الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


قيمة الإنجيل الحقيقية – لماذا المسيحية كخيار 4 (من وحي الألبانية و السجين رقم 16670)

نضال الربضي

2014 / 4 / 1
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


قيمة الإنجيل الحقيقية – لماذا المسيحية كخيار 4 (من وحي الألبانية و السجين رقم 16670)

ينشغلُ الكثيرون في سجالات إثبات العقائد و صحة النصوص، و فوقية دين، و دونية آخر. و يصرف النُّقاد الوقت و الجهد للتثبُّت من النصوص، و لدراسة منطقية الغيبيات و تعارضها أو توافقها مع العلم، و يمدُّون الخيط على استقامته نحو التشريعات و القوانين الدينية، و يتبعون علوم النقد و الفحص و التأريخ لمحاولة الوصول إلى شكل الدين الأول عندما بزغ، و مقاصد الأنبياء و النُّساخ. تصدر ُ الكُتب، تعج ُّ النت بالأبحاث، تدور رحى ً إلكترونية شرسة بين هؤلاء و أؤلئك، و تبقى الديانات، تزداد بمقدار و تنقص بمقدار، هذا يتنصر و ذلك يسلم، و كما يقول المثل "أسلمت فاره، لا زادو المسلمين و لا نقصو النصارى" و يُقال أيضا ً "تنصرت فاره، لا نقصو المسلمين، و لا زادو النصارى".

في الحقيقة، كل هذا مكانه الكتب و الدراسات و الأبحاث و هي تخصُّ النخب العلمية و الثقافية، لكنه لا يرتبط ُ مباشرة ً بإنسان الشارع العادي، هذا أو تلك الذين يعيشان الواقع الملموس، الذي فيه حاجات ُ النفس البشرية بكل تعقيداتها و آلامها و طموحاتها، و حاجات ُ المعيشة ِ اليومية و الضغوطات المالية و الاجتماعية.

يعرف ُ المسيحي الإنجيل لا من خلال "أُلوهيته" لكن من خلال ِ مثاله الصالح، و ينفر ُ بطبعه ِ من أي انحراف ٍ عن هذا المثال، فيستقبل بكثير من الاشمئزاز و الرفض حالات العنف المسيحي و الانحراف المؤسسي الكنسي، لأن وعيه ُ و ما طُبع فيه يحكم بفساد هذه النماذج التي يُصدر الإنجيل ُ قوله فيها.

"المثال الصالح" كما يفهمه المسيحي ليس أفعال البابوات و الكهنة و أصحاب السياسة و الملوك و الأمراء و الفرسان، لكن أفعال البُسطاء من قديسي و قديسات البلاد الذين عرفهم الناس و عاشوا معهم، و اختبروهم بأنفسهم، البشر الذين عاشوا ذات "الفردية" التي ذُكرت عن شخص المسيح يسوع، الفردية العملية، لا الجدلية اللاهوتية.

تزرع المسيحية في أبنائها نمط سلوك ٍ سلامي، يقوم ُ على قبول التضحية و الانسجام مع استحقاقات الفداء ثم إشعاعه على الآخر، دونما سؤال أو تميز، و هو نمط ٌ سلوكي ٌ قائم ٌ على أساس ٍ زُرع في اللاوعي يُعطي المسيحين بشكل ٍ عام "هوية ً" تعرفها فيهم، و تُحسُّها، و هي هوية ثقافية لاعقائدية، تمتاز بإنسانيتها و احتضانها لبذور ِ الخير.

يختار المسيحي أن يعتز َّ بهذه الهوية حتى لو صار مُلحدا ً أو لا ديني، و يجمع ُ بتصالح ٍ بين عقله الذي يقبل العلم و الفكر و المنطق و يرفض الخرافة و من ضمنها العقائد و الطقوس و النصوص، و بين "هويته" التي تدفعه للحب حيثما كان، و حيثما حل، في الوقت ِ الذي ينظر فيه بقلق ٍ نحو عالم ٍ يصعد ُ رويدا ً رويدا ً إلى حافة المواجهة ِ مع الآخر تحت ضغط ِ الأنانية الفردية و التعصب.

الحب في المسيحية أساسي، هو الجذر و الجوهر و الدافع و الآلية و النتيجة في آن ٍ معا ً، و تظهر ُ في العالم ِ رموز ٌ عتيقة في المنهج حديثة في السنين، تُنشأ إرساليات و مؤسسات ٍ و مستشفيات ٍ و دور إغاثة و معونة تقدم نحو الأخر الحب، و تسد ُّ الحاجة، فمن لا يعرف تلك الراهبة َ الألبانية منحنية الظهر التي أسست "مُرسلات المحبة" الراهباتِ الهنديات اللواتي يدرن في شوارع الهند يلتقطن َ المرضى و يدفنَّ الموتى و يعتنين بالأطفال، أسوة ً بأمهن الراحلة "الأم تريزا".

معدن المسيحي يظهر ُ حين الاختبار، في كل مكان، حتى في السجن، حتى في معسكرات الاعتقال و الإبادة، حتى في أشرسها "أوشافيتز" ذاك المعتقل ُ البشع أثناء الحرب العالمية الثانية، حينما جمع النازيون البشر عبيدا ً أدنى من البهائم، و أذاقوهم الويل حتى الموت، أو الموت بالويلات.

من ذلك المُعتقل هرب ثلاثة سجناء، فأمر نائب قائد المعتقل أن يتم اختيار عشر سجناء و حبسهم في أحدى الزنازين ليموتوا جوعا ً دون طعام ٍ أو ماء، عقابا ً تأديبيا ً للباقين حتى لا يفكروا في الهرب. أحد الذين تم اختيارهم عشوائيا ً كان السجين "فرانسيسك غاجونيسك"، الذي أخذ يصرخ "زوجتي!" "أطفالي!".

كان السجناءُ الآخرين يرون المنظر، فقد تم جمعهم ليروه، قُصد لهم أن يروه، أن يفهموا أنَّ هرب أحدهم هو موت ٌ لعشرة ٍ آخرين وراءهم، أُريد لهم أن يخافوا و يرتعبوا، أحد السجناء الواقفين كان الأب الفرنسيسكاني السجين رقم 16670 "ماكسميليان ماريا كولبه". كان هذا الأب سجينا ً بتهمة مساعدة ألفي يهودي على الاختباء من النازين الذين كانوا يقتلونهم بالغاز و السُخرة، ذنبه أنه كان إنسانا ً رفض الوحشية َ و الظلم، فسُجن.

تقدَّم الأب ماكسميليان و طلب أن يأخذ مكان السيد فرانسيسك، رفض النازي ذلك فقال له الأب ما معناه أنك يا سيدي يهمك عشرة أشخاص، و لا يهمك من يكونون، فاسمح لي أن أكون مكانه، و كان له ما أراد. عشرون يوما ً قضاها الأب ماكسميليان في الزنزانة المخصصة للتجويع مع تسع ٍ آخرين من إخوته البشر، بدون طعام، بدون شراب، ينتظرون الموت. و عندما ماتوا جميعا ً و بقى لوحده ِ حيَّا ً شبه حياة، قتلوه ُ بحقنة ٍ من حامض الكاربوليك، ثم حرقوا جثمانه، عن سبع ٍ و اربعين عاما ً (47) هي مجموع ُ سني عمره.

عاش السيد فرانسيسك بعد هذه الحادثة ثلاثا ً و خمسين عاما ً كانت شاهدة ً على الحب، الحب الإنساني، و الحب المسيحي المنسجم معه، ليموت َ عن عمر ِ أربعة ٍ و تسعين (94)، منحها له الحب المجاني من شخص ٍ لا يعرفه اسمه "مكسمليان ماريا كولبه".

هذه هي ثقافة الإنجيل و هكذا نفهمها، و هو ما يسكن ُ في قلوبنا. نحن بنو المحبة و السلام، هكذا نعرف ُ أنفسنا، لسنا بني السياسة و لا بني المؤسسات و لا بني الرئاسات.

معا ً نحو الحب، معا ً نحو الإنسان!


______________
لمزيد ٍ من القراءة المُوجزة عن معسكر الاعتقال و الإبادة النازي: أوشافيتز، أقدم مقالي التالي رابِطُه و المنشور سابقا ً بعنوان:

قراءة في الوحشية – الوجه الآخر للإنسان
http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=406504








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - إلى الأستاذ محمد بن عبدالله
نضال الربضي ( 2014 / 4 / 2 - 06:17 )
------------------------------------------------------------------
العار
Tuesday, April 01, 2014 - محمد بن عبد الله

بعد قراءة هذا المقال الرائع وصلت إلى خانة التصويت
وجدت نسبة القبول حينئذ 55% وكان من سبقني أربعة قراء...أي أن نصف من طالع كلام العزيز الحكيم نضال لم يعجبه !

الخزي والعار لهذين الشخصين البشعين الذين طفحت الكراهية المالئة قلبهما فظهرت في هذا التصويت المنحط . عليهما ينطبق عنوان المقال الآخر المشار إليه: قراءة في الوحشية – الوجه الآخر للإنسان

-------------------------------------------------------------------------

أهلا ً بك أخي العزيز محمد ، يجب أن ندعوا للحب، لم يعد هذا مجرد خيار، لقد أصبح ضرورة ملحة، العالم مُنقسم بين دول استهلاكية تغتال الإنسانية بمادية ساذجة مثل أمريكا أوروبا دول العالم الأول، و بين دول فقيرة يطحنها المرض و الجوع و الجهل و الفقر مثل إفريقيا، و بين دول أصبحت استهلاكية يطحنها الجهل و مُبتلاة بالحقد على أنفسها و على الحياة في عقلية دينية تدمرها و تفنيها تماما ً.

الحب له من القوة ما يجعله ينتصر.

أهلا ً بك دوما ً، دم بكل الود.


2 - نحو الإنسان
nasha ( 2014 / 4 / 2 - 06:56 )
استاذ نضال كفيت ووفيت فعلا المطلوب السلام و الطمأنينة للجميع وهذا ما ينشده مسيحيي الثقافة . الحب و التضحية من اسمى القيم الانسانية
وهذه هي فحوى رسالة المسيح . لا يوجد اسمى واعظم من ذلك.
تحياتي استاذ


3 - إلى الأستاذ Nasha
نضال الربضي ( 2014 / 4 / 2 - 07:08 )
تحية طيبة أخي ناشا،

في الفترة الأخيرة أصبح الهجوم على المسيحية شديدا ً، ففي مواقع كثيرة من العالم يتعرض المسيحي للاضطهاد بسبب دينه، مع أنه عضو فاعل في مجتمعه، يؤمن بالنظام و القانون، و لا يُثير المشاكل أو الاضطرابات أو الشغب.

هذه العنصرية تدفعني للكتابة، ففي الحقيقة أرى أن ورقة اضطهاد الأقليات اصبحت في يد القوى العظمى وسيلة ً للتدخل في شؤون البلدان المُضطَهِدة (أي التي تضطهد) لكن لا لحماية المسيحين بل لمكاسب سياسية، من تلك الدولة، و هي ورقة في يد الدكتاتوريات لابتزاز القوى الكبرى ضد التطرف الإسلامي أي سياسة أيضا ً، و ورقة في يد المتطرفين الإسلامين من أجل اكتساب تعاطف المؤمنين بالخلافة و فوقية الإسلام.

هذا بشع جدا ً أخي الكريم و يجب أن نُظهر بشاعته أمام العالم لكي يقف كل شخص أمام ضميره الإنساني وقفة شجاعة.

ثقافة الإنجيل هي ثقافة السلام، و أنا أتحدث عن ثقافة لا عن مُعتقدات أو لاهوت أو ممارسات طقسية أو غيبيات، أتحدث عن المسيحي بثقافته و أثر فعله في المجتمع، فعل البناء، فعل الحب.

أتحدث عن الحب، و كما قلت َ أخي الكريم، لا يوجد أسمى و أعظم من ذلك!

أهلا ً بك دوما ً.


4 - تحياتي استاذ نضال المحترم
امال طعمه ( 2014 / 4 / 2 - 10:05 )
نعم رسالة المحبة هي الاساس وليس فقط الايمان
زرع المحبة تظهر ثماره الان وليس بعد حين

فلتكن رسالتنا رسالة محبة
وليس تحيزا او تعصبا او اثبات معتقدات ،فقط محبة


5 - إلى الأستاذة آمال طعمه
نضال الربضي ( 2014 / 4 / 2 - 10:34 )
تحية طيبة أستاذة آمال،

أسعدتني كلماتك ِ جدا ً، نعم المحبة هي الرسالة، و هي أيضا ً آلية نقل الرسالة، و هي نتيجة الرسالة أيضا ً، و هذا هو جمالها و موضع قوتها، فهي شاهدة على نفسها، قادرة على أن -تكون- و تظهر.

معا ً نحو الحب، معا ً نحو الإنسان!

أهلا ً بك سيدتي دوما ً.

اخر الافلام

.. المئات من اليهود المتشددين يغلقون طريقا سريعا في وسط إسرائيل


.. بايدن: يجب أن نقضي على -حماس- كما فعلنا مع -بن لادن-




.. يحيى سريع: نفذنا عملية مع المقاومة الإسلامية بالعراق ضد هدف


.. عشرات اليهود الحريديم يغلقون شارعاً في تل أبيب احتجاجاً على




.. بابا الفاتيكان يحذر من تشريع المخدرات ويصف التجار بـ-القتلة-