الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


من سفر الإنسان – قراءة في الموت.

نضال الربضي

2014 / 4 / 5
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


من سفر الإنسان – قراءة في الموت.

ستَّـة ُ لترات ٍ من الدم تضخُها عضلة ٌ صغيرة ٌ نشيطة دائمة ُ الفعل، لتجري في الشراين، إلى الأعضاء، تُغذيها، تستديم ُ عملَها، تضمن ُ الوجود الحي للكائن، حتى تتوقف العضلة، و يتوقف الدم، و تموت الأعضاء، و يُعلن َ حدث ُ "الموت".

حدث ُ الموت هو توقف الفعل في الكائن، هموُده، بداية ُ عودتِه إلى الطبيعة، مكوناتُه التي كانت قد تشكَّلت أعضاء ً تعود ُ إلى ذات الطبيعة ِ التي خرجت منها في شكل ٍ آخر، حين تحضُر الكائنات الأقل ُّ تطورا ً في سُلَّم العضوية، البكتيريا و الديدان و الحشرات الآكلة، تلك التي دعاها فعل ُ "انتهاء الاستمرارية" لكي تأخذ دورها، لكي تتعهد الجسد، لكي تُنفِّذ ما يجب أن يتم، و تعمل ما يجب ُ ان يُعمل، لكي تعود به إلى أصله الأول، جزءا ً من هذا الكون، في كينوناته الأخرى، فيتحلل الجسد و يذهب اللحم إلى الديدان و الحشرات و يتحلل في التراب، لكي يعود تُرابا ً من أديم الأرض، التي جاءت قبل مليار ٍ و مائتي مليون عام بالخلية الصغيرة الأولى، أُمنِا: آدم.

آدم، أديم الأرض، الخلية ُ الأولى في الشق ِّ الصخري في الماء، أديمُها هو مادة الحياة، و وعيها ما زال َ غائباً، انتظر مليارا ً ثم انتظر فوقها مئتي مليون عام، حتى أتينا، حتى انكشفت القوُّة ُ الكامنة ُ في الخلية، القُوَّة ُ التي استودعتها الحياة، حتى أتينا، حتى ظهرنا، حتى انتصب الإنسان ُ منفصلا ً عن جنس المخلوقات الأخرى، حين انقلبت الحبليات ُ ثديات، و تخصَّصت في الثديات ِ الأوليات، و من الأوليات ظهر جنس العاقلين، جِنسنا.

هذا الجنس القادر على أن يفهم الحياة، و يُدرك بالوعي و يعي مُدركا ً العلاقات بين الموجودات، ساعيا ً نحو الوجود، حتى إذا انتشى نشوة َ المعرفة ِ العُظمى و أحسَّ أنه يملك كل شئ، و يعلم ُ كل شئ، و يسيطر ُ على كل ِّ شي، حضر الموت في من يُحب، في من يعشق، في من يعرف، من حوله، ضاحكا ً ساخرا ً مُستهزءا ً، قاسيا ً، بشعا ً، لا رب َّ له، لا دين له، لا كتاب له، لا عقيدة له، لا أيدولوجية َ له، لا حزب له، لا عرق له، لا لون له، فقط له ُ "ذاتُه" التي هي عُنوان "التوقف"، عنوان "النهاية"، عنوان "نهاية الرحلة".

هو بوقُ ملاك ِ الموت ِ الغاضبُ، المُتشفـِّي، القاسي، الساخر، المُمهِلُ عن سادية ٍ شرسة لكن باردة، مُنتظرة، صبرا ً جليديا ً حارَّا ً يُنظرُهم إلى يوم َ "يتوقفون"، هو عنوان نهاية ِ رحلة الخلية الأولى التي بدأت قبل ذاك المليار ِ المتبوع ِ بالمئتي مليون ِ عام، إنَّه ذاك الوجودُ الأول حين ترجم نفسه إلى شكل الإنسان، ثم قرَّر أن هذا الشكل قد استُنفـِذ، و أن "وحدة الحياة Life Unit" قد انتهت صلاحيتُها، و آن وقت ُ انتقال ِ طاقتها و مادتها إلى الحياة ِ مرَّة ً أُخرى، تلك الطاقة ُ التي لا تفنى و لا تُستحدَث لكن "تتحول" من شكل ٍ إلى آخر.

هذا موتنا للحياة، مجرَّد ُ تحوُّل ٍ في الطاقة، نحن نسعى لديمومة ِ الوعي الذي نعرفُهُ لكن الحياة َ تسعى لتغير شكل وعينا إلى شكل ٍ آخر، لا نعيه، و لا نحياه ُ نحن ُ بهويتنا، بكينونتنا، بذكرياتنا، لكنه يحيا في "الوجود"، يحيا في "الحياة"، يحيا في "تحولات المادة"، و "تحولات الطاقة"، يحيا بدون هويتنا نحن، بدون وعينا نحن، بدون ذكرياتنا، بدون إحساسنا، بدون"شخصيتنا"، بدون ما "يُميزنا"، بدون ما يجعل جسد كل منا "منفصلا ً" عن الآخر، بدون ما يجعله "مختلفا ً" عن الآخر.

الموت هو تحوُّل ُ شكل هذه "الوحدة" هذه "الكينونة" هذا "الكيان" المنفصل إلى "شئ ٍ آخر"، هو تحُّول ٌ و استمراية، لا عدم، لا فناء، لا انتهاء، لكنه ليس بذات الوعي، لذاك قلنا عنه موتا ً، لكنه في الحقيقة "حياة"، إنه حياة ٌ أخرى، تختلط ُ فيها أجزاء ُ الأجساد ببعضها، عن طريق كائنات التراب، الديدان و الحشرات و البكتيريا، و المكونات التي تتغذى عليها النباتات،و التي تتغذى عليها الحيوانات، و التي نتغذى نحن عليها، الأحياء َ منا أعني، حتى إذا ما إذا أردنا الصدق ففي داخل كل واحد منا مليارات ٌ من البشر و الحيوانات و الكائنات الأخرى بفعل استمرارية الحياة. في داخل كل ٍّ منا "كلــُّنا"، نعم في داخل كل ٍّ منا قصة الحياة، و كائنات الحياة، و مكونات الحياة، في داخل كل ٍّ منا البشرية ُ في تحولات المادة و تحولات ِ الطاقة و المواد، و شعاع ُ الوجود الأول، القاع الأساسي، الوحدة الكلية الأساسية التي لا تتجزأ.

أمام الموت تضمحل ُّ النصوص، و تتقزَّم ُ الديانات، و تنقشعُ غمامة ُ الدين، و تنهزم ُ الأيدولوجية، و يظهر ُ كيان ُ "الوجود"، يظهر الكيان ُ الجمعي "الواحد" و "الأوحد"، الذي لا شريك له، ذاك َ الكيان ُ الذي يصيح ُ "أنا هو"، الكيان ُ البراهماني، الهيولي، الساكن، الذي من سكونه وُلدت الديناميكية التي عَرفت التجزِئة و أتت بالكينونات و "الشخصيات"، تلك الأخيرة ُ التي تعودُ بالموت لِتَتَّرجم َ بانعكاس ٍ نحو ما كانت عليه ِ قبل الشخصنة، نحو الوحدة ِ عائدة ً نحو الكل، نحو الـ "لا انفصال"، نحو الـ "لا حواجز".

الموت هو الحياة، من رحِمِه ِ القاسي يولد ُ الكيان ُ الجديد، من كيانات ٍ مليارية ٍ غير محدودة، لتتكون شخصيتُه التي ستعود ُ مجدَّدا ً إلى ما كانت حينما تنتهي صلاحية ُ الكيان، ليعوُد َ إلى حضن ِ الوجود، وجودا ً كما كان، دون هوية، دون شخصية، دون تمايز، دون تميز، كيانا ً فقط، لا أكثر.

من الموت ِ نحيا و تولد الحياة، و غاية ُ الحياة أن تتحوَّل َ إلى شكلها الديناميكي الآخر، شكل الموت، حتى تعود َ حياة ً من جديد، فالحياة هي ذاتُها الموت الذي يغدو مجرَّد مرحلة ترجمة ِ الشكل ِ إلى شكل ٍ آخر، و الموت ُ هو ذاتُه الحياة ُ بعد أن ترجمها للشكل ِ الجديد. إننا لا نموت لكن نتحول، و لا نحيا لكن نموت، إننا حياة ٌ تُحب ُّ الموت لكي تستطيع أن تحيا، و إننا موت ٌ يُرافق الحياة كي تستمر الحياة. إن الحياة َ بدون موت ٍ عدم، و الموت لا يكون ُ بدون الحياة، إننا الحياة و الموت، إننا: الوجود.

و حتى يحين موعد ُ التحوُّل فلنفرح بالحياة، و لنحبَّ بعضنا بعضنا، و لنبن ِ مجتمعاتنا، و لنرتقِ في الوعي و الإنسانية و الإنجاز، و لنفرح.

أتمنى لكم كل الفرح!








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - تعليق
عبد الله خلف ( 2014 / 4 / 5 - 22:56 )
- العلم الحديث يقر بوجود الشعور بالأنا بعد الموت عبر نظرية (البيوسنتريزم) , راجع :
http://www.robertlanzabiocentrism.com/does-death-exist
- قال تعالى : (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ) .
الإنسان لم يُخلق عبث .
من أجل إنتاج بروتين واحد بسيط وظيفي نحن بحاجة إلى برميل يوجد بداخله خليط من الأحماض الأمينية , بشرط أن يكون حجم هذا البرميل (مليارات مليارات مليارات أضعاف حجم الكون) , ويأخذ فترة من الوقت (مليارات مليارات مليارات أضعاف عمر الكون) , كل هذا من أجل انتاج بروتين وظيفي بسيط مثل بروتين الجلوبين الموجود داخل الهيموجلوبين , الذي يحمل الإكسجين على كتفه وينقله من الرئة الى خلايا الجسم المختلفة , ثم يأتي هذا الجسم ويطالب بعدم محاسبته! .


2 - البيوسنتريزم
nasha ( 2014 / 4 / 6 - 00:41 )
ياعمي عبدالله ذبحتنا بهذه المصطلحات الاجنبية الكافرة المظلة يا اخي ما تجيب من كله من القران المعجز تبعك.
تحياتي استاذي العزيز نضال
ارجو ان تسمح بنشر تعليقي هذه المرة . مع احترامي الشديد لتوجهاتك .


3 - إلى الأستاذ عبد الله خلف
نضال الربضي ( 2014 / 4 / 6 - 09:32 )
تحية طيبة أخي عبدالله،

البيوسنتريزم تشبه إلى حد ٍّ ما مفهوم -المايا- الهندوسي، و الذي نعلم ُ منه أن كل الموجودات بشكلها الحالي هي مجرد -أوهام- و -حواجز- غير حقيقية ينشغل بها -وعينا- فلا يُدرك -حقيقة- الوجود، أو القاع الوجودي الأصل و الأصيل -براهمان-.

لذلك و كما هو وارد في مقالي نحن لا نموت لكن -نتحول- إلى شكل آخر من الطاقة و المادة و -نستمر-، لكن -استمرارنا- لا يكون بذات -هويتنا- و ذات -شخصنا- مع ذات -ذكرياتنا- أو ذات -أنفسنا-.

و عليه فإننا نتفق مع بعضنا في -الاستمرارية- و نختلف في -طريقة الإستمرارية- فبينما ترى أنت أن الاستمرارية ستكون شخصية بذات الهوية، أرى أنا ما أسبقت ُ إيرادّه.

و من هنا أنت تؤمن بالحساب و الثواب و العقاب و الخلود في الجنة أو النار، بينما أرى أنا أن هذه المفاهيم هي اسقاطات الرغبة البشرية في فهم الظلم في العالم، و التوق لعدالة غير موجودة، يستعيض عنها بعدالة الآخرة، و التي هي أيضا ً غير عادلة، فأين العدل في خلود السارق في النار لأبدية ٍ طويلة من أجل ِ ذنوب 70 أو 80 أو 100 عام؟ و قس على هذا أخي الكريم.

أهلا ً بك دوما ً.


4 - إلى الأستاذ Naha
نضال الربضي ( 2014 / 4 / 6 - 09:41 )
تحية طيبة أستاذ ناشا،

أنت مرحب بك دوما ً أخي الكريم.

لاحظ المساحة تحت رقم التعليق و التي فيها تاريخ التعليق ووقته، و تحتها مباشرة خانة: التحكم. في هذه الخانة تجد -الحوار المتمدن- و معناها أن المحرر في الحوار المتمدن هو الذي نشر أو حجب التعليق. أما إذا وجدت بجانب التحكم كلمة -الكاتب - ة- فاعلم عندها أن الكاتب هو من نشر أو حجب.

أنا لا أحجب التعليقات، الموقع هو الذي يحجبها عادة ً. يمكن أن أحجب تعليقا ً إذا كان يحتوي شتائم، أو عنصرية، أو يروج لبغض أو كراهية فقط، و لا أحجب أبدا ً لاختلاف الرأي.

الحوار لا يتيح لنا خاصية التحكم بالتعليقات بعد نشرها و هذه نقطة سلبية، فنحن لا نستطيع أن نقوم بفتح البريد الخاص بنا كل دقيقة لمراجعة التعليقات و أعتقد أن على الإخوة و الأخوات في الإدارة تزويدنا بطريقة إدارة للتعليقات تتيح لنا قدر مقبول من التحكم.

تعليقاتك دائما ً موزونة جميلة تُثري الحوار، شكرا ً لك و أهلا ً بك.


5 - تعليق
عبد الله خلف ( 2014 / 4 / 6 - 09:45 )
يؤخذ من الكافر علمه ؛ إن كان ذا علم , بشرط أن لا يأخذ من معتقده .
طبعاً , القرآن ؛ تحدث عن وجود الوعي بعد الموت قبل ظهور البيوسنتريزم بـ1400 عام .

اخر الافلام

.. أهم المحطات في مسيرة حزب الله اللبناني • فرانس 24 / FRANCE 2


.. حالة من الذهول والصدمة في بيروت • فرانس 24 / FRANCE 24




.. بين نعيم قاسم وهاشم صفي الدين.. إليكم من قد يخلف حسن نصرالله


.. عاجل | إطلاق صاروخ من اليمن باتجاه إسرائيل وصفارات الإنذار ت




.. عاجل | مراسلنا نقلا عن مصادر إسرائيلية: غارة على الضاحية است