، أم تراها ما تزال في حالة تقهقر؟ لقد كانت جميع نقاشاتنا السابقة تدور حول مصير الديمقراطية البرجوازية، والذين ما زالوا لا يستطيعون الإجابة على هذا السؤال يتخبطون في الظلام. إننا نجيب على هذا السؤال كما يلي: إن الثورة البرجوازية الوطنية مستحيلة في روسيا لأن هذا البلد يفتقر إلى ديمقراطية برجوازية ثورية أصيلة. لقد انقضى زمن الثورات الوطنية، على الأقل بالنسبة لأوروبا، مثلما انقضى زمن الحروب الوطنية. فبين الأولى والثانية ارتباط وثيق. إننا نعيش في المرحلة الاستعمارية وهي بالإضافة لكونها نظاما من الفتوحات الاستعمارية تفرض قيام نظام معين في داخل البلد المستعمِر. إن الاستعمار يموه العداء بين الأمة البرجوازية والنظام القديم ولكنه ينمي العداء بين البروليتاريا والأمة البرجوازية.
لقد سبق لحرفيي البرجوازية الصغيرة وتجارها الصغار أن لعبوا دورا تافها في ثورة 1905. ولا شك في أن الأهمية الإجتماعية لهذه الطبقة قد تقلصت كثيرا خلال السنوات العشر الأخيرة. فالرأسمالية في روسيا تعامل الطبقات الوسطى بقسوة وصرامة أكثر مما تفعله شقيقاتها في البلدان العريقة في التقدم الاقتصادي. ولا شك أيضا في أن الإنتلجنسيا قد تضاعفت عدديا وأن دورها الاقتصادي قد تعاظم. ولكنها فقدت، في الوقت نفسه، حتى ذلك "الاستقلال" الوهمي الذي كانت تتمتع به في السابق.إن مكانة الإنتلجنسيا الاجتماعية مرهونة بمجملها بالدور الذي تلعبه في تنظيم الصناعة الرأسمالية وفي تعبئة الرأي العام البرجوازي. وكما أشرنا سابقا فقد ورد في "الرسالة" ما يلي: "… حتى قسم من الإنتلجنسيا الراديكالية… يطالب بتعبئة القوى الاجتماعية من أجل قضية الدفاع." إن هذا القول باطل من أساسه، إن الإنتلجنسيا الراديكالية كلها تطالب بتعبئة القوى الاجتماعية من أجل قضية الدفاع وليس قسما منها فقط؛ ويؤيدها في هذا الموقف قطاع هام من الإنتلجنسيا الاشتراكية إن لم نقل غالبيتها. إننا لا نكون قد ضاعفنا أعداد "الديمقراطية" إذا زوّرنا طبيعة الإنتلجنسيا.
وهكذا، فقد تقهقرت البرجوازية الصناعية والتجارية بسرعة، بينما أخذت الإنتلجنسيا تتخلى عن مواقعها الثورية. أما بالنسبة للعناصر الديمقراطية في المدن فإنها ليست جديرة بالذكر كعنصر ثوري. فلا يبقى إلا الفلاحون، ولكننا نعلم أن آكسلرود ومارتوف لا يعلقان أهمية كبيرة على دور الفلاحين الثوري المستقل. فهل خلصوا إلى الاستنتاج أن التمايز الطبقي المتزايد في صفوف الفلاحين خلال السنوات العشر الأخيرة قد زاد من أهمية دورهم؟ إن مثل هذا الافتراض يعاكس جميع الإستنتاجات النظرية والتجارية التاريخية.
ولكن عن أي نوع من "الديمقراطية" تتحدث الرسالة في هذا الصدد؟ وماذا يعنون عندما يتكلمون عن "الثورة الشعبية"؟
إن طرح شعار الدعوة إلى عقد جمعية تأسيسية يفترض وجود وضع ثوري، فهل هذا الوضع موجود؟ أجل إنه موجود، ولكنه لا يعبر عن نفسه بولادة ديمقراطية برجوازية يفترض فيها أن تكون قد أصبحت مستعدة ومؤهلة الآن لتصفية النظام القيصري. وإنما على العكس تماما، فإذا كانت هذه الحرب قد أفصحت عن شيء فعن عدم وجود ديمقراطية ثورية في هذا البلد.
إن محاولة روسيا الثالث في يونيو حلّ مشكلاتها الثورية الداخلية بالسير في طريق الاستعمار قد انتهت بالفشل الذريع. غير أن هذا لا يعني أن الأحزاب التي شاركت بشكل مباشر أو غير مباشر في نظام حكم الثالث من يونيو سوف تسلك طريق الثورة، ولكنه يعني أن المشكلة الثورية التي كشفت عنها الكارثة العسكرية والتي ستدفع الطبقات الحاكمة إلى قطع أشواط طويلة في طريق الاستعمار، قد ضاعفت من أهمية الطبقة الثورية الوحيدة في البلد.
إن جبهة الثالث من يونيو جبهة مزعزعة، يمزقها الصراع الداخلي. غير أن هذا لا يعني أن "التشرينيين" (الأكتوبريين) والكاديت يفهمون مشكلة السلطة الثورية ويتحضرون لاجتياح مواقع البرجوازية والنبلاء المتحالفين. إنما يعني أن قوة الحكومة على مقاومة الضغط الثوري قد خارت ولا شك أنها لن تستعيدها بسرعة.
الملكية والبيروقراطية يغمرهما العار إلا أن هذا لا يعني أنهما سوف تتخليان عن الحكم بدون صراع. إن حل مجلس الدوما والتعديلات الوزارية الأخيرة قد أثبتت، للذين لم يقتنعوا بعد، مدى ابتعاد هذا الافتراض عن الواقع. إلا أن السياسة الرجراجة التي تنتهجها البرقراطية، والتي ستستمر في انتهاجها في المستقبل، سوف تساعد الاشتراكيين-الديموقراطيين على تعبئة البروليتاريا بشكل ثوري.
وسوف يزداد تعب الطبقات الدنيا في المدن والقرى وانخداعها وسخطها وغضبها. ولكن هذا لا يعني أن الديموقراطية الثورية سوف تعمل كقوة مستقلة إلى جانب البروليتاريا. فالمادة الاجتماعية والعناصر القيادية ليست متوفرة لتكوين مثل هذه القوة؛ وإنما يعني، ولا شك في ذلك، أن السخط العميق في أوساط الطبقات الدنيا سوف يساعد الطبقة العاملة على ممارسة ضغطها الثوري.
وإذا لم تنتظر البروليتاريا ظهور ديمقراطية برجوازية وإذا رفضت استكانة البرجوازية الصغيرة والفلاحين ومحدوديتهم يغدو نضالها أكثر تصميما وعنادا ويتجلى استعدادها للذهاب "إلى نهاية المطاف" أي إلى استلام الحكم، وتتزايد الفرص أمامها لكي تجرّ الجماهير غير البروليتارية وراءها عندما تحين اللحظة الحاسمة. إن مجرد طرح شعارات مثل "مصادرة الأراضي" وما شابه ليس له أي مردود البتة. وهذا ينطبق على الجيش أكثر مما ينطبق على أي قطاع آخر، هذا الجيش الذي يتوقف عليه بقاء الحكومة أو زوالها. إن غالبية الجيش سوف تميل إلى جهة الطبقة الثورية فقط عندما تقتنع أن هذه الطبقة لا تتذمر وتتظاهر فحسب وإنما تناضل من أجل استلام الحكم أيضا وأن لديها بعض الحظ في ذلك. ثمة مشكلة ثورية موضوعية في وطننا هي مشكلة السلطة السياسية التي كشفت عنها النقاب الحروب والانتكاسات. وثمة تفكك مستمر في أوساط الطبقات الحاكمة. وثمة استياء متزايد في صفوف الجماهير في المدن والقرى. ولكن البروليتاريا هي العنصر الثوري الوحيد الذي يستطيع الاستفادة من هذا الوضع، والفرص المتوفرة الآن هي أفضل بكثير من الفرص التي كانت متوفرة عام 1905.
يبدو وكأن إحدى عبارات هذه "الرسالة" تقترب من هذه النقطة الرئيسية. إذ تقول أنه يتوجب على العمال الاشتراكيين-الديموقراطيين الروس أن "يقودوا هذا النضال الوطني للإطاحة بحكم ملكية الثالث من يونيو". لقد أشرنا لتوه إلى ما قد تعنيه عبارة "النضال الوطني". ولكن إذا كانت عبارة "أن يقودوا" لا تعني فقط أن يهدر العمال المتقدمون دمهم بشهامة دون أن يتسائلوا لماذا يفعلون ذلك، وإنما تعني أنه يتوجب على العمال أن يتسلموا "القيادة السياسية" للنضال بأسره، هذا النضال الذي سيكون نضالا بروليتاريا إلى حد بعيد، إذن فمن الواضح أن انتصار هذا النضال يجب أن يؤدي إلى وضع السلطة بين أيدي الطبقة التي قادت هذا النضال أي البروليتاريا الاشتراكية- الديمقراطية.
إن المسألة، إذن، ليست مجرد مسألة "حكومة ثورية مؤقتة"، هذه العبارة التي لا بد للعملية التاريخية من أن تملأها بمضمون ما، وإنما هي مسألة حكومة عمالية ثورية، مسألة استيلاء البروليتاريا الروسية على الحكم. إن المطالبة بعقد جمعية تأسيسية وطنية، وبثماني ساعات عمل في اليوم، وبمصادرة الأراضي من مالكيها، بالإضافة إلى المطالبة بإنهاء الحرب حالاً وبالاعتراف بحق الأمم في تقرير مصيرها وإنشاء الولايات المتحدة الأوروبية، كل هذه سوف تلعب دورا بارزا في العمل التحريكي الذي يقوم به الاشتراكيون-الديمقراطيون. غير أن الثورة هي قضية حكم أولا وآخرا، ولا يهمها شكل الدولة (جمعية تأسيسية، جمهورية، ولايات متحدة) بقدر ما يهمها مضمون الحكم الإجتماعي. إن المطالبة بعقد جمعية تأسيسية وبمصادرة الأراضي تفقد كل معناها الثوري المباشر، في الظروف الحالية، إذا لم تكن البروليتاريا مستعدة للاستيلاء على الحكم، وإذا لم تنتزع البروليتاريا السلطة من بين أيدي الحكم الملكي فما من فئة أخرى ستقوم بهذا العمل.
أما سرعة العملية الثورية فهي قضية أخرى تعتمد على عدد من العوامل العسكرية والسياسية والوطنية والدولية. وهذه العوامل قد تعيق التطورات الثورية أو تعجل بها، وهي قد تمهد لانتصار الثورة أو تؤدي إلى هزيمة أخرى. ولكن مهما تكن الظروف، يتوجب على البروليتاريا أن ترى طريقها بوضوح وتسلكه. ويتوجب عليها قبل كل شيء أن تتحرر من الأوهام. وأسوأ وهم عانت منه البروليتاريا خلال تاريخها وما زالت تعانيه منه حتى الآن هو اتكالها على الآخرين.

ترجمة بشار أبو سمرا
دار الطليعة بيروت - الطبعة الاولى . مارس 1965








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. جيفري ساكس: الأثرياء يقترضون بفائدة 2% والفقراء بفائدة 5% لأ


.. اللقاء الجهوي الأول لحزب التقدم والاشتراكية حول “منظومة التر




.. كايل أندرسون: كتبت عن الإصلاحات الزراعية وقت حكم جمال عبدالن


.. الريسوني: مسيرة اليوم جاءت للتضامن أيضا مع الصحفيين المستهدف




.. من قلب مسيرة 6 أكتوبر بالرباط في الذكرى الأولى لطوفان الأقصى