الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


قراءة من سفر التطور – كرة القدم شاهدا ً.

نضال الربضي

2014 / 4 / 3
التربية والتعليم والبحث العلمي


"كأس العالم"، مجموعة ُ مباريات ٍ شاملة لكل القارات تتكرَّر ُ كل أربع ِ سنين، ينشغل بها العالم ُ أجمع، يُبرمج ُ ملاين ٌ من الناس حياتهم بحسب ِ جدول ِ حدوثها، تمتلئ ُ الكافيهات بالشباب من الذكور (على الأكثر) و الإناث (بنسبة ٍ أقل) لمشاهدتها، تُعلن حالة ُ "الطوارئ" نظريا ً،و قبلها كانت قد تسابقت الدول على احتضانها، يتسمَّر ُ مئات الملاين بل المليارات أمام الشاشات، تتسيَّد ُ التحديات الأحاديث، تبرز ُ التوقعات، تنشط ُ العقول في التحليل، يجري الأدرنالين، تُصرف ُ المليارات، العالم ُ كله "يختلف"، تختفي الولاءات ُ القبلية و الوطنية و الدينية و تضمحل ُّ في فترة ِ انعقادها، ظاهرة عجيبة "تُصيب" الناس، تــَـــتَّـــسِم ُ بالإثارة، الترقب، التوقع، الأمل، الرغبة، الغضب، العنف، الفرح، الحزن، خيبة الأمل، النشوة، اللذَّة، اللامنطقية الساحرة الخلابة لكن الفاعلة المُؤثرة المُستحوذة "القادرة"، في "انتماء" و "كبرياءٍ" فُجائين، يجمعان من لا يجمعهم شئ، حول "لٌعبة".

لا شئ َ منطقي ٌّ في كرة القدم، مجرَّد ُ عشرين َ رجلا ً يركضون َ خلف قطعةٍ من الجلد المَخيط، منفوخة ٍ بالهواء، يضربونها من مكان ٍ لمكان، يتقاذفونها فيما بينهم، يجرون وراءها، ليودعها عشرة ٌ منهم في المساحة الخاصة للعشرة الآخرين، يحرسها رجل ٌ يستميت ُ كي لا تُودع َ قطعة ُ الجلد ِ عنده. صناعة ٌ تُدر ُّ أموالا ً طائلة، صناعة ٌ بدون منطق بدون عقل بدون غاية ٍ إيجابية، بدون هدف ٍ سامٍ و لا حتى هدف ٍ بمعنى الهدف، سوى تسجيل ِ "الهدف".

لماذا ننسجم ُ مع كرة ِ القدم؟

في ماض ٍ سحيق ٍ موغل ٍ في القدم، عندما كان جنسنا البشري الـ Homo، و قبل َ أن يتطوَّر َ إلى النوع العاقل Sapiens، يعيش ُ في قطعان بشرية ٍ تعيش ُ بالصيد و الالتقاط، كان الذُّكور ينطلقون لأيام ٍ تاركين الإناث َ في المخيَّم، ليُحضروا "اللحم" و هو مُكوِّن ٌ ضروري ٌ للنمو و البقاء. كانت ِ المُهمَّة ُ الذكرية ُ صعبة ً شاقَّة ً تتطلَّب الكثير َ من المهارات:

- كانت المهارة ُالأولى هي "المعرفة"، معرفة َ "ما هي" الحيوانات التي يمكن ُ صيدها "أكثر َ" من غيرها، معرفة َ "أين تُوجد ُ" تلك الحيوانات، معرفة َ "كيف تتصرف ُ" تلك الحيوانات، و ما هي خصائصها، و معرفة "الطريقة" التي يمكن ُ صيدها بواسطتها.


- المهارة ُ الثانية هي "التنسيق" بين أفراد قطيع الصيد البشري الأول، "التنظيم" و إن كان بدائيَّا ً بين أفراد ِ المجموعة "الصائدة"، هذا التنسيق الذي يعرف ُ كل ُّ فرد ٍ فيه دوره، المُستطلع، و المُطارد، و الرابض مُنتظرا ً مجئ َ "الصيد" الذي يطارده الأفراد المُطارِدون ليأتوا به إليه، ليضرب الرابض و المطارد ُ و المستطلع ُ معا ً مُنهين المهمَّة.


- المهارة ُ الثالثة هي "التَّحمـُّل و المُتابعة" Stamina، و هي مهمَّة أساسية، طوَّرها القطيع ُ البشري ُّ الأول لكي تكون الأداة ُ التي بواسطتها يستطيع ُ أن ينفِّذ َ كل المهارات السابقة، خصوصا ً أن الحيوانات المنوي صيدُها كانت تمتاز ُ بسرعة ٍ كبيرة و قدرة ٍ على المناورة، و شراسَة ٍ جسدية لم تكن مُتوفِّرة ً له.

مرَّر الذكور هذه الصفات َ في جيناتهم ِ بواسطة آليات التطورو الانتخاب الطبيعي إلى الجنس Homo فالنوع منه ُ البشري ُّ العاقل Homo Sapiens، و ترسَّخت فيهم بالممارسة "الألفية"، و بقيت موجودة ً معنا حتى على الرغم أنَّ نمط المعيشة في القرن الماضي أو القرون القليلة الماضية قد اختلف، فهذا الاختلاف هو "ضئيل ٌ" جدا ً مُقارنة ًمع هذه الملاين من السنين التي قضاها أسلاف ُ نوعنا في المُطاردة و الصيد.و لهذا ما زال النوع ُ البشري مُستثاراً بالأدرنالين، و رغبة ِ الصيد، رغبة ِ المطاردة، لذَّة الصيد، لذَّة تحديد الهدف، و لذَّة الجري وراءه، و نشوة "تحقيق" الهدف و العودة بالنتيجة.

إن كرة َالقدم "لُعبةَ الصيدِ" القديمة ما زالت تحيا في ذكورنا، إنَّها الشاهد ُ على تاريخنا، الشاهد ُ على تطور ِ نوعنا من وسط ِ المعاناة الطبيعية، من وسط ِ العَوَزِ و الحاجة للغذاء و إلى البقاء، على ما اكتسبناه ُ من تكُّـُيف ٍ و قدرة و منهجية. ذكرونا ما زالت "تركض"، "تُنسِّق"، "تصيد"، "تُسجِّل ُ الأهداف" في الخصم، تصيده، تُنهيه، لتحيا هي، إنها التَّطور الذي يُظهر ُ نفسه، يصيح ُ "هذا ما كان" و "هذا ما زال"، إنها لُعبة ُ "الكبرياء" الذي هو أساسُ البقاء و حفظ ِ النوع.

"كرة ُ القدم" ما زالت "فخرَ" القطيع ِ الصائد العائد إلى "إناثه" بعلامة ِ استحقاقه لـ "ذكوريته" التي تجعله ُ مقبولا ً من مجموعة ِ الإناث ِ في القطيع الباقية للالتقاط في محيط ِ "مُخيَّم ِ المجموعة"، هي "علامة الجودة"، هي "ختم الصلاحية"، "مٌفتاح ُ قبول ِ" الذكر عند الأنثى، هي العلامة ُ التي يُشهرها أمام الأنثى الأولى أنه "صالح" أنه " قادر" أنه "فاعل" أنه "مؤثر"، فتستقبله ُ إناث ُ القطيع، تلك الإناث اللواتي كُن َّ الطبيبات الأوائل، الكاهنات الأوائل، فتستقبله بالـ "الرضى" و "المُوافقة".

مهما حاولنا فهم "كرة القدم" على أساس ٍ حديث، سنفشل. فهي ليست حديثة، إنَّها ترجمة ٌ للقديم الموغِل ِ في القدم، إنها شهادة ٌ مكتوبة في الجينات عن خصائص النوع و طريقة ِ حياته الماضية، فلا ينفع ُ معها الحديث ُ عن "لا منطقيتها" أو "سطحيتها" أو "تفاهتها"، و لا تُفسِّرها مفاهيم ُ العقل ِ المُستمدَّة ُ من مظاهر و حضارة القرن العشرين و الحادي و العشرين، فنحن ُ نُخطئ ُ التشخيص إن فعلنا، لأن التشخيص َ الصحيح يجب أن يكون بيولوجيا ً تطوريا ً علميا ً و ليس بأي ِّ شكل ٍ من الأشكال "حضاري" "عقلاني"، أين العقل ُ في قطعة ٍ من الجلد ِ المَخيط المنفوخ بالهواء يجري وراءها عشرون رجلا ً؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟

لا أستسيغ ُ هذه اللعبة على المُستوى الشخصي، و لا تستهويني، لكن تستهويني بشدّة ٍ لعبة ُ الكرة الطائرة، و حين أٌفكَر ُ فيها فهي صورة ٌ أُخرى من "الصيد"، صورة ٌ سريعة، فيها "استقبال ُ" التحدّي ثم "إعدادُ" الرَّد، ثم "ضربُ" الهدف، و تحقيقه في مرمى الخصم، بقوة و شراسة و فعل ٍ واضح سريع مُنهي، تام لا يستتبع ُ بعده ُ شيئا ً، كانت الكرة الطائرة و بالنسبة ِ لي و ما تزال "الصورة الأمثل" للبشري الصائد، الذي لا يُشبهُه اليوم إلا "روح" الذِّئب الرمادي Canis Lupus، ذلك الحيوان الذي أجد أنني أتقاربُ معه جدا ً و أعشقه، لأنه خير ُ ما يُمِّثِّل ُ في الطبيعة مفاهيم الشجاعة و العائلة، و العمل الجماعي.

_________________

لمزيد ٍ من القراءة:
من سفر الإنسان - المرأة
http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=388472

قراءة من سفر التطور – من الكرومانيون حتى اليوم.
http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=389100

قراءة في سفر التطور – عندما عوى الذئب
http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=387084

من سفر التطور – أين ذهب الشعر؟
http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=393039








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - نصف النظرية
عبيدو ( 2014 / 5 / 18 - 07:17 )
تحياتي للمجهود النظري الكبير
لو كتب هذا البحث قبل 50 عاماً لكان احتمال تقبله أكبر بكثير من زمننا هذا. فقد تركز حول الذكر الصياد وانتقال جيناته إلى أحفاده... ولم يتحدث أبداً عن المرأة الممارسة لكرة القدم، والتي لم تكن صيادة يوماً، ما يعني أنّ جينات الصيد لم تنتقل إليها. ونعلم اليوم أنّ هنالك الملايين من لاعبات كرة القدم حول العالم احترافاً وهواية.
البحث أغفل تماماً وجود لاعبات الكرة، علماً أنّ بطولات كثيرة وعديدة لا تقلّ أهمية عن بطولات الرجال تنظم منذ العقود الأخيرة للألفية الماضية؛ أبرزها كأس العالم وكؤوس القارات (لكل الفئات العمرية)، وبطولات الدوري من أميركا إلى أوروبا وآسيا وأفريقيا وصولاً إلى بلداننا العربية بالذات. فكيف نفسر اللعبة النسوية استناداً إلى نظريتكم!؟
شكراً مجدداً


2 - إلى الأستاذ عبيدو
نضال الربضي ( 2014 / 5 / 18 - 08:36 )
تحية طيبة أستاذ عبيدو و أهلا ً بك،

تعليقك مهم جدا ً لأنه مدخل لفهم الاختلاف بين ما يعتقده الناس عن التطور و الوراثة و بين حقيقة التطور و حقيقة الوراثة.

هناك مبدأ بسيط في علم الوراثة يجيب على سؤالك، تحتوي البويضة المُخصبة و التي ينتج عن انقساماتها الكائن البشري: أنا، أنت، أي إنسان آخر، سواء ً ذكر أو أنثى، أقول تحتوي على 46 كروموسوم، هذه الكروموسومات تحمل الصفات الوراثية و التي هي صفات تطورية.

من أين أتت هذه الكروموسومات؟ الجواب هو: يقدم الأب نصف الكروموسومات أي 23 (ناتج تقسيم 46 على 2) ، و تقدم الأم نصف الكروموسومات أي 23 (النصف الآخر من تقسيم 46 على 2)، و لذلك يرث كل طفل جينات أبيه و جينات أمه.

أي تطور حصل للأب يرثه الأطفال الذكور و الإناث، أي تطور حصل للأم يرثه الأطفال الذكور و الإناث.

و هذا يجيب على سؤالك و أسئلة مشابهة.

لمزيد من القراءة في هذا المجال أوصي لك بهذه المقالات:

http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=401448

http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=401929

http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=413891

أهلا ً بك و أرحب بأي تساؤل أو اقتراح لديك.


3 - تعقيب
عبيدو ( 2014 / 5 / 18 - 14:15 )
جوابٌ شافٍ...
شكراً لكم أستاذي العزيز، وأتمنى لك مزيداً من النجاحات في ميدان البحث...


4 - إلى الأستاذ عبيدو
نضال الربضي ( 2014 / 5 / 18 - 14:33 )
أسعدني حضورك َ أخي الكريم، أهلا ً بك دوما ً.

اخر الافلام

.. بين نعيم قاسم وهاشم صفي الدين.. إليكم من قد يخلف حسن نصرالله


.. عاجل | إطلاق صاروخ من اليمن باتجاه إسرائيل وصفارات الإنذار ت




.. عاجل | مراسلنا نقلا عن مصادر إسرائيلية: غارة على الضاحية است


.. غالانت يصف عملية اغتيال نصر الله بإحدى أهم عمليات الاغتيال ف




.. خليل الحية: اغتيال نصر الله عمل إرهابي مكتمل الأركان وانتهاك