الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الثقافة الدستورية لدى سكان مدينة بغداد – دراسة ميدانية

فارس كمال نظمي
(Faris Kamal Nadhmi)

2005 / 7 / 10
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


(التفكير النمطي) هو مجموعة من التعميمات المتحيزة والمبالغ بها، يكوّنها الفرد عن خصائص جماعة معينة من الناس، أو عن مفهوم أو قضية متداولة في محيطه القريب أو البعيد. وتتخذ هذه التعميمات شكل فكرة جامدة تبسيطية يصعب تعديلها حتى إذا توافرت الأدلة على خطئها. وعلى الرغم من أن هذه الصور النمطية يمكن أن تساعد الفرد في التعامل مع تعقيدات البيئة الاجتماعية، إلا أن منظورها الإدراكي المتحيّـز يجعلها تحرّف الواقع الاجتماعي، وتمنع التغيرات الاجتماعية البنّـاءة بسبب تصلبها. ولذلك فإنها توصف في حالات كثيرة بالمكوّن المعرفي للتعصب.
وتتفق شريحة مهمة من المثقفين والباحثين الاجتماعيين في العراق على أن ((المجتمع العراقي يعاني من مشكلة إدراكية مزمنة، اسمها قوالب التفكير النمطي)). ومهما كان مقدار الدقة أو المبالغة في هذا الرأي، فالمؤكد أن تلاحق الأحداث والتطورات في الشارع العراقي خلال العامين الماضيين، أفرز بوضوح تام جملة من المصطلحات السياسية (النمطية)، صارت جزءاً من اللغة اليومية المثقفة والدارجة على حد سواء، إلى حد أنها باتت تشكل (خطاباً) نمطياً قهرياً استحوذ على أغلب اللسان الجمعي لمجتمع وجد نفسه ممزقاً بين أمنيات الهوية الموحدة وواقع الطائفية المفروض.
وبعيداً عن الخوض في كل التفريعات السببية والنتائجية لهذه المشكلة الإدراكية المتفاقمة، نجد أن أحد عناصرها الملحة أخذ يفرض نفسه اليوم عبر استفهام صار يراود عقول الكثير من الحريصين على تطور الوعي السياسي للفرد العراقي: ((إلى أي حد سيخضع الاستفتاء القادم على الدستور لقوالب التفكير النمطي وللمفاهيم الجامدة المسبقة الصياغة في عقلية الفرد العراقي؟ وإلى أي حد سيخضع هذا الاستفتاء للتفكير المرن القائم على المعلومات الدقيقة والمعاني الموضوعية للمصطلحات التي ستطرحها المناقشات الدستورية؟)). وبصياغة أكثر تحديداً: ((هل سيصوت العراقيون على الدستور، استناداً إلى ثقافة دستورية موضوعية، أم إلى قوالب جامدة من مفاهيم سياسية نمطية مسبقة؟)).
مبررات الدراسة وأهدافها
تعد الإشكالية التي تثيرها هذه الاستفهامات تحدياً لمصداقية العملية الدستورية القادمة، ليس من جانب فلسفي يتعلق بتشريع الدستور ومضامين بنوده ومدى أحقيتها، ولكن من زاوية (ثقافية) تتعلق بمدى فهم العراقيين للمعنى الصائب لمصطلحاته ومفاهيمه، ما داموا هم الجهة المخولة لقبوله أو رفضه عبر الاستفتاء. ولأجل التشخيص العلمي الميداني لبعض ملامح هذه الإشكالية، قام فريق من (الجمعية النفسية العراقية)، ضم إلى جانب كاتب هذه السطور، الباحثين: (علي تركي نافل) و(لؤي خزعل العمشاني) و(محمد طارش السعيدي)، بإجراء مسح ميداني تضمّن مقابلات شخصية مع عينة تألفت من (175) مواطناً عراقياً من مدينة بغداد، من الجنسين، تراوحت أعمارهم بين (20–60) سنة، ومن مستويات تعليمية تراوحت بين (يقرأ ويكتب) و(حامل لشهادة أكاديمية عليا)، يمارسون مهناً مختلفة: (معلم/ مدرس/ أستاذ جامعي/ مهندس/ طالب جامعي/ موظف/ سائق/ صاحب محل/ عامل/ ممرضة/ حرفي/ كاسب/ متقاعد/ ربة بيت....)،وتتوزع مساكنهم بين جانبي الكرخ والرصافة: (الإسكان/ الحرية/ الوشاش/ المنصور/ العطيفية/ الدورة/ البياع/ حي العامل/ حي الرسالة/ الكرخ/ القادسية/ مدينة الصدر/ الحبيبية/ الزعفرانية/ النهروان....).
قام هيكل هذه الدراسة المسحية على أساس (28) هدفاً تفصيلياً، جرى تضمينها في استمارة مقننة صممت لهذا الغرض، تتألف من ثماني أسئلة، وجهت إلى كل فرد في العينة. وفيما يأتي خلاصة بأهم هذه الأهداف:
* تحديد النسب المئوية لمدى معرفة أفراد العينة أو جهلهم بالمضمون الصحيح لأربعة مصطلحات هي: (العِلمانية/ الفيدرالية/ الديمقراطية/ الخصخصة)، وتقويم الدلالات الإحصائية لهذه النسب.
* تصنيف مضامين الإجابات غير المطابقة للمضامين الصحيحة للمصطلحات الأربعة، وتحديد مواقف أصحاب هذه الإجابات الخاطئة من بعض القضايا الخلافية المتعلقة بتطبيق هذه المفاهيم في الدولة العراقية الجديدة.
* تحديد الدلالة الإحصائية للفروق بين أفراد العينة في مدى معرفتهم أو جهلهم بالمضمون الصحيح لهذه المصطلحات الأربعة، على وفق متغير الجنس (ذكور/ إناث)، ومتغير المهنة (تحتاج إلى تحصيل دراسي/ لا تحتاج إلى تحصيل دراسي)، ومتغير التحصيل الدراسي (إعدادية فأدنى/ دبلوم فأعلى).
أما التعريفات القياسية التي اعتمدت للمصطلحات الأربعة، وقورنت إجابات أفراد العينة بها، فتم اشتقاقها وصياغتها على أساس مصدرين: الأدبيات الأكاديمية المتخصصة، واستشارة لجنة من اختصاصيين في علوم القانون والسياسة والاجتماع والاقتصاد.
إحصائيات
أفرز التحليل الإحصائي لإجابات الأشخاص الذين تمت مقابلتهم، النتائج الآتية:
* إن الذين يجهلون المضمون الصحيح لمصطلحي (العلمانية) و(الفيدرالية) يتفوقون في عددهم على الذين يعرفونهما، بنسبة (69)% مقابل (31)% للعلمانية، و(62)% مقابل(38)% للفيدرالية. أما عن (الديمقراطية)، فوجد أن عدد الذين يعرفون معناها الصحيح يفوق عدد الذين يجهلونه بنسبة (83)% مقابل (17)%. فيما تساوى عدد الذين يعلمون المضمون الصحيح لـ(الخصخصة) مع عدد الذين يجهلونه.
* إن (71)% من الذين قدموا مفهوماً خاطئاً عن معنى (العلمانية)، اتخذوا موقفاً رافضاً لها سلفاً بالرغم من عدم فهمهم لها، بأن أيدوا قيام دولة إسلامية في العراق. كما اتخذ (68)% من الذين قدموا مفهوماً خاطئاً عن (الفيدرالية)، موقفاً رافضاً لها بالرغم من عدم إلمامهم بمعناها الصحيح، مؤيدين قيام دولة مركزية في العراق. وفي المقابل، وجد أن (63)% من الذين لا يمتلكون مفهوماً صحيحاً عن معنى (الديمقراطية)، أيدوا قيام نظام ديمقراطي في العراق، بالرغم من مفهومهم الخاطئ عنها. أما عن (الخصخصة)، فاتضح أن (73)% من الذين لا يعرفون مضمونها الصحيح، يؤيدون خصخصة الاقتصاد العراقي جزئياً أو كلياً بالرغم من جهلهم بمعنى هذا المفهوم.
* عند تحليل الإجابات الخاطئة عن معنى (العلمانية)، اتضح أن (33)% منها يرى أنها: (الحاد/ كفر/ إشراك بالله/ محاربة للإسلام والدين)، بينما توزعت النسبة الباقية بين (23) إجابة، أهمها: (نوع من الاستعمار/ التطور التكنولوجي/ استغلال العمال/ أمركة العالم/ العولمة/ الحرية الفوضوية/ الدكتاتورية/ الشيوعية/ الرأسمالية).
* أوضح تصنيف الإجابات الخاطئة عن معنى (الفيدرالية)، أن (15)% منها يعرّفها بـ(تعددية الأحزاب السياسية)، فيما نالت الإجابات الآتية نسبة (10)% لكل منها: (تقسيم الدولة/ انتخابات رئاسية دورية/ الديمقراطية والحرية). أما نسبة (5)% فقد حصلت عليها كل من هذه الإجابات: (انفصال الوزارات عن بعضها/ اشتراك كل القوميات في الحكم/ البرلمان/ حكم مركزي يديره أشخاص/ الرأسمالية/ الماركسية والشيوعية/ تقطيع البلد وتبعيته للاستعمار/ مسايرة البلدان الأخرى بالتقدم/ نظام للشرطة/ توحيد النظام العالمي/ الكل يأكلون من صحن واحدة).
* النساء أكثر جهلاً من الرجال بمفهومي (الفيدرالية) و(الخصخصة)، فيما لم تظهر فروق بين الجنسين في مفهومي (العلمانية) و(الديمقراطية).
* إن ذوي المهن التي تحتاج إلى تحصيل دراسي، يتفوقون على ذوي المهن التي لا تحتاج إلى تحصيل دراسي في مدى فهمهم لمصطلحات (العلمانية) و(الفيدرالية) و(الخصخصة). فيما لم تظهر فروق بين هاتين الفئتين في مدى فهمهم لمصطلح (الديمقراطية).
* إن حاملي شهادة (الدبلوم فأعلى)، أكثر دراية بالمعنى الصحيح للمصطلحات الأربعة جميعاً، من حاملي شهادة (الإعدادية فأدنى).
استنتاجات
إن التفاعل الجدلي بين هذه المعطيات الميدانية الحية، يؤكد جملة من المؤشرات والحقائق:
* لا يمتلك الفرد العراقي ثقافة دستورية وافية تؤهله لإصدار حكم موضوعي على عدد من البنود الجوهرية التي ستطرح ضمن الاستفتاء على مسودة الدستور الدائم، لاسيما حول نوع الحكم وصلاحية السلطات: (علماني – إسلامي)/ (فيدرالي – مركزي). وقد يعزى ذلك –من المنظور السيكولوجي الاجتماعي– إلى القولبة النمطية التي يعاني منها التفكير الاجتماعي في العراق، نتيجة شيوع (الثقافة الشِعارية) التسطيحية، لعقود من الاستبداد الأيديولوجي الشمولي، وما أعقبه من تهميش لقيمة العقل الفردي في مقابل ازدهار مفجع لثقافة المرجعية: دينية أم عرقية أم مذهبية أم عشائرية أم (ديمقراطانية)! فالفرد العراقي بات يستسهل (التوحد) بمرجعية ما، تقرر له تفكيره وسلوكه، فيعلق عليها وزر أخطائه وجدوى صواباته، تحاشياً لاستقلالية التفكير ومشقة البحث عن المعلومة الدقيقة، وتجنباً لعناء التحليل والاستنتاج ومسؤولية اتخاذ موقف فكري وعملي تجاه التحديات الجسيمة التي فرضها عليه الاحتلال وتداعياته.
* إن ضعف الثقافة الدستورية هذا، ترافقه نزعة (تعصبية) تتمثل في اتخاذ الفرد العراقي مواقف رافضة لمفاهيم (العلمانية) و(الفيدرالية) ومؤيدة لـ(الخصخصة)، بالرغم من جهله بمضمونها الصحيح؛ بل إنه يذهب إلى حد تبني تصورات نمطية مغلوطة عنها، مما يعني اتساع الهوة بين الحبر الذي يكتب به الدستور وبين القوالب المحنطة في أذهان الناس عن مفاهيم يراد الاستفتاء عليها لتشكيل بنية هذا الدستور.
* تتخلف المرأة العراقية بشكل ملحوظ عن الرجل في ثقافتها الدستورية بشأن مصطلحي (الفيدرالية) و(الخصخصة). وقد يفسر هذا التخلف في ضوء الحداثة النسبية لانتشار هذين المفهومين في المجتمع العراقي، إذ تراجع دور المرأة العراقية في المشاركة بالحياة العامة منذ انتهاء الحرب في نيسان 2003م بسبب تزايد أنماط العنف الاجتماعي والجنسي ضدها، مما جعلها بعيدة نسبياً عن إمكانية امتلاك الدراية والوعي بهذين المفهومين. وسيكون لهذا التباين الثقافي بين الجنسين دوره السلبي الإضافي في تهديد مصداقية الاستفتاء القادم على الدستور.
* توجد علاقة طردية بين مستوى الثقافة الدستورية لدى الفرد العراقي، وبين طبيعة مهنته ومستوى تحصيله الدراسي. فكلما كانت مهنة الفرد تتطلب تحصيلاً دراسياً معيناً، وكلما ارتفع مستوى تحصيله هذا، كان أكثر دراية بمضمون المصطلحات السياسية التي تناولها هذا البحث. فإذا أخذنا بنظر الاعتبار الارتفاع المضطرد لنسب الأمية في العراق خلال العقد الماضي، وما رافقه من تدهور علمي وتكنولوجي في مختلف المهن، أمكننا التكهن مرة أخرى بضعف الوعي الدستوري لدى شريحة واسعة ممن سيطلب منهم الاستفتاء على بنود الدستور. وفي هذا مساس آخر بمدى مصداقية هذا الاستفتاء وموضوعيته.
* تأسيساً على هذه الاستنتاجات، وبما أن انتشار الثقافة الدستورية على نطاق واسع هو عملية تاريخية طويلة الأمد ومرهونة بتطور البنى الفوقية العقلية للمجتمع وليس بالمصالح الستراتيجية لهذه الدولة أو بالنوايا الآنية لتلك الحكومة أو بالحملات الإعلامية للأحزاب والتيارات السياسية، لذلك نقترح إجراءاً آنياًَ عملياً لتقليل الآثار السلبية الواسعة التي ستتركها قوالب التفكير النمطي للناخب العراقي على نتائج الاستفتاء القادم، يتمثل بقيام الهيأة المسؤولة عن صياغة وثيقة الدستور وطرحها للمناقشات العامة، بإرفاقها بـ(دليل تعريفي) مطبوع ومرئي ومسموع، يتضمن شرحاً وافياً لمعاني المصطلحات الدستورية الأساسية التي يتمحور الخلاف بشأنها بين شرائح المجتمع وتياراته، معززة بأمثلة توضيحية من تجارب الشعوب الأخرى، على أن تقوم لجنة من الأكاديميين المستقلين بكتابة هذا الدليل التعريفي.
إن دراستنا هذه يمكن عدّها إسهاماً (سيكولوجياً) في تحليل منظومة الإدراك السياسي لدى الفرد العراقي في تعامله مع بنود الدستور الذي يراد منه ضمناً تأسيس أيديولوجية الدولة لعقود قادمة. أما الفلسفة التشريعية التي سيكتب بها الدستور نفسه، ومدى قابلية مفرداته للتحقق الفعلي، وملابسات صياغته، وتوقيتات طرحه وإقراره، فتلك مهمة بحثية أخرى إطارها الحيوي علوم القانون والسياسة والتأريخ والاجتماع والاقتصاد.









التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. تركيا تعلق كل المبادلات التجارية مع إسرائيل وتل أبيب تتهم أر


.. ماكرون يجدد استعداد فرنسا لإرسال قوات برية إلى أوكرانيا




.. مظاهرات مؤيدة للفلسطينيين: جامعة -سيانس بو- تغلق ليوم الجمعة


.. وول ستريت جورنال: مصير محادثات وقف الحرب في غزة بيدي السنوار




.. ما فرص التطبيع الإسرائيلي السعودي في ظل الحرب الدائرة في غزة