الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


هوية الدولة والسردية التأسيسية

سعد محمد رحيم

2014 / 3 / 26
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


ترتكز أية دولة ناشئة على سردية تأسيسية تستمد عناصرها ومحتواها من التاريخ المشترك القريب والبعيد للمجتمع المعني، ومن ذاكرة أبنائه الجماعية. وهذا الشرط التاريخي يدعم قوة الدولة بقدر ما يوفِّر الأرضية النفسية والفكرية للتوافق الاجتماعي والسياسي، وإنْ في حدوده الدنيا، ويقرر الاتجاه العام لمسار الدولة وفلسفتها.. والسردية التأسيسية هي ما تشترك فيه الجماعات والأثنيات والثقافات المحلية من قصص عن الماضي المشترك، البطولي والمضيء غالباً. وهي تمثّل الوجه الآخر لهوية الدولة/ الأمة بوصفها الصورة الرمزية للوجود التاريخي للعائشين على أرضها.. وفي حالات معينة تكون سرديات الجماعات الغالبة عددياً، أو الأقوى والمهيمنة على المشهد السياسي العام هي المعتمدة بهذا الصدد. ها هنا يمكن بروز سرديات متعارضة، وليست متباينة وحسب، يعكس حجم الهوّة القائمة بين القوى السياسية والمكوِّنات والجماعات السكانية. وهذا ما يؤشر إشكالية عويصة في عملية بناء الدولة/ الأمة وإدارة مواردها.
للسردية التأسيسية ثقلها الرمزي والمعنوي، وأحياناً القدسي أيضاً. وتتشكل من بعض حقائق التاريخ من غير أن ننسى دور الأوهام والأساطير والقصص المحوّرة في تبلورها. فضلاً عن أنها تتكوّن من مجموعة سرديات ثانوية جزئية، بعضها مأخوذ من أزمان موغلة في القدم وأخرى من أزمنة قديمة نسبياً أو حديثة. كذلك لها مكوّن تاريخي حقيقي أو محرّف، وآخر ميتافيزيقي مؤسطر وغيبي. وليس المهم في السردية التأسيسية ـ يسمّيها كثر من المفكرين؛ الأساطير التأسيسية ـ صحة الوقائع التاريخية ودقتها وإنما اتفاق المجتمع عليها وإيمانهم بها. لكن يجب أن تتجاوز السردية التأسيسية تلك العُقد والتفاصيل ( الحقيقية منها والمتخيّلة والملفقة ) التي تحكي عن تناحرات وصراعات وتناقضات بين الجماعات المختلفة سواء في الماضي القريب أو البعيد. كي تبقى مرجعية معنوية وروحية للدولة/ الأمة لضمان الرسوخ والوحدة والسلام والبناء والاستمرارية.
إن جزءاً من أزمة إقامة الدول/ الأمم الحديثة هو الصراع على نمط السردية التأسيسية وصياغة المجتمع المتخيَّل الذي يستند إما إلى موجِّه إيديولوجي، أو ينهل من مخيال تاريخي.. ولا نستثني الحالة العراقية الراهنة من هذا. بل على العكس فإن ما يحدث اليوم على أرض العراق من صراعات وتناحرات يرجع في جزء مهم منه إلى نمط السردية التأسيسية التي اُعتمدت في تشكيل الدولة ـ الأمة العراقية والمتجسدة في الخطاب السياسي السائد للمتحكمين بمفاصلها، في السنوات المائة الأخيرة، حيث تفرض الفئات الحاكمة، دائماً، سردية جماعتها الأثني ثقافية في الخطاب السياسي والإعلام الرسمي وشكل المناسبات والأعياد، وفي الدراسات الأكاديمية وغيرها من تلك التي للفئة الحاكمة تأثير عليها.
تراوح الصراع على تحديد هوية الدولة العراقية الحديثة ( وفي ضمنها سرديتها التأسيسية كتحصيل حاصل ) في متون الخطابات السياسية للقوى المؤثرة في العراق منذ بدايات القرن العشرين بين هوية ( عراقوية ) ترى في العراق أمة قائمة بحد ذاتها مكوّنة من تنوع عرقي ثري وواسع يشترك في الجغرافية الواحدة، وفي تاريخ طويل من التعايش الذي أدى إلى بناء تقاليد مشتركة ومتداخلة. وبين هوية عروبية (قوموية ) تجد أن أغلبية الجماعات العراقية تنتمي إلى العرق العربي وبذا يكون العراق جزءاً من أمة عربية أكبر. في مقابل هؤلاء وأولئك هناك دعاة الهوية الإسلاموية الذين يعدون الحدود السياسية الحالية مصطنعة وأن العراق جزء من أمة إسلامية تعدادها أكثر من مليار مسلم منتشرين في قارات الأرض. وهناك من يتكلم اليوم، وإنْ ما زالوا قلة قليلة، عن ذوبان الدولة في عالم معولم حيث تغدو كلمات مثل الوطن والقومية والسيادة والدولة/ الأمة وغيرها مفردات في طريقها إلى الانقراض.
ومع تصعيد الخطاب الطائفي وجد من جعل من الوطن جزءاً من خريطة طائفية تمتد عبر بلدان إقليمية عديدة. ويقيناً أن جانباً من أزمة الهوية العراقية يكمن في تصوّر فئات من الجماعات الأثني ثقافية العراقية بأن لها امتداداً ديمغرافياً وثقافياً خارج حدود الجغرافية السياسية للعراق. وبطبيعة الحال فإن هذا التصوّر يتعزز، غالباً، في ضوء الصراعات القائمة وأشكالها واتجاهاتها على مصادر السلطة والثروة والنفوذ.
نستطيع القول أن في هذه الخطابات بُعداً رومانسياً ومتخيّلاً وإنْ كان كل منها يمتح من وقائع تاريخية حقيقية أو متوهمة. ومن معطيات في الحاضر معجونة بلغة المصالح العليا ـ وأيضاً حقيقية وافتراضية ـ وبقي الصراع محتدماً بين هذه التصوّرات عن الهوية منذ تأسيس الدولة العراقية الحديثة 1921 وحتى يومنا هذا. وكما يلاحظ أريك دايفيس في كتابه (مذكرات دولة: السياسة والتاريخ والهوية الجماعية في العراق الحديث ) "فإن جهود الدولة للسيطرة على الذاكرة التاريخية كانت مضنية جداً، وخصوصاً في الإطار التاريخي الغني للعراق والمتنوع إلى حد بعيد بذاكرته التاريخية".
لست أرمي في إطار هذا المبحث إلى تفنيد مزاعم أي من أولئك الدعاة ـ أصحاب السرديات المختلفة المقترحة للدولة ـ وما جاء في متون خطاباتهم السياسية، وكيف نسجوا وطرحوا شكل المجتمع العراقي (المتخيَّل ). لكن وعبر منظور الواقعية السياسية واتجاهات المصالح العامة، وتوازنات القوى الإقليمية والدولية، في المدى المنظور، تبقى مسوِّغات وأطروحات دعاة الهوية الوطنية العراقية هي الأقوى لاسيما مع الاضطراب الذي يعمّ محيطنا العربي والإقليمي الآن، والنزاعات ذات الطابع الطائفي والعشيري في مناطق كثيرة منه، وبحث كل دولة عربية أو إسلامية عن مصالحها الوطنية الخاصة، ورغبة بعضها في أن تمارس دوراً مؤثراً، أو دور الزعامة في محيطها الإقليمي، وربما أبعد من ذلك أيضاً.
عراقياً مثّلت ثورة العشرين سردية قريبة متينة في منطقها، ليس من خلال وقائعها فقط، وإنما ما أضيف إليها من جوانب متخيلة وأسطورية كذلك، وهذه تبناها أصحاب النزعة العراقية. وقبل ذلك كانت هناك الثورة العربية في الحجاز بقيادة الشريف حسين ضد الإمبراطورية العثمانية والتي اشترك فيها ضباط في الجيش العثماني من أصول عراقية رافقوا الملك فيصل الأول في رحلته إلى العراق وأعانوه في إدارة الدولة البازغة وصاروا رجال نخبتها السياسية والعسكرية الأقوى وحتى ثورة 14 تموز 1958، وهذه تبنّاها أصحاب النزعة العروبية. وأرى أن السرديتين لا يمكن إهمالهما في صياغة السردية التأسيسية للدولة العراقية بشرط وضعهما في سياقهما التاريخي الصحيح، وتنقيتهما من أوهامهما، وعدم الاكتفاء بهما.
يمكن تلمس جذور صورة العراق الجديد في فكر النهضة أو التنوير منذ منتصف القرن التاسع عشر.. ذلك الفكر الذي تأثر بمصادر أوروبية وعثمانية وعربية وإسلامية غزيرة ليكتسب، فيما بعد، صبغة عراقية واضحة. وقد شارك في إنشائه، والحوار حوله، والترويج له، نخب ثقافية ودينية تنتمي إلى الجماعات والمكوِّنات الإثنية ( العرقية والطائفية ) العراقية المختلفة. وقامت الدولة في العراق كما تقول فاطمة المحسن في كتابها ( تمثّلات النهضة في ثقافة العراق الحديث ) "بدور الوسيط، أي الحامل الإيديولوجي لفكرة النهضة كعقيدة، ونافست المثقفين في بث هذه الفكرة عبر البرامج التعليمية، والمؤسسات الحديثة".
تضمّن فكر النهضة والتنوير في العراق أحلام وآمال وتخيلات النخب الثقافية والدينية في شكل الدولة وطبيعتها وفلسفتها، وعلاقتها بالمجتمع والثقافة والدين والعالم، وإنْ لم تكن في صورة شاملة ومتماسكة وعلمية تُفضي إلى ظهور تيارات فكرية بأسس قوية راسخة، بيد أنه انطوى على شذرات من سرديات ستُعين، وإنْ بشكل محدود، في تأصيل وعي سياسي واجتماعي وتاريخي عند الشرائح المتعلمة، في الأقل. فيما لن تقوم الدولة العراقية في العام 1921 من غير أن تأخذ تلك الشذرات، ببعديها التاريخي والرمزي، بنظر الاعتبار.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. اعتصام لطلاب جامعة غنت غربي بلجيكا لمطالبة إدارة الجامعة بقط


.. كسيوس عن مصدرين: الجيش الإسرائيلي يعتزم السيطرة على معبر رفح




.. أهالي غزة ومسلسل النزوح المستمر


.. كاملا هاريس تتجاهل أسئلة الصحفيين حول قبول حماس لاتفاق وقف إ




.. قاض في نيويورك يحذر ترمب بحبسه إذا كرر انتقاداته العلنية للش