الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


بيان

كاظم الفياض

2014 / 4 / 6
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني



إلى دولة رئيس الوزراء


( وقد مكروا مكرهم وعند الله مكرهم و إن كان مكرهم لتزول منه الجبال )إبراهيم 46 ــ
[لأن أفكاري ليست أفكاركم ولا طرقكم طرقي يقول الرب]أشعياء8:55


هل يجب أن ننقض نصب الحرية لأنه لم ينجز لتمجيد الحرية في مجالها الواقعي والوحيد وهو الفن ، حيث يمكننا التعبير عن اللحظات الفذة والقليلة بل النادرة التي شعرنا فيها بانسجامنا مع العالم ويفترض أن تكون قيمته وفق ما يوفره لنا من متع نفسية ، ورغم إن هذا التقييم سيبقى فرديا ، ذاتيا محضا ؛ إلا إنّ حقوق الاستفادة منه مباحة للجميع . وأعني هنا من الحرية مادة الفن كاللغة للأدب ، والألوان للرسم ، لا الأفكار لأنها ليست من جنسه . الأفكار منطق والفن مشاعر .
الفن أرض تربتها الحرية، وما دخلت في شيء من حياتنا إلا أفسدته. هي في ما عدا الفن مرض التهم حدودنا الفاصلة بين حقوقنا. هي المسافة بين عين الجائع والثمرة التي لا يملك ثمن شرائها. الحرية هي الأراضي الشاسعة التي احتضنت الحروب والمجاعات الكبرى عبر التأريخ . هي السجون كلها حتى تلك التي شيدتها أكثر الشعوب ثراء . بل هي في قصور ، بل غرف أصحاب الإمبراطوريات المالية الأكبر ، في المسافة الدائمة بين الخدم الذين يرتبون الأسرة والوحوش البشعة التي تنام عليها .
لو كنا نتحدث عن الحق بدلا من الحرية، وقد جعلنا من الحرية حقا، لما كانت هناك مسافة بين جائع وثمرة. و لما كانت حروب ولا مجاعات ولا سجون ولما سوى رجل فراشا ليس له. غياب الحق عن أي شيء فساد فيه ، إلا الفن ، فإنه والحق مثل الثمرة والعفن ؛ ولا يتخلى الفن عن حريته ، أي عن وجوده ، لصالح الموت الذي ملأ أرجاءه بروائح كريهة ؛ وأبدل انسجام أشكاله بصور متنافرة لولا الحرية التي مارسها عليه رجال متنفذون ، إذ عبثوا بخريطة موقعه من المجتمع ، جاعلين منه وسيلة إعلامية لتحقيق أغراضهم ، والتي هي في الغالب أغراض شخصية لا تمت للحق أو للعدل أو للدين بأي صلة .
إن الذين صيروا الدين حرفة لهم ، جعلوا من أنفسهم قدوة للآخرين . وهو أمر فيه كثير من التزمت الذي يتعارض مع ما في طبيعة الفن من حرية وانفتاح . لقد أصبحت القيمة الفنية لأي عمل ، تخضع لمنطق الحق والإيمان وهما مطلبان مختلفان لا يمكنهما الاستناد إلى منطق مشترك . وإن أصبح واقعا فهو منطق بعيد عن الفن ، قريب من المصالح الذاتية والتي هي دائما حلقة الوصل بين الحقائق الإيمانية والموروث الثقافي لأي مجتمع . هكذا نجد سليمان النبي أو الملك كما تصفه التوراة ، والتي ميزته عن شخصيات العهد القديم بالحكمة ، يميل عن عبادة الله ، ويعبد صنما ، إرضاء لزوجة وثنيّة ، حسب الرواية التوراتية طبعا . هذه الحساسية المكتسبة من الموروث التشكيلي الفرعوني ، وهو الفن الديني الوثني بالكامل ؛ لم تكن بذات القدر مع الكهنة المسيحيين الذين بدؤوا نشاطهم التبشيري في الأرض الأوربية من الدولة الرومانية مع شعوب رغم إنها وثنية إلا أن نشاطها الفني لم يكن ليقتصر على تجسيد الأفكار الدينية إنما تعدى ذلك إلى آفاق رحبة من الخيال .
وهكذا نجد إن أوربا التي اعتنقت المسيحية لم تتخل يوما عن إرثها الثقافي . ظلت نظرتها الفنية أوسع من أن تحصرها في دائرة ضيّقة من الأفكار الدينية ، على الرغم من أن المسيحية وريثة طبيعية للكتاب المقدس ذاته ، وقد أسمته العهد القديم تمييزا عن العهد الجديد الذي وجد معها . وقد نجد هذا التعارض بين الموروث الديني المتمثل بالتوراة ، والموروث الفني للأوربيين مجسدا في الحركة اللا أيقونية التي رأت في تجسيد الشخصيات المقدسة في أعمال النحت والرسم خروج عن الدين ، لكن الشعوب الأوربية التي أبت التخلي عن كافة ميراثها الثقافي وجدت في عدد غير قليل من رجال الكنيسة من يوافقهم في توجههم هذا . وهكذا سحقت هذه الحركة المهمة التي أحدثها ، وهذا أمر له دلالته ، الخليفة المسلم يزيد بن عبد الملك بن مروان حين أمر جميع الكنائس الواقعة تحت سلطانه بالتخلي عن الرسوم ، والمنحوتات الدينية لقوله تعالى (يأيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون )1
إن طبيعة شبه الجزيرة العربية الصحراوية ، حيث يسكن أغلب قبائلها في خيام منسوجة من شعر أو وبر أو صوف ولأن الوثنية هي الديانة السائدة في أغلب أرجائها ، حدّ ذلك من ازدهار ، وانتشار الفنون البصرية ، وخصوصا النحت ، إلاّ في مسألة العبادة . وكان من شأن ذلك أن يتوجس العرب كاليهود من قبلهم ، من الفن التشكيلي ، محرّمين مزاولته ، قبل أن يتساهل علماء الشيعة ، الذين أجازوا استخدامه لتجسيد شخوص أئمتهم . ربما لأن أئمتهم عانوا ما عاناه المسيح ــ حسب الاعتقاد المسيحي السائد ـــ وربما نكاية بعدوهم الخليفة الأموي ،وربما لأمور أخرى . لكن ما غيب ، هو حقيقة الموقف الديني من جميع الفنون وليس الفن التشكيلي حصرا ، وهو موقف يبيح التمتع والاستفادة منها وهذا ما نجده في قوله تعالى (يعملون له ما يشاء من محاريب وتماثيل وجفان كالجواب وقدور راسيات اعملوا آل داود شكرا وقليل من عبادي الشكور)2ــ هذا إضافة لما نجده في القرآن الحكيم من فنون أدبية سردية ، وفنون نغمية( ... ورتل القرآن ترتيلا)3ــ وفنون بصرية تمثل في جمال خط حروفه ، ولا يخفى ما فيه من طاقات بلاغية جعلت من بلغاء العرب يتهمون الرسول الكريم (ص) أنه شاعر .
إن ما حرّمه الدين هو أن ننقل بواسطة الفن حالة الامتنان التي نشعر بها إزاء بعض الشخصيات الدينية إلى حجر أو نسيج أو ورق أو أي شيء يسمح لنا بتجسيدهم عليه الأمر الذي يجعلنا مع مرور الوقت نشعر بأكثر من عاطفة الامتنان إزاء المواد التي أسبغنا عليها أفكارنا عنهم ، والصور التي رسمناها في أذهاننا لأشكالهم ، سنظهر عواطفنا العميقة ، الجياشة للمادة التي مثلناهم عليها ، وسنحتفي بها كأنها هم وأظن إن هذا هو المعنى القرآني لمفردة الأنصاب . ويمكن أن تكون الصورة أوضح في ذهن القارئ حين يفكر في موقف المؤمن المسيحي أو الشيعي حيال شخص تصرّف تصرّفا خاليا من الاحترام مع أيقونة مسيحية أو صورة مطبوعة أو منحوتة لأحد أئمة الشيعة .
إن الحرية التي تصرف بها رجال الدين مع الفن ، هو تصرف سيء بحياة الناس ذلك إن الفن هو الجمال الذي نسمعه ، نراه ، نحسه ، هو سعادتنا ، إننا ذوات مدركة، وهذا يعني ببساطة أن لا وجود لنا بمعزل عما ندركه. وهو يعني أيضا أنه بمقدار ما تكون مدركاتنا جميلة ، يكون حجم سعادتنا .
لا يتعلق الأمر بمقدار ما أقصي من حياتنا من جمال، ولكن بمقدار ما حشيت من آلام أيضا، و لنتحدث عن فكرة الصلب لدى المسيحيين مثلا، فمع ما يفترض أن تبثه نظرية الفداء من أمل لدى المؤمنين بها، تبقى حادثة مأساوية، مخزونة في الذاكرة الجمعية، لها تأثير تجربة شخصية، في سلوك كل فرد مسيحي. نحن لا نتحدث عن جريمة قتل بها رجل صالح، بل عن منقذ للبشرية، دفع ثمن جرائم وخطايا كل فرد، توهين شأن، تعذيبا ببطء، ببشاعة، علنا أمام الناس حتى الموت. علينا أن نتخيل حجم الامتنان الذي نحسه نحوه ؛ كي نعرف مقدار الألم الذي عانيناه من أجله . و لنحصي زمنا الفترات التي التهمتها هذه المأساة من حياة المؤمنين بها كأفراد عبر ألفي عام !! ! وما كربلاء ببعيد !!!
***
إن الحرية التي مورست ضد الفن ، وضد حياتنا ، بحجب نوافذ لا حصر لها ، كان من المفترض أن تطل بنا على الجمال . وبفتح منافذ واسعة ، وليست قليلة للألم ، مورست كذلك ضد فكرة الله التي هي جوهر الدين . وإذا كانت رياح الحرية التي هبت على الفن ، دون أن تنبعث من خلاله ، كانت لها آثار كارثية على النفس ، فأن آثارها على الأفكار ، ذات حضور اجتماعي . يجب أن نسلّم بأن كل مجتمع هو عبارة عن عدد من الأفراد ، تربطهم أفكار . ولمّا كانت كل فكرة نتيجة لواقعة تحولت إلى معلومة ، وجب علينا أن نحسن النظر في الوقائع والمعلومات التي كونت الأفكار . لأن الوقائع إن لم تكن حدثت ، أو حدثت بخلاف المعلومات ، كانت الأفكار الناتجة عنها غير دقيقة . وهذا يعني أن ما يجمع المجتمع رابط غير صحيح . وعكس الصحيح السقيم . وعليه فإن كل فكرة غير صحيحة هي مرض في بدن المجتمع يجب علاجه .
ولما كانت الواقعة الأكبر في تأريخ كل الشعوب هي الدين جاز لنا أن نقرر، أن ما من فرد إلا وارتبط مع غيره بأفكار ، صنعتها الواقعة الأكبر ؛ أو صنعناها نحن باسم الواقعة الأكبر . لو سلكنا هذا الطريق بدراسة المجتمع لتوصلنا إلى معلومات سيكون لها تأثيرها ، ليس على النظام الاجتماعي فقط ، وإنما على مجمل العلاقات الرابطة بين أفراده . لا يمكنني أن أخوض في هذا الموضوع الآن على الأقل ، لكن لو طبّقنا ما جاء في هذه السطور على العلاقات الأسرية لوجدنا إلى جانب الروابط الفكرية ، روابط بيولوجية . وهي من المتانة بحيث شكلت الركيزة الأساسية التي قامت عليها الحياة البرية . فنظام عملية التكاثر ، وحماية الصغار ، والتكافل بين أعضاء الأسرة الواحدة ؛ يكاد أن يكون عاما في جميع العوائل الحيوانية ،وكلمة عوائل هنا موصولة بكلمة يعيل . وعلى الرغم من أن العائلة البشرية تختلف عن غيرها من العوائل ، بما تمتلكه من روابط فكرية ، جعلت العلاقات الأسرية أمتن بين أفرادها ، وقد عزز بنظام الإرث المعمول به في كل المجتمعات . لكننا قد نجد أشد النزاعات داخل العائلة ، والتي تؤدي إلى القتل أحيانا ، ولنتأمل ما حدث بين ابني آدم ، وهي العائلة الأقرب للحدث الديني .
يدلنا هذا على إن الرابط البيولوجي المحكم ، وأمتن الروابط الفكرية النبيلة التي تجمعنا مع أسرنا ، قد تقطعها فكرة سيئة واحدة . إن وجود الأب والأم والأخ والزوجة والابن هو وجود حقيقي ، يعلله منطق السببية ، لكنه يتمظهر بالفكرة . هؤلاء الأشخاص كيانات ليس لها وجود في حياتي لولا فكرة الأبوة ، والأمومة ، والأخوة ، والزواج ، والبنوة . ومع الانجاز العلمي الذي أوجد أطفال الأنابيب فان دور الفكرة كرابط اجتماعي سيتعاظم على حساب الرابط البيولوجي ، مما يمنحنا الحرية في قبول فكرة الأسرة كمؤسسة اجتماعية أو رفضها .
ولما كان للرابط البيولوجي تأثير أقلّ كلما خرج من حدود الأسرة الصغيرة ليتوغل في شبكة الأسر المنسوبة لجد واحد ، حتى يتلاشى تماما في شجرة الأنساب القبلية للشعب ، وجدنا أن الرابط الفكري ينمو باتجاه معاكس ، حتى يبلغ ذروته مع فكرة الإنسانية المعبرة عن مليارات من الأفراد ، الموجودين فعلا بصفة إنسان لكل منهم .
ولما كانت الأحداث البشرية جميعها ، من حادثة أن يغسل أحدنا وجهه ، إلى أبشع المعارك التي أودت بحياة الملايين من البشر ، ما كانت لتحدث إلا بقرار فردي علمنا نوع الخطر الذي تحمله الفكرة على حياتنا . إن جوهر وجودنا محصن بالفكر وقد لا يتحول إلى عدم إلا به . هنا تكمن خطورة الاستسلام لأفكارنا ، فكل قرار اتخذناه ، كان حصيلة أفكار استحسناها دون سواها . هذا الاستحسان هو الحرية وهنا تكمن أهمية القوانين الجزائية لحفظ وجودنا من أن تهدمه بعض أفكارنا .
لقد أثبت التأريخ الاجتماعي في كل مكان من المعمورة ، أن تعطيل القوانين الجزائية ، لأي سبب ، سيصاحبه خلخلة عنيفة للروابط الاجتماعية . سيعم الهرج والمرج ، وهذا تعبير لا يخلو ، كما هو واضح ، من موروث ديني ، يدل على سعار يسري في مخيلة أفراد المجتمع ، يدفعهم لانتهاك حرمة دمائهم ، وأموالهم ، وأعراضهم بسرعة وعلى نطاق واسع ، حيث تقود الهستيريا أفعال شريحة واسعة من الأفراد فتمنعهم من الانضباط والتعقل .
وإذا كانت هذه الحالة المخزية قد وقعت في ماضي وحاضر جميع الدول ، حتى الثرية والراقية منها . وقد دلت على أهمية القوانين الجزائية المعمول بها ، حين حافظت على شكل النظام . فإنها دلت أيضا ، على أن القوانين الجزائية ، وقت سريانها ، لم تكن في اتجاهها الصحيح . وإلا لما كان لهذا التخريب الهائل أن يحدث مع أي تعطيل ، مفاجئ لها . إن تعطيل القوانين لا يعني إلا شيئا واحدا ، هو أن يمارس المجتمع من خلال أفراده ، أسلوب معيشته ، وفق تصوراتهم للحق والعدل ، وهي كثيرة ومتعارضة . وهذا ما كان له أن يحدث لولا وجود غبن حقيقي ، مورس بقوة القانون ضد شريحة واسعة من المجتمع .
وإذا أردنا أن نعرف سبب هذا الغبن وجب علينا النظر في الكيفية التي صيغت بها قوانين المجتمع ، جزائية وغير جزائية ، لمعرفة الخلل الذي أنتجه . وهي كيفية جاءت لتمثل المثل والمبادئ السامية ، التي تصالح على شرف منبتها جميع أفراد المجتمع . ولكي تكون كذلك يجب أن تصدر عن جهة أشرف وأسمى من المجتمع ذاته ، وهكذا نجد أنفسنا قبالة فكرة الله . وأن كانت هذه هي الفكرة السائدة في جميع المجتمعات . إلا أن فكرة المصالح العليا للدولة والتي تبدو كأنها انبثقت من احتياجات شعبية لابد منها لرفاهية المجتمع ، كانت تحاول التناغم مع فكرة الله . ومهما يكن فإن اعتماد الفكرة تشريعا لابد له من أفراد معينين يجعلون العمل بها أمرا واجبا على جميع أفراد المجتمع ، ولابد أيضا أن يكون سبب تعيينهم بسبب مؤهلاتهم العلمية القادرة على استنباط الأحكام بحسب المعتقدات الدينية السائدة ، وكذلك الضرورات الاقتصادية التي تبدو وكأن البيئة أفرزتها .
ولأن النظام التعليمي الغربي المهيمن على العالم منذ قرون ، هو نظام غير حكومي ، فأن واضعي الدساتير الغربية إما أن يكونوا خريجي جامعات دينية ، فتكون توجهاتهم دينية . وأما أنهم من خريجي جامعات أهلية ، والمؤسسات التعليمية الغربية مؤسسات اقتصادية أولا . هكذا نرى إن القوانين لم تسن إلا لتعبر عن مصالح
هاتين الفئتين : رجال الدين ، ورجال الأعمال ، دون بقية الناس الفقراء ، المغبونين .

لقد خلق الله آدم وعرفه معنى العبودية وعلمه الأسماء كلها ، متفوقا على الملائكة . وبهذا تمّ أمره كاملا في جنة الله ، أي في حضرته ومع ذلك عصى آدم ربه و السؤال هنا لا يصاغ بجملة [لماذا عصى آدم ربه ؟] لأنه سؤال يبحث عن سبب فتح بابه اضطرار لحاجة ! ولم يكن آدم محتاجا ، فهو ليس مضطرا . إذن لا يوجد أي سبب لعصيانه . لذا يجب أن يأتي السؤال بصيغة [ كيف أو بم عصى آدم ربه ؟ ] أي هل يملك القدرة على العصيان ؟ والجواب سيكون سهلا إذا تأملنا في ذواتنا ، نعم آدم وكذلك نحن نملك القدرة على عصيان الله ، لوجود الوعي في ذواتنا . فكل ما ندركه سواء بالحس أو بالعقل سيبقى أقل أهمية من ذواتنا التي تعيه .
هذه الأهمية هي الكبرياء التي لابد إن أيا منا قد زها بها . وهي الوضع الطبيعي لما أنتجته الخلقة البشرية ، وإن عدم شعورنا الدائم بها ؛ بل الإحساس أحيانا بالضعة إنما ينتج عن صدمتنا الدائمة بوهن الكيان الحامل لها . وعي جبار وجسد مقهور . جسد لا يقوم إلا بغيره من مأكل ومشرب . ومنقاد لسواه بفعل الغريزة التي تحفظ النوع . وهش يسهل قهره وإعدامه بالموت . ولم يكن إحساسنا بالجبروت مساويا لإحساسنا بالوهن كي نشعر بالسلام ، وهو أمر مشدود جسديا للطمأنينة التي من الواجب توفرها إلى جانب حاجاتنا الجسمانية ، وذهنيا بالاستسلام لمنطق السببية وهو منطق غالبا ما يقودنا إلى التصالح مع علة الإيجاد الكوني وإن مجالها الدين وفيها تقتنع الذات بوهم أهميتها المطلقة ، وأنها لا تملك فعلا غير الخيال . والذي من خلاله تستطيع أن تجد تصورات أفضل لما يجب أن تكون عليه حياتنا . هنا تكمن أهمية الفن بوصفه تعبيرا جميلا لحالة الانسجام التي ننشدها في التركيبة القلقة للكيان الآدمي . وعلينا أن نتصور شدة الخطورة في المواقف المستهترة لعلماء الدين في التعامل معه رفضا أو توجها مخالفا لوجهته الصحيحة .
إذاً المنطق السببي الذي قادنا إلى ضرورة موجد للكون ، والوهن الجسدي الذي قاد الذات للتفكر بواقعية خارج كهف الأهمية المطلقة للوجود الفردي الإنساني ، دفعانا للاستعاضة عن الشعور الطبيعي بالعظمة ، والكبرياء ، إلى الخضوع الديني وذروة كماله العبودية ( ...نعم العبد إنه أواب )4ــ .
وهكذا نظن أن فكرة وجود الله قد سحقت تماما الاستعلاء المطلق للذات ، كما أن الوهن الجسدي أقنع الإنسان بتبعيته الذليلة لما يحيط به وعليه فما من طريق أمامه لتحقيق السلام في نفسه ومع محيطه إلا طريق الإقرار بعبوديته لله وهذا هو معنى الدين . ولكن هل أن تأريخنا الاجتماعي كجنس وقد صادق على وجود هذه الفكرة بدليل وجود الدين في عموم التجمعات البشرية ، قاطبة ، ودون استثناء ، يصادق أيضا على نتيجتها الحتمية بوصول الإنسان إلى مرحلة السلام الفكري ؟ وقولنا لا ليس جوابا بمقدار ما هو واقع معاش فعلا ، ذلك إن الله الذي عرفه آدم بداهة وهو في الجنة محجوب عنا بستار الطمأنينة . (قل لو كان في الأرض ملائكة يمشون مطمئنين لنزلنا عليهم من السماء ملكا رسولا )5ــ . تصف هذه الآية ما أعنيه بقولي ستار الطمأنينة كما إن استحالة حصول أيّ منا على جميع حاجاته ، لم تزدنا بعدا عن الله فقط ، إنما غربة موحشة عانينا منها كأفراد داخل مجتمعاتنا بل وعوائلنا .
ستار الطمأنينة والغربة الاجتماعية جعلانا نلتمس لنا آلهة نراها بأعيننا كي نتضرع لها بكل خشوع . طالبين منها إخراجنا مما نحن فيه من وهن وخوف وعوز لا يكاد ينتهي.
وإن كان سهلا علينا إيجاد تطبيقات لهذه الفكرة في الأديان غير السماوية . فإن الواقع يؤكد كذلك صحة هذه التطبيقات داخل الأديان السماوية أيضا .وإذا كانت نظرة المؤمنين إلى حلية الفن قد تأثرت بتأريخ شعوبهم الفني رفضا وقبولا ، فإنها ليست كذلك مع فكرة الوثن المعبود . لذلك أوضح الإسلام حقيقة التفريق بين يهودية ونصرانية موحدة ، ويهود ونصارى مشركين .
والملاحظ أن كلتا الديانتين ظهرتا في مجتمع واحد ، هو المجتمع اليهودي . وإن كان التوقيت تعاقبي ، إلا أنهما متشابهتان في خضوع الإسرائيليين لأقوام أخرى للفراعنة في زمن موسى ، وللرومان في زمن عيسى .
والملاحظ أيضا إن كلا الحضارتين الفرعونية ، والرومانية كانتا في أوج عظمتهما عند انتشار الديانتين فيهما مسببتين انهيارا كارثيا لهما سواء في حال الرفض الحازم كما هو الحال عند الفراعنة أو القبول الحذر كما هو عند الرومان والملاحظ أيضا ، إن رفض المصريين لليهودية ، كان أيسر شرا من دخول الرومان في المسيحية ، لأن مصيبة المصريين كانت آنية وقد زال أثرها سريعا بخلاف الرومان الذين عانوا الأمرين قبل زوال ملكهم تماما .
وإذا كان عقاب الفراعنة إلهيا ، فإن هزيمة الإسرائيليين بعد انتصارهم على الفلسطينيين ، واستيطانهم في أرضهم ، وكذلك روما المتنصرة جاءت من الداخل من عمق المجتمعين الإسرائيلي والروماني اللذين انهارا أخلاقيا واقتصاديا قبل الانهيار العسكري الشامل .
ما حدث مع المجتمعين اليهودي والنصراني ، وما سيحدث لاحقا مع المجتمع المسلم كما تنبأ الرسول (ص) [لتتبعن سبل الذين من قبلكم حتى إذا دخلوا جحر ضب دخلتم فيه ] يمكن أن نجد سببه في رفض الجميع للأمرين الإلهيين الواردين في قوله سبحانه (ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت )6ــ توضح الآية الكريمة إن الرسل حملوا لأقوامهم أمرين ، أولاهما عبادة الله ، وثانيهما اجتناب الطاغوت . لا أمرا واحدا ، كما فهمه أتباعهم ومنهم المسلمون الذين فسروا معنى اجتناب الطاغوت بأنه النهي عن عبادة غير الله وبذلك جعلوا من الأمرين أمرا واحدا إذ أن عبادة الله تعني عدم عبادة غيره . لكن معنى كلمة طغى ، هو تجاوز الحد ، فالطاغوت إذا كلمة تدل على الإصرار ، بل والتمكن الشديد من التجاوز تحدث بين الحدود المميزة للأفراد . ذلك أن كل فرد هو كيان مستقل عن سواه . كيان يشعر بأهمية ذاتية مطلقة وهو أيضا يحتاج سواه احتياجا مخلا بوجوده . وعليه فأن أي خلل يصيب منظومة حاجاتنا الفردية سيعرض كياننا كأفراد للتلف ، وأشده الموت ؛ أما القليل منه فيشعرنا بالعذاب الناتج عن الشك في أهمية وجودنا المطلقة لأننا نكون قد تصرفنا بتابعية مذلة ، لكيان فردي آخر الذي بدوره ستشعره تابعيتنا له ليس بأهميته المطلقة حسب ، وإنما بأهمية أن ينسى أن لتابعيه ذوات جبلت على الشعور بالأهمية القصوى لوجودها الكوني . إذا الأمر الإلهي (اجتنبوا الطاغوت )هو دعوة لإقامة العدل الاجتماعي ، وهي دعوة مختلفة تماما عن الدعوة إلى عبادة الله العقائدية المراد منها في الأمر الأول ، الخاص بمجمل المنظومة اللاهوتية والتي تنشطر بدورها إلى جانب عملي يخص الطقوس والشعائر التي تمارس أفرادا وجماعات وآخر نظري يبحث في فكرة الله ويبدو أنه أكثر الشطرين تضررا لأن الجانب العملي ظل بمتناول الجميع ، عكسه تماما ، إذ تحول إلى فلسفة شديدة التعقيد حيث أقصي الجهلة وهم الغالبية العظمى من المؤمنين ، وأبرز خصائصهم الفقر . و ربما كان قذف القرآن لليهود و النصارى بالشرك ، للتأثير الهائل الذي مارسته الفلسفة الإغريقية ــ الوثنية ــ فيهم .
إن البحث في الطبيعة لابد أن يقود الباحث إلى أصلها عبر سلسلة من العلل والمعلولات والتي ستنتهي بعلة غير معلولة ، أو محرك لا يتحرك . هذا ما وصل إليه فلاسفة الإغريق ، وهو ما رحب به رجال الدين ، لأنه تعزيز لقناعتهم بعدم تعارض العلم الطبيعي مع الوحي ، غافلين عن معنى جعل الله جزءا من العالم . ورغم كل محاولاتهم في تفضيل الله ، بقصد عزله وجعله متعاليا عن العالم ، ومنها فكرة القديم والمحدث إلا أن مسألة صدور الكثرة عن الواحد ظلت محبطة لعملهم رغم تصرفهم الدال على أنهم تجاوزوا هذه المشكلة التي قادت بدورها التفكير في مادة الله ،مقررين أنها بسيطة ، لا يجوز فيها التركيب لأنه حدث يختلف مع طبيعة القدم التي ميزوه بها .
إن النظر في ذات الله سبحانه يعني تأمل صفاته وهو أمر لابد منه لفهم كيفية خلقه العالم وإدارته له .هل صفات الله قديمة أم محدثة ؟ جزء منه أم طارئة عليه؟ هكذا كان الفكر اللاهوتي يقف مرارا وتكرارا أمام معضلة هذه المعادلة الميتافيزيقية
ـــ قدم الصفات يساوي تعدد الآلهة ـــ ورغم أنه لم يجد لها حلا أو بالأحرى وجد حلولا بعدد الباحثين فيها إلا أنه استطاع أن يقدم صورة كاملة ـ رغم أنها ليست واحدة ولا واضحة ــ لأذهان أتباعه عن الله ، لا تبعده كثيرا عن المعبودات الصنمية إلا في الاسم ودرجة التجسيد حيث تحولت من بصرية إلى ذهنية ، أي من صنمية إلى وثنية وفي معجم لسان العرب : ــ الصنم هو ما كان له جسم أو صورة فإن لم يكن له جسم أو صورة فهو وثن .
هل كنت أتحدث عن فلاسفة لاهوتيين يهود ونصارى أم عن فلاسفة ومتكلمين مسلمين ؟ لم تمض سوى سنوات قليلة على موت الرسول (ص) حتى دخل المسلمون جحر أسلافهم اللاهوتيين . وسموا بحثهم في الذات الإلهية بعلم التوحيد ، واعتبروا أنفسهم أهل التوحيد ، تمييزا ، عن أهل الشرك من اليهود والنصارى . وجعلوا للدين أصولا خمسة لكن الأصل الأول فيها ، بل رأس الأصول وجامعها هو التوحيد ، وبلغوا الذروة بتسمية أنفسهم الموحدين . وتجدر الإشارة هنا إلى إنه: لا الله،سبحانه، في قرآنه ولا الرسول في حديثه سمّوا أو وصفوا المسلمين بالموحدين ذلك إن الله جلت قدرته أقام الإسلام على أصل واحد ، هو العبودية . وأفضل الأسماء ــ الصفات التي أطلقها الله على المؤمنين هي كلمة عباد مضافة إلى أسمائه المباركة . كما إن الله جلّ وعلا جعل من العبودية أفضل صفة للمؤمن ( نعم العبد إنه أواب )7ــ وقد جعل من فعل العبادة اسما للمؤمنين وأضافهم إلى تواصل الرحمة منه (وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما ) 8ــ .
لقد أمر الله نبيه وإيانا أن (قل هو الله أحد * الله الصمد * لم يلد * ولم يولد *ولم يكن له كفؤا أ حد)9ــ وواضحة دلالة فعل الأمر ـ قل ـ على ما ورائها من إخبار ، وهي صيغة دلت على ضرورة الأخذ بها ، على إنها أخبار يقينية ، مقطوع ، سلفا ، بصحتها . وفي لغة أهل المنطق هي قضايا بديهية لا تحتاج برهانا لإثبات صدقها أو كذبها ، لأنها صادرة عن الذات الإلهية ؛ للمؤمنين بها ، حسب المنطق الديني .
وقد نهى الله نبيه عن البحث في ماهية الروح وهي أقل شأنا من الله (ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا )10ــ وقد نهى عن الجدل في الله بمنتهى الوضوح والصرامة (ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ويتبع كل شيطان مريد)11ــ (ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير* ثاني عطفه ليضل عن سبيل الله ...)12ــ .
ربما يبدر إلى أذهاننا هذا السؤال : إذا كيف نعبد الله ؟ والجواب قلته ، لقد بعث الله الأنبياء ليخبرونا على وجه اليقين بوحدانيته ، وصمديته وكافة صفاته التي هي أسماؤه جل وعلا .نحن معشر البشر وكافة الموجودات في العالم مكونين من ذات العناصر وما اختلافنا إلا اختلاف نسبها فينا . أما الله فهو (ليس كمثله شيء )13ــ وهذا من الناحية التكوينية يعني استحالة تواصلنا مع موجود لا يتكون من العناصر التي تكوننا ، وأقصد بضمير المتكلمين ـ نا ـ جميع الموجودات المترابطة مع بعضها بعلاقات متشابكة مكونة نسيجا واسعا ، وكبيرا، بل هائلا ، وأبعد من أي مقياس نملكه سميناه العالم ، والكون ، والوجود وهو على كبره هذا نعرفه ، كل علاقة معرفة ، حتى وإن كانت بين ذرتين ( قال ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى )14ــ والهدى علاقة بين خلقتين أو أكثر فهي معرفة . إذا عندما لا توجد عناصر مشتركة مع الله لا توجد علائق أيضا وبانتفاء العلائق تنتفي المعرفة ؛ وأقصد بالعلائق هنا التصاعدية من العبد إلى ربه وليس العكس لأن الرب يعرف ( ...إنه بكل شيء عليم )15ــ . وهنا أحب أن أضيف إن استحالة معرفتنا لذات الله لا تعني جهلنا بمكانه من العالم الذي خلقه لأن الخلق يدل على خالقه الذي شهد عليه . (سنريهم آياتنا في الأفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق أو لم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد )16
ولكن لم يتعب المفكرون أنفسهم إن كانت المسألة محلولة أصلا في القرآن ؟ جواب هذا السؤال موجود في القرآن أيضا على لسان الرسول الكريم (إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا )17 ــ وربما لتحقيق مكاسب سيجنونها بإتباعهم (كل شيطان مريد) وربما هو العناد والكبرياء (ثاني عطفه ليضل عن سبيل الله) ومهما يكن فإن الجانب النظري من الأمر الإلهي الأول(أن اعبدوا الله) صار حكرا على المتعلمين وهم أو الغالبية العظمى منهم من الأغنياء أو من المعتاشين على الدين ـ فقهاء ـ أخشى القول إن الأمر أشبه بسرقة الله من الفقراء ، كما سرقوا مالهم بقوانين الحرية الاقتصادية المنهي عنها بالأمر الإلهي الثاني (واجتنبوا الطاغوت )
***
إن اجتناب الطاغوت لا يتحقق إلا أن نجعل الغاية النهائية من تشريع القوانين هي المحافظة على حق كل فرد في أن يتمتع بما وهبنا الله من النعم . يجب تعطيل القوانين التي جعلت من جرائم النهب التي مارستها قلة من الناس بحق عمومهم حقا شرعيا . ولهذه الغاية سبيلان هما : القضاء على الرهبنة . وحصر اكتساب حق ملكية
الأرض وما فيها وما عليها بالاستعمال لا بالمال .
وقبل أن أضيء عمق الانحراف عما جاء به الإسلام أذكر بحجم التعارض بين الروايتين القرآنية والتوراتية لقصة قارون فحين تؤكد الرواية التوراتية إن الكهنوت تكليف إلهي محصور بهارون وأولاده وإن قورح ــ قارون ــ وجماعة من بني لاوي صاروا يطمعون في الكهنوت [حتى صرتم تطمعون في الكهنوت]18ــ وبذلك فإن الخسف الذي حل بهم كان[عبرة لبني إسرائيل لكي لا يدنو أحد من غير نسل هارون ليبخر في حضرة الرب ، فيصيبه ما أصاب قورح وجماعته]19ــ نرى أن الرواية القرآنية تتحدث عن إن بغي قارون متأت من إصراره على الاحتفاظ بأمواله الضخمة ، المشروعة عرفا (وآتيناه من الكنوز ما أن مفاتحه لتنوء بالعصبة أولي القوة ..)20ــ متوهما أن قدرته على جمعها بسبب علم عنده تجعلها مشروعة حقا (قال إنما أوتيته على علم عندي )21ــ هكذا نرى أن الرواية التوراتية تجعل الكهنوت حصرا في نسل هارون ، مع إعطاء بعض الواجبات الدينية لباقي سبط لاوي دون بقية الأسباط وفي هذا ما لا يخفى من امتيازات اجتماعية مرموقة ، إضافة إلى مكاسب اقتصادية ، هائلة ، تجعل منهم شركاء في مال أيّ مؤمن يهودي من بقية الأسباط ، لهذا يجب أن تكون الحرية مطلقة في جمع المال واكتنازه ، أي يجب أن تشرع في قوانين تكون ملزمة لجميع أفراد الشعب . كما يجب أن تكون هي ذاتها إرادة الله . وفي هذا ما يكفي من الوضوح إن القرآن أراد أن يبين أن كتبة النص التوراتي جعلوا من مصالحهم الدنيوية هدفا للممارسة الدينية قالبين الأوامر الإلهية بعدم اتخاذ الكهنوت مهنة ، وضرورة تقييد جمع المال .
لقد نهى الرسول (ص) عن الرهبانية في حديث [لا رهبانية في الإسلام ]ومعنى هذا إن المجتمع الإسلامي لا يقر اعتبار الدين مهنة لكسب المعاش ، ذلك إن الرهبانية هي تفرغ للعبادة ، أي إنها ستوفر لنا ثمن مقومات حياتنا المعيشية (يا أيها الذين آمنوا إن كثيرا من الأحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل)22ــ وقد ألحق (ص)الدين بالممارسة الإدارية للمجتمع . فكان يختار قادته وعماله على أساس الكفاءة لا الإيمان . هكذا وجدنا كثيرا من القادة حديثي الإسلام يؤمون جنودهم في الصلاة ، وفيهم من هو أسبق إسلاما منهم .كما أن القرآن ،في كثير من الآيات ، ألحق إيتاء الزكاة بإقامة الصلاة . ومن قبل بشرت التوراة بمنقذ للبشرية يحكم في قادم الأيام [يكون نفسه ملكا وكاهنا في آن واحد]23 ــ هذا ما فعله الرسول(ص) ثم الخلفاء من بعده إلى حين، حيث كان(ص) زعيما ، وكانت زعامته غير ملزمة لأتباعه إداريا إذ كان قاضيا أكثر منه ملكا ، فما كان يقيم الأحكام الجزائية إلا بمساندة الرؤساء القبليين عكس الخلفاء بعده إذ حولوا الزعامة المعنوية النبوية التي كانت للرسول(ص) إلى زعامة إدارية ملكية وبذلك استعاضوا عنهم بجهاز تنفيذي خاضع تماما لسلطة الملك الذي أطلق على نفسه لقب خليفة رسول الله حرصا على إبقاء الدين ضمن الجهاز الوظيفي لعمل الدولة وبذلك جنا عدة مكاسب منها : أولا ـ حفظ سنة نبوية . ثانيا ـ الدين عقيدة ، والعقيدة سياسة إعلامية ، إن لم تنتفع منها الدولة ، انتفع خصومها . ثالثا ـ لا أخطر على المجتمع من أن يكون الدين تحت تصرف الشعب ، بعيدا عن سلطة الدولة ، وفي المصطلح القانوني المعاصر ،لا أخطر من الدين إذا صنف اجتماعيا على إنه منظمة من منظمات المجتمع المدني . لكن الخطأ الإستراتيجي الذي وقع فيه الخلفاء هو في إصرارهم على إنهم اكتسبوا شرعية الملك لصلتهم برسول الله ،فهم كهنة ملوكا ، ولا أسوأ ولا أظلم من هكذا نظام لشعب ، وهو النقيض الكامل لنظام الملك الكاهن ، حيث بشرت التوراة ، وأمر الرسول الكريم .
هكذا نجد ، ربما ، الجواب الأكبر الذي يفسر لنا عمدة الأسئلة : لماذا لم يمضي الرسول كثيرا من الأحكام التي أمر بها ، والتي سنمر لاحقا على الكثير منها إن شاء الله . إذا ، فالزعامة السياسية كانت هي ذاتها زعامة دينية ، وهذا ما يجب أن تكون عليه في الدولة العصرية . يجب أن يكون الزعيم السياسي ، وهو من يجمع في يده قوتي المال والسلاح ،أميرا للمؤمنين وإماما لهم كذلك . يجب أن يكون له مسجده الذي يقيم فيه الصلاة هو بنفسه أو أحد موظفي الدولة بأمر منه . ونزولا يستمر نظام ارتباط الإمامة بالموقع الوظيفي ، فيكون للمحافظ مسجدا وكذلك مدير القضاء ، ومدير الناحية نزولا إلى مختار المحلة ، بوصفه نقطة التقاء الدولة بالمواطن . وإن كنت أرى ضرورة أن يتخلص التقسيم الإداري في العراق من المحافظة والقضاء حدا من خطورة أن تنشأ نخبة إدارية بديلة للنخبة الدينية والمالية في حال زوالها والتي إن لم تكن بذات الشر فلن تكون قليلة الشر . وعودة لموضوعنا ، سيكون من واجب الأئمة ــ مديري النواحي و مختاري المحلات أو القرى الدعاء لولي الأمر بالصلاح ولرعيته بالطاعة . وقد ورد عن أحد أئمة الشيعة ـ المعصومين ـ قوله : [... ولا يتقدمن أحدكم الرجل في منزله ولا صاحب السلطان في سلطانه ]24 ــ لا يخفى أن من شأن ذلك تمتين أواصر المحبة والثقة بين الحكومة والمجتمع ، وتحرير المعلومة الدينية من احتكار رجال الدين لها ، بل ودمجهم في المجتمع كأفراد منتجين بدلا من أن يكونوا عاطلين كما هم لا عمل لهم سوى إقامة الصلاة في مساجد لا تفتح إلا في أوقاتها , في عزلة تامة عن المجتمع ، وكم بالإمكان جعلها متنفسا ، شعبيا لأفراد المحلة ، إذ ستكون مقرا للمختار أو العضو في المجلس البلدي يختلف إليه الناس طوال اليوم . أما السبيل الثاني الواجب اتخاذه من أجل اجتناب الطاغوت والذي يخص شروط الملكية ، والتي سعى جميع الأنبياء إلى خاتمهم (ص) في إبلاغها للناس وبيانها من أجل تحقيق العدل ألاجتماعي فإن الإسلام أشاع الأرض لجميع الناس ، وقرن ملكيتها بإحيائها وروي عن رسول الله أنه قال [ من أحيا أرضا ميتا فهي له ] ولم يتوقف الأمر عند الأرض الموات بل شمل الأرض الحية المملوكة فعلا وقد جاء في باب كراء الأرض من صحيح مسلم [ من كانت له أرض فليزرعها ، فإن لم يستطع أن يزرعها وعجز عنها فليمنحها أخاه المسلم ولا يؤجرها ] وفي حديث آخر ولا تبيعونها . هكذا نرى إن الإسلام شرع ملكية الأرض باستعمارها المباشر من قبل زارعها حصرا ، فإذا لم يباشرها انتقلت ملكيتها لمن يزرعها . لا بيع ولا كراء ولا استثمار ولا ملاك أراض يتنعمون بثروات صنعها كدح المزارعين الفقراء في شرع محمد وإخوته الأنبياء (ع) ولنقرأ بشارة التوراة [ لن أعطي حنطتك من بعد طعاما لأعدائك ...* بل يأكلها الذين تكبدوا مشقة زرعها ويحمدون الله]25 ــ ولنقرأ أيضا [يغرس الناس كرومهم ويأكلون ثمارها ويبنون بيوتهم ويقيمون فيها * لا يبنون ليأتي آخر يسكن فيها ولا يغرسون كرما ليجنيها آخر ] 26 ــ كما إن الدولة ليست مالكا للأرض ( يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق )27ــ وإن سلطتها على مواطنيها تنحصر في فض المنازعات و حفظ حقوقهم من أن يطغي بعضهم على بعض .
لم تكن غاية الرسول من الحرب هي نشر الإسلام تحت شعار [لا إله إلا الله . محمد رسول الله] كما هو شائع ، ذلك إن المبدأ الاجتماعي في الإسلام هو( فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر)28ــ وكانت قاعدة التفاضل بين المسلمين وغيرهم من أهل الكتاب (إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئون والنصارى من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون )29ــ وهكذا نجد إن شرط الشعار الأول[ لا إله إلا الله ]قد فندته الآية الكريمة (ومن شاء فليكفر) ـ كما أن الشرط الثاني [محمد رسول الله ] قد فندته المساواة الكاملة في الآية الثانية بين المسلمين وغيرهم من الكتابيين .
كانت الغاية من حروب الرسول(ص) إما المعاملة بالمثل كمعركة بدر إذ أراد عليه السلام الاستيلاء على قافلة لقريش لاستيلائها على أموال المسلمين في مكة بعد طردهم منها ، أو دفاعية كموقعتي أحد والأحزاب ، أو انتقامية نتج عنها بسط نفوذه كما حدث مع يهود المدينة ، وخيبر ، وأهل الطائف ، وفي فتحه مكة . ثم اعتنقت القبائل الوثنية في شبه الجزيرة العربية ، كافة ، الإسلام بعد ذلك . لم يقاتل الرسول ليغير معتقدات الآخرين بل هم قاتلوه ليحيد عما يعتقد ، ولم يثبت أن الرسول قتل رجلا لأنه لا يؤمن بما جاء به قط . لم يحارب الرسول ليعبد الله في الأرض ، إنما لتكون كلمة الله هي العليا ، وكلمة الله هي إحلال الحق ، والعدل ، والرحمة في المجتمع مكان الحرية ، والاستئثار ، والجبروت(وما لكم لاتقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين يقولون ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها واجعل لنا من لدنك وليا واجعل لنا من لدنك نصيرا) النساء،آية75 - و لأن الأرض ملك لله باعتراف الجميع حتى غاصبيها ( قل لمن الأرض ومن فيها إن كنتم تعلمون * سيقولون لله قل أفلا تذكرون )30ــ إن ملكية الله للأرض تعني ، حصر الانتفاع بها لزارعيها فقط . وقد جاء في التوراة [وأعطيك عهدا للشعب لتسترد الأرض وتورث الأملاك ]ــ أشعياء، إصحاح49 ، عدد9 ــ وأكده الله في قرآنه العظيم(ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون)الأنبياء 105-والصالحون هنا هم الصالحون لاستعمارها ، اي العاملون بها وليس الورثة الأقرباء ولذلك أطلق القرآن تسمية الفيء ومعناها الرجوع أو الاسترداد بالمعنى التوراتي ،على القرى التي خضعت لسلطة الرسول (ص) ، أي به رجعت ملكيتها من غاصبيها ، المستأثرين بخيراتها إلى مستعمريها المباشرين وزرّاعها .(ومالكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين يقولون ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها واجعل لنا من لدنك وليا واجعل لنا من لدنك نصيرا )31ــ .
و كانت عملية الفيء تتم بالغزو المباشر وفي هذه الحالة تقسم الغنائم بين المحاربين . أو بدون قتال ( وما أفاء الله على رسوله منهم فما أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب ..)32 ــ من الواضح إن الفيء هنا من أموال غير المسلمين ، وهناك فيء الله على رسوله من أموال المسلمين ، بل أغنيائهم كي لا يكون دولة بينهم (ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم ...)33 ــ لكنهم بخلوا كما فعل أقرانهم من مترفي الأمم مع جميع الرسل ( وما أرسلنا في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا بما أرسلتم به كافرون )34 ــ بل كانوا أكثر طغيانا وكفرا حين تواطئوا على قتل الرسول سما مع أقرب الناس إليه .
كما قيد الإسلام ملكية الأرض بشرط الانتفاع الناتج عن المباشرة بزراعتها ، كذلك فعل مع الأبنية المشيدة فوقها من بيوت وغيرها (ليس عليكم جناح أن تدخلوا بيوتا غير مسكونة لكم فيها متاع )35 ــ
لو أمعنا النظر في ما جاء به الإسلام ، وما حاولت الشيوعية السوفيتية تحقيقه لعرفنا سبب إخفاقها ، ذلك إنها لم تفرق بين الدين والمعتاشين عليه ـ رجال الدين أو علماء الدين ، سمهم ما شئت ــ وهنا ألفت عناية القارئ الكريم إلى أن نظرية العدل الاجتماعي الإسلامية ليست خاصة بالمجتمعات الإسلامية فقط إنما هي لكل التجمعات البشرية بغض النظر عن أديانهم . لا يوجد شعب بلا دين ، صغر أو كبر . ولا يخلو دين من رجال وقفوا حياتهم على ممارسة طقوسه ، وشعائره ، والاستفادة منه كمورد مالي لتلبية حاجاتهم المعيشية . لقد أوجدت الشيوعية لنفسها أعداء كانت في غنى عن حربهم ، وذلك بمحاولتها القضاء على الدين بدلا من إقصاء رجال الدين ، وفاتها إنهم هم مركز الداء الحقيقي في جسد كل المجتمعات .
لو تأملنا السبب في نجاح موسى (ع) ، وفي سرعة قبول الشعب الإسرائيلي لنبوته ، في الحقبة الفرعونية ، مقارنة مع إخفاق عيسى (ع) ؛ لوجدنا إن اليهود في زمن موسى لم يكن لهم معابد ولا رجال دين . وكان رجال الكهنوت في زمن عيسى قد بسطوا سيطرتهم على المجتمع اليهودي . ما أريد قوله ، أن الشيوعية برفضها رجال الدين قد تكسب عداءهم وعداء الكثيرين من المخدوعين بهم ، لكن برفضها الدين كله صارت مرفوضة من شعوب الأرض كلها .
كما إن الاختلاف الثاني كان في سيطرة الدولة السوفيتية على مجمل الأرض الخاضعة لسلطانها بامتلاكها ، وكذلك جميع وسائل الإنتاج ، من الصغيرة التي يديرها فرد أو مجموعة أفراد إلى المشاريع العملاقة التي يديرها آلاف الأشخاص وهكذا ظل الفلاحون والعمال الذين كانوا يعملون بالأجرة لدى ملاك الأرض وأصحاب المعامل أجراء ، إداريا ، وأسوء من ذلك ، فقد انخفض عديد أصحاب رؤوس المال إلى مالك واحد هو الدولة . ورغم إن الدولة مفهوم إلا إنها من الناحية العملية مالك حقيقي ، لكنه أقل حماسا من سابقيه ، من ناحية نوعية ووفرة المنتج ، وأكثر اضطهادا لمرؤوسيه . وهذه نتيجة منطقية لاستبدال الملاك السابقين ، الذين جمعوا ثرواتهم حسب الشريعة ، كما يبدوا لهم ، وبرضا الدولة ، وكانوا دائما تحت سلطانها ، بموظفين ثوريين أذلوا الشريعة ، وجعلوا من قناعاتهم قوانين مفروضة .
كما إن من شأن استبدال الملاك بموظفين حكوميين هو التأثير في انسيابية العمل حيث تنشأ الفجوات الإدارية بين مخططي المشاريع ومنفذيها ، وبين الكوادر الإدارية العليا وصغار الموظفين عمالا ، وفلاحين ، وإداريين . لهذا ظل المنتج الاشتراكي أبطأ وأقل جودة من المنتج الرأسمالي . وإذا كانت النسبة الأعظم من مواطني الدول الرأسمالية مسلوبة الحقوق ، فأن مواطني الدول الاشتراكية جميعهم كانوا بلا حقوق . إن الرحم الذي يلد الحقوق هو التملك . وإن تخلي السوفييت عن شريعة الملكية هو تخل عن حقوقهم في أن يكونوا سادة أنفسهم وبيوتهم ومصادر أرزاقهم . الملكية هي الفرق بين السيد والعبد ، لا الرق الذي يكتب فيه ، أن فلانا عبد لفلان .
أما النظام الإسلامي فقد أعفى الدولة من ملكية الأرض وأباحها لجميع المواطنين بشرط مباشرة المستفيد العمل بنفسه ، فلا يجوز له أن يستأجر شخصا ليحل محله بالعمل . وأن يشغل من المكان ما تستطيع قدرته ، فإذا لم يكن قادرا على زرع أكثر من عشرة دوانم فلا يمكنه أن يستملك أكثر من عشرة دوانم ، ولفترة محددة بوقت العمل . فإذا توقف عن العمل بها لأي سبب ، فقد ملكيته لها . لقد جعل النظام الإسلامي التملك حقا يكتسب بالاستعمال فقط . وربما يحتج معترض بأن النظام الرأسمالي يتضمن بداهة حق التملك ! أقول إن ربط الملكية بالقيمة المالية يحول المال من قيمة اعتبارية إلى سلطة واقعية ستسلب الملكية من جميع العاملين فيها ومنهم صاحب رأس المال نفسه ، لأنه واقعا لا يملك مكان الإنتاج ، أرضا أو بناء ، ولا كدح الأجراء وجهدهم وإن لوقت محدود ، هو شكل من أشكال الرق ، السيد فيه هو المال ، والذي يتحرك معظمه بين مجموعة من الأسماء ، الموجودة بالصدف المحضة التي لابد لمجتمع تنظمه الاعتباطية ، إلا إيجادها ، وإلا كيف يمكن لأي استحقاق أن يكون عادلا في نظام يجعل شخصا مالكا لقيم مالية تفوق ما يمتلكه آلاف الأشخاص الذين كدوا في عملهم أكثر مما كد وجهدوا أنفسهم أكثر مما فعل . ولو قلنا كما هو شائع إن المالك لمكان الإنتاج هو مالك رأس المال ! أذكر بأنها ملكية حاجبة للأجراء وهم الأكثر من أن يكونوا مالكين . هكذا نرى إن النظام الرأسمالي كالنظام الاشتراكي في النموذج السوفييتي لا يعترف بوضوح ، بحق التملك لمواطنيه
قلت إن الفجوات الإدارية بين تخطيط المشروع وتنفيذه ثم المباشرة بالإنتاج ، أوسع في النظام الاشتراكي مما هي في النظام الرأسمالي ، وهي أضيق في النظام الإسلامي وتكاد أن تكون معدومة في المشاريع الصغيرة . يجب الإشارة لمزايا التخطيط الاقتصادي لكل نظام ، فعدد العقول المتجهة للطبيعة ، لاستخراج حاجات الإنسان منها ستكون في النظام الاشتراكي أقل مما هي في النظام الرأسمالي ولا يكادان أن يقارنا مع النظام الإسلامي لأباحته الأرض لمن يريد أن يعمل . لذا فإن عدد العقول المخططة سيكون هو تقريبا عدد الأشخاص المنفذين للمشاريع ، والعاملين فيها كذلك ، في كل المشاريع الصغيرة . أما في المشاريع المتوسطة والكبيرة فسيكون لزاما على الدولة وضع إمكانياتها بما يفيد إستراتيجيتها الاقتصادية وذلك بأن تقدم قروضا للمستفيدين من هذه المشاريع حيث مبدأ الشركاء المتساويين في العمل والأرباح . أما إذا كانت الأرباح ضخمة فيجب أن يتصالحوا مع الدولة على صيغة تضمن لهم تحصيل أجور مجزية ، ولكن ليس بالمقدار الذي يخل بالمستوى الاقتصادي لعموم المجتمع . النظام الإسلامي يقوم على مبدأ ، خطط ونفذ ، ولنا أن نتخيل عدد العقول المخططة لنتخيل تأثيرها على الإنتاج ، وصولا للمستوى المعاشي لعموم المواطنين .
مختصر الكلام إن التخطيط والتنفيذ سيكون بيد المواطنين ، وما على الدولة سوى حفظ حقوقهم بضمان الفصل بينها ، من أجل عدم طغيان بعضهم على بعض وكذلك سيكون على الدولة اتخاذ سياسة استثمارية تضمن بموجبها تدويل رأس المال القومي بين رعاياها . بشكل أوضح يجب التأكيد على أن المستثمر الوحيد في النظام الإسلامي هو الدولة ، الدولة فقط ، وكل استثمار لا تمارسه الدولة ، بوصفها نظاما لتدوير الثروة بين رعاياها ، بعد ضمان تأمين حاجاتهم الأساسية وهي المسكن ، والمأكل ، والمشفى ، وطبعا الأمن سيكون إعادة صياغة لقوانين الرق .
إن الملك ، وهو من يجمع تحت سلطته مال الدولة وسلاحها ، هو والد لشعبه ، لذا سيشعر بعقوقه لأبنائه إن أباح لنفسه ما حرمهم منه . ولا أقصد أن يحرم نفسه بدعوى الزهد كما فعل ملوك الإسلام الأول المعروفون بالخلفاء الراشدين ، وهم الذين أغدقوا العطاء على قلة قليلة ، دون الأكثرية التي ذاقت الحرمان الشديد لأسباب لا تمت إلى عدالة الإسلام بصلة . أقول أن والدية الحاكم ستجبره على أن يسكن ، ويأكل ، ويعالج نفسه ، ويحميها كأولاده ــ شعبه . ويمكن أن نتصور جمال المدينة في الدولة الإسلامية : مباني للسكن فقط ، وشوارع دون دوائر دولة ، خالية من المحال التجارية أو الصناعية ، لا جنابر فيها . سيكون العمران الحكومي محاط بمنازل المواطنين لضمان أكبر قدر من العدالة في وصولهم إليه بعد أن يقدموا المسافة الأقرب لمن هو أحوج إليها من أيتام وذوي احتياجات خاصة وأشباههم . ستكون هذه كلمة الدولة المسموعة في وعي مواطنيها لأنهم سيقطنون في منازل يملكونها , دون أن يتحملوا شيئا من نفقات البناء . سيبني الكل للكل . لن يبني أحد لغيره وهو بلا سكن [... ويبنون بيوتهم ويقيمون فيها * لا يبنون ليأتي آخر ويسكن فيها ..] أشعياء ــ 56 : 21،22ــ
علينا أن نتخيل معلما حكوميا وسط دوائر الدولة مخصصا لتناول الطعام سيكون مطبوخا وشاملا لجميع أصناف الطعام . أغنى الأغنياء عبر التأريخ البشري لم يروا مثل هذا العدد من أصناف الطعام على مائدة قط لأن الأب لا يبخل على أبنائه ــ شعبه ولا يأخذ أجرا منهم ، خشية أن لا يجد أحدهم ثمن طعامه فيجوع (فأما الإنسان إذا ما ابتلاه ربه فأكرمه ونعمه فيقول ربي أكرمن * وأما إذا ما ابتلاه فقدر عليه رزقه فيقول ربي أهانن * كلاّ بل لا تكرمون اليتيم * ولا تحاضون على طعام المسكين * وتأكلون التراث أكلا لمّا * وتحبون المال حبا جما ) 36 ــ وقد ورد هذا المعنى في التوراة أيضا [هلموا أيها المعدمون من الفضة ، ابتاعوا وكلوا ... مجانا من غير فضة]أشعياء، 55 :1 ، 8 .
إن الدولة العراقية لم تبخل على رعاياها بالضمان الصحي عبر تأريخها ، لكنها سمحت بتشييد المستشفيات الحكومية ، وسمحت للأطباء بفتح عياداتهم الخاصة . وسمحت بمثل ذلك للممرضين ، وأيضا للصيادلة . هكذا أغلقت الدولة العراقية باب عطفها بوجه المواطنين ، لأنها فتحت منافذ لا حصر لها أمام جشع كوادرها الصحية لنهب المال والدواء . إن وجود مشافي أهلية إلى جانب الحكومية لا يعني إلا شيئا واحدا ألا وهو وجود الحرمان إلى جانب الغنى . إن والديّة الحاكم ستفرض عليه ،دون أدنى شك ، معالجة حرمان أبنائه ولا يكون ذلك إلا بغلق المستشفيات الأهلية ، والعيادات والصيدليات الخاصة .
وكذلك الحال مع الجهاز القضائي ، فوجود المحامي يدل على الفوارق الاقتصادية داخل النسيج الاجتماعي . إن المحاماة هي السفسطائية ووجودها يدل على أن الحقيقة التي لابد منها للقضاء العادل تخلت عن مواقعها لصالح المال . ولا أحرص من الوالد على تحقيق العدالة بين أبنائه . لذا فإن والديّة الوالد ستفرض عليه إلغاء مهنة المحاماة .
يجب التأكيد على أن أبوة الحاكم لا تقتصر على أهل البلد فقط وإنما الساكنين بين ظهرانيهم أيضا ، ربما يفضل أهل البلد ، وحصر السكن ــ بالفلل ــ لهم ، وللأغراب السكن في أبنية عمودية مكونة من شقق .في ما عدا ذلك لا أفضلية لهم على سواهم ، أبدا .
والآن لنضع في أذهاننا خارطة لسوق العمل في مثل هذا النظام ، على سبيل المثال كم ستختصر المطاعم الوطنية من وظائف في سوق الغذاء بل كم ساعة عمل ستوفر للعائلة الواحدة . نعم ستتضاعف أعداد الباحثين عن وظائف .سيقال إن الناس سيفقدون الحافز إلى العمل ، أقول إن الرغبة في العمل قد تنعدم عند كثير من الناس حتى مع شدة الضرورة إليه ، ربما يزداد عددهم ، لكن ليس إلى الحد الذي يخل بالبنية الاقتصادية للبلد . سنتخلى عن المورد المالي للسياحة وأكثر من ذلك سيكون علينا إسكانهم[قاصدي البلد من الشعوب الأخرى] في بيوت لائقة ، وإطعامهم ، وعلاج المرضى منهم مجانا ، ومن أراد العمل يعمل . ومن غير الممكن غلق الحدود بوجه أي قاصد مهما كان دينه أو قوميته إلا لأسباب تضر بمصلحة البلد لأن الملك وهو خليفة الله في أرضه الواقعة تحت سلطانه محكوم بالعمل مع ما تمليه الآية 97 من سورة النساء( ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها ) . ستكون أيدي عاملة كثيرة في البلد العادل وستكون مجالات العمل أكثر (وضرب الله مثلا قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغدا من كل مكان )37ــ
إن كثرة الأيدي العاملة ستجعل الدولة قادرة على تقديم خدمات أكثر لمواطنيها سيرى أصحاب الاحتياجات الخاصة ، وجميع المرضى ، وكبار السن ، والأطفال ، وخصوصا الأيتام منهم ، وأبناء المطلقات ، وأمهاتهم ، والأرامل عناية المجتمع بهم . سيكون هناك موظفون من كل الاختصاصات لتقديم ما يحتاجونه ، في بيوتهم مكرمين . لذلك ستقدم الأرملة والمطلقة على الزواج لأنها لا تخشى على أبنائها من حيف زوجها . وسوف ينسى الناس حديث[إن أبغض الحلال عند الله الطلاق] وأظنه موضوعا لقوله تعالى (وإن يتفرقا يغن الله كلا من سعته ) 38ــ إن كثيرا من الأزواج يحتملون بعضهم مجبرين . مع الإسلام لن يضطروا إلى ذلك . وسيكون للمرأة حق الطلاق كما للرجل .
يتبع ...
بغداد
15/11/2012
الخميس 1محرم 1434








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الأقباط يفطرون على الخل اليوم ..صلوات الجمعة العظيمة من الكا


.. إليكم مواعيد القداسات في أسبوع الآلام للمسيحيين الذين يتّبعو




.. مكتب الإحصاء المركزي الإسرائيلي: عدد اليهود في العالم اليوم


.. أسامة بن لادن.. 13 عاما على مقتله




.. حديث السوشال | من بينها المسجد النبوي.. سيول شديدة تضرب مناط