الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


المفكر الوجودي الدانماركي سورن كيرككَورد وصراعه ضد الدين الأحتفالي !

قحطان جاسم

2014 / 4 / 4
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


ناقش سورن كيرككَورد ، المفكر الوجودي الدانماركي علاقة الفرد والله وعلاقة الفرد بالدين، وطرح تصوراته عن هذه العلاقة انطلاقا من تصوراته عن الأنسان. وقد انشغل كيرككَورد منذ وقت مبكر في حياته بهاتين القضيتين؛ الأنسان والله. ولا تخلو واحدة من كتبه او مقالاته الأدبية او الفلسفية من أشارات او مناقشات عميقة لهاتين المسألتين.
وظف كيرككَورد نفسه تماما في العامين الاخيرين قبل وفاته، للنظر الى قضية علاقة الفرد بالدين. ووجه لها النقد الشديد، متهما الكهنة و مؤسسة الكنيسة بتحويل الدين الى مصدر عيش واداة للحصول على المنافع والمكاسب والنفوذ والسلطة، وتفريغ الدين من محتواه الروحي. و كيرككَورد يطرح تصورا خالصا يكاد يكون مثاليا غير ممكن التحقيق في الواقع عن المتدين المسيحي. فهو يطالبه ان يوظف كل حياته ويعاني مثلما عانى المسيح لكي يصل جنة الله، كما انه وجه نقدا صارما الى القسس الذين يتخذون من الطقوس الدينية كالتعميد والزواج وغيرها لحرف الفرد عن الدين الحقيقي.1 واعتبر ان تلك الطقوس هي مجرد مهرجانات يراد بها حرف الحشد والجموع عن حقيقة الدين، والأكتفاء بالتدين، أذ انه يميز بين الدين، الذي هو في نهايته ، قضية فردية تماما، وبين التدين الذي يقوم الرهبان ومؤسسة الكنيسة للدعاية له من أجل كسب اتباع جدد. ويقول كيرككَورد ان الدين لا يحتاج الى الحشود او الطقوس الدينية، كما انه عارض تدخل الدولة بقضايا الدين او تحالف الكنيسة والكهنة مع الدولة، وحصول الرهبان على مكاسب من الدولة عن طريق نشر المسيحية.
وخصص أعداد مجلة "اللحظة" التي صدر عددها الأول في 24 آيار عام 1855، التي كان يصدرها بنفسه وكتب مقالاتها لوحده كليا لنقد الكنيسة وتدخل الدولة ووضع الكهنة. وكان كيرككَورد قد شرع قبل ذلك بتوجيه النقد الى رئيس الأساقفة القديم ما ينستر، وبدأ هذا النقد في البداية خفيا وغير مباشر في كتابه "تمرين في المسيحية" الذي صدر عام 1850 وقد عرض كيرككَورد الكتاب على ماينستر فعلق عليه بعد قراءته أن نصفه موجه ضده.
لكن كيرككَورد شن هجوما عنيفا وبصورة علنية على ما ينستر ورئيس الأساقفة الجديد بعد وفاة الاول. وواصل كيرككَورد هذا النقد الحاد ضد الكنيسة وجميع الرهبان حتى وفاته، مما جلب له أعداء كثيرين من مؤسسة الكنيسة .
و كيرككَورد الذي أعلن في أحد يومياته الخاصة انه كاتب ديني، رأى ان وظيفته الاساسية هي ان يحقق ذاته كمسيحي، او بكلمة آخرى " ان يحقق ذاته كإنسان وجودي، في علاقته مع المسيحية التي تربى عليها منذ طفولته بصرامة وحزم" 2
وبهذا فأن كيرككَورد رغم إيمانه العميق بالمسيحية ورؤيته الدينية عن الحياة لم يطرح نفسه كداعية الى هذا الدين، بل العكس من ذلك فقد رأى ان الدين لا يحتاج الى دلائل وان قضية الايمان هي قضية روحية بين الفرد والله. وبذلك فقد رفض الدين الاحتفالي، واعتبره كوميديا مسرحية لحرف الفرد عن الايمان الصحيح.3
قادته نظرته الى الفرد وايمانه العميق به الى التصريح بانه يسعى لحث الفرد لكي يفكر ويتخذ القرار بنفسه، ويختار قراره بصدق، في ضوء ما توصلت اليه تجربته الخاصة ،او مثلما كتب: " أن يجلب إهتمام القاريء لكي يكون صادقا، ولا يمكن تحقيق ذلك، حسب رأيه ، الأ حين يتحدث الأنسان دون سلطة ، ويحترم بصراحة الفرد." 4 ويضيف في مكان آخر " أنا لست رسولا يحمل رسالة من الله بسلطة. كلا. أنا خادم الله، ولكن بدون سلطة. مهمتي هي : ان افسح المجال ، لعل الله يأتي" ويذكر في الهامش " ليست مهمتي أن أفسح المجال عبر الأوامر ، بل عبر المعاناة" 5
ولم يكتف كيرككَورد بتوجيه نقده الصارم الى الكنسية والكهنة، بل طال نقده الدولة ورأى في التداخل بين النشاط الديني وعمل الدولة، اللذين حسب وجهة نظره، يختلفان كليا، إضرارا لهما وتزييفا لوعي الفرد. وقد كتب في مقاله الثالث المعنون" الدولة -المسيحية" الذي صدر في 27 حزيران عام 1855 في مجلته "اللحظة" أن دمج المسيحية والدولة هو " في خدمة الهراء والقسس. أن تضع الدولة والمسيحية معا وبهذه الطريقة ، يقابل تماما في معناه، كما لو انك تتحدث عن أن تزن الزبدة بالذراع".6
ولم يتوقف كيرككَورد عن مواصلة هجومه ضد الكنيسة في مقالاته في مجلة " اللحظة" التي صدرت، منها تسعة اعداد فقط قبل رحيله، اما العدد الأخير فقد صدر بعد وفاته بفترة، حيث وافته المنية في 11.11.1855.
خلف كيرككَورد بعده تراثا فكريا وأدبيا هائلا واطبقت شهرته في كل العالم وترجمت كتبه الى جميع اللغات، الا ان ما ترجم منه الى اللغة العربية قليل جدا، وما ترجم منه وكتب عنه تم عن طريق لغة ثالثة، ولذلك تمتاز الكتابات بعدم الوضوح او التشوش في عرض مفاهيمه. فالمعروف ان باحثي كيرككَورد يواجهون مشكلة كبيرة، ليس في ترجمة نصوصه فحسب، بل وايضا في الدخول في ثنايا وتفاصيل ومحتوى مفاهيمه. وما يزال الباحثون يختلفون حول طريقة تأويل تلك المفاهيم والنصوص، الى درجة ان كلا المعسكرين العلماني - الملحد، والمؤمن - المتدين يرى في كتبه منطلقا فكريا لتدعيم أفكاره وحججه ضد او مع الدين. كما ان كتبه أستخدمت في علوم متنوعة شتى؛ علم النفس ، والأتصال ، والانثروبولوجيا ، وعلم اللاهوت وغيرها. وما احوجنا اليوم في ظل ما يجري من محاولات من قبل الحركات الاسلاموية لجعل الدين احتفالية سياسية وتحويل طقوسه الى معارك من اجل السلطة، ان نعود الى سورن كيرككَورد لنتخذ من فكرة الايمان الفردي، التي تقوم عليها كل رؤيته الوجودية للانسان والدين والله، لكي نفصل الدين عن السياسية والدولة ونصون بذلك روح الانسان والدين من التشويه والتجارة الدينية. ونحمي المواطن وبلداننا مما تتعرض اليه من هجمات وحشية متخلفة ، حيث يتم تهييج الحشد والجموع بإسم الدين، ناسين ان الدين هي علاقة روحية محضة بين الفرد وخالقه.

ملاحظة : لمن يريد الاطلاع بصورة اوسع عن تصورات كيرككَورد من الفرد والايمان الفردي فيمكن مراجعة دراستي الموّسعة والمنشورة في العدد المكرّس لذكرى مرور مئتي عام على ولادة سورن كيرككَورد في مجلة " قضايا إسلامية معاصرة" العدد 55-56 الصادر في 2014 وهو موجود في كل مكتبات الوطن العربي. كما يشتمل العدد على العديد من الدراسات والترجمات المهمة عنه.
المصادر:
1) Kierkegaard, Søren: samlede værker, Bind 19, Gyldendal, 1964, pp.232-238
2) Kierkegaard, Søren: samlede værker, Bind 18, Gyldendal, 1964, pp127
3) Kierkegaard, Søren: samlede værker, Bind 19, Gyldendal, 1964, p.243
4)Theilst, Peter: Kierkegaards Filosofi, Hans Reitzels forlag, 1985, p.20
5) Ibid, p.20
6) Kierkegaard, Søren: samlede værker, Bind 19, Gyldendal, 1964, pp. 137-149. لقد قمت بترجمة هذه الصفحات من المقالة في هذا المصدر الى العربية من الدانماركية في المجلة التي اشرت اليها اعلاه.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مختلف عليه.. المفكر وجيه قانصو: الدولة الإسلامية مفهوم غربي


.. رفع الأذان فوق ركام مسجد رغم تدمير الاحتلال له كليًا




.. 21-Ali-Imran


.. 22-Ali-Imran




.. 23-Ali-Imran