الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


أساطير الفيضان الإبراهيمية - الجزء الثاني

محمد جمال

2014 / 4 / 7
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


• أساطير فيضان حضارات العراق القديم كمصدر لأسطورة الفيضان العبراني :


تمتلك العديد من حضارات العالم القديم تقريبا أساطير عن غضب الألهة علي البشر و تدميرهم و هذا ليس بغريب، فالبشر دائما متفاوتين في القوة و الضعف، حيث ان القليل من الأغنياء الأقوياء يسيطر علي السواد الأعظم من الفقراء الضعفاء دائما، و لهذا فقد فكر الضعفاء دائما في العديد من الأسئلة، منها تساؤلات عن متي ينتهي هذا الظلم ؟؟؟ و هل كانت الأوضاع دائما هكذا في العصور القديمة ؟؟؟ هل كان اجدادهم ايضا يعانوا من الظلم و الضعف مثلهم ؟؟؟ و اذا كانوا يعانوا من الضعف و الظلم فما كان موقف الألهة التي يؤمنون بها من هؤلاء الطغاة ؟؟؟ هل تركوهم لطغيانهم و تجبرهم ؟؟؟ أم عاقبوهم ؟؟؟ و للعثور علي اجابات علي هذه الأسئلة توجهوا لكهنتهم الذين كانوا يمثلون حلقة الأتصال بينهم و بين الألهة، و طرحوا أسئلتهم، فما كان من بعض هؤلاء الكهنة إلا أن يتجهوا إلي تاريخهم القديم ليعرفوا ماذا حدث في هذه الأزمان الغابرة، و حينما بحثوا وجدوا ذكر لبعض الكوارث الطبيعية مثل فيضانات و زلازل و موجات مدية و حرائق غابات و ثورات بركانية قديمة، كل حضارة علي حسب بيئتها التي نشئت بها، و بالطبع لم يستطع المعاصرون لهذه الكوارث إلا أن يعتبروها غضب إلهي جزاء اخطاء ارتكبوها، و قاموا بتسجيلها علي هذا الأساس و عندما قرئها الكهنة الذين نتكلم عنهم وجدوا ان هذه الكوارث تمثل اجابة مرضية لرعاياهم الذين يبحثون عن مخرج لمعاناتهم و عذابهم في الحياة، فقاموا بصياغة قصص عن كيف اخطئ البشر الأوائل و طغوا و تجبروا و تحدوا قوة الألهة لهذا فقد قام الألهة بأرسال هذه الكوارث للأنتقام و تحقيق العدل، هذا العدل الذي كان يبحث عنه الضعفاء بشدة و لم يجدوه إلا في اذهان كهنتهم الذين صاغوا هذه القصص لأبقائهم مطيعين و خاضعين لسلطانهم و بالطبع للمحافظة علي تدفق اموالهم إلي جيوب الكهنة.

من بين كل اساطير الدمار في الفكر المبكر للأنسان القديم برزت أساطير الفيضان، و يبرز هنا سؤال هام، لماذا الفيضان بالذات دونا عن كل اساليب الإبادة الأخري هو الذي ظهر اولا ؟؟؟ و لهذا اسباب عديدة، منها أن الحضارات التي صاغت هذه الفكرة في البداية كانت هي أول الحضارات التي ظهرت علي الأرض و قد كانت حضارات زراعية، و الحضارات الزراعية تنشأ بطبيعة الحال إلي جانب الأنهار التي تمثل عصب حضارتها، و غضب هذه الأنهار دائما ما يكون مدمرا و عاتيا و مخيفا، فأي نهر في العالم يفيض و يغيض و بالطبع درجة فيضانه تختلف حسب الظروف الطبيعية للمصادر التي تغذي منابعه مثل مستوي انهمار الأمطار و درجة ذوبان الجليد في القمم المحيطة بهذه المنابع و غيرها من العوامل، و لنا أن نتخيل ما يمكن أن تعانيه هذه الشعوب اذا ما جاء فيضان النهر في مرة من المرات عنيفا علي غير العادة، بالطبع ستدمر العديد من المدن و سيموت الكثير من الناس هذا إلي جانب غرق و دمار الأراضي الزراعية، بأختصار سيتحول الأمر إلي كارثة تعلق في ذهن السكان و سيتحول الأمر بالنسبة لهم إلي ابتلاء من الألهة و ستنسج حوله الأساطير مع مرور السنين و نسيان التفاصيل الرئيسية للحدث.

من العوامل الأخري التي ساعدت علي بروز اساطير الفيضان هو القيمة الرمزية و الأسطورية للماء في المعتقدات القديمة، فالماء سائل مطهر يستخدم في طقوس الطهارة التعبدية في كل اديان العالم تقريبا، القديمة منها و الحديثة، و بما أن صياغة اساطير الفيضان جائت كوصف لغضب الألهة علي خطيئة البشر إذاً فأن الماء كان مناسب للغاية لتحقيق غرض غسل و تطهير البشر من الخطيئة التي غضبت بسببها الألهة، كذلك فقد كان للماء دورا هاما في اساطير الخلق الخاصة بهذه الحضارات، فقد اتفقت اغلب الحضارات علي صورة المحيط الأزلي الذي كان موجودا قبل الخلق و من هذا المحيط ظهر كل شيئ أخر بما فيهم الألهة انفسهم، و بما أن الماء هو الذي ظهرت منه الحياة فهو ايضا المؤهل لسلب الحياة التي ظهرت منه، و هذا بالطبع اكثر من منطقي بالنسبة إلي شعوب زراعية كانت تري محاصيلها تخرج بسبب الماء و ايضا كانت تري الماء يقوم بتدمير محاصيلها في حالة غرق الأرض بسبب الري المفرط، فبالنسبة لهم كان الماء سلاح ذو حدان فهو مانح الحياة و هو ايضا سالبها.

تحدثت في الجزء السابق عن قصة الفيضان العبرانية، و هي القصة التي يؤمن بحرفيتها ما يقرب من ثلاثة مليارات مؤمن بالديانات الإبراهيمية حول العالم (بأختلاف طفيف حول التفاصيل بالطبع) و قد كان هذا السرد للقصة العبرانية ضروري جدا لفهم باقي السلسلة لذا يرجي قرائة الجزء السابق قبل الشروع في قراءة هذا الجزء ، و في السطور التالية سأحاول عرض اهم ثلاث مصادر لقصص فيضان حضارات الرافدين مع محاولة تحليل المتشابهات مع القصة العبرانية.

• أولا : قصة الفيضان السومري:

لا شك في أن قصة الفيضان العبرانية التي تمثل الاساس لكل اشكال القصة الإبراهيمية، هي نسخة منقحة من قصص الفيضان التي خرجت من حضارات العراق القديمة، و قد مثلت قصص الفيضان التي خرجت من بلاد الرافدين التيمة الأسطورية لقصص الفيضان التي عرفت في بعض حضارات العالم الأخري، كما مثلت هي الأساس الذي اقتبست منه اغلب هذه الحضارات مادتها لبناء اساطير فيضانها الخاصة، و اقدم قصص فيضانات العراق القديم هي قصة الفيضان السومرية تلك القصة التي وفرت العناصر الأساسية لقصص الفيضان اللاحقة بما فيها الفيضان البابلي الذي كان هو الأساس الذي اخذ منه الكهنة العبرانيين المادة الأسطورية لفيضاناهم، و قد وصلتنا هذه القصة عن طريق لوح فخاري تم العثور عليه في خرائب مدينة "نيبور" أو "نفر" (احدي اقدم المدن السومرية و كانت مركزا لعبادة الأله إنليل و هو إله الرياح السومري، و هي تقع حاليا علي مسافة 7 كم شمال شرق مدينة عفك، احدي مدن محافظة القادسية بالعراق) و هذا اللوح يعود إلي الألف الثالثة ق.م، و للأسف فأن هذا اللوح الفخاري في حالة سيئة للغاية و لكن النصوص المتبقية عليه هي عبارة عن قصيدة تحكي عن بداية خلق الألهة للأنسان و الحيوانات و ظهور اول و اقدم خمس مدن سومرية هي (اريدو و باديتيبيرا و لاراك و شاروباك و سيبار) و هم اقدم المراكز الحضارية السومرية علي الأطلاق، و بعد ذلك يتسبب كسر في فقدان حوالي 37 سطرا، و عندما يبدأ النص مرة اخري نجد قصة الفيضان، و غالبا فأن اسباب الفيضان كانت موجودة في الجزء المكسور و عندما يبدأ النص مرة اخري يقص مباشرة قرار الألهة بتدمير العالم، و لكن اعترضت بعض الألهة علي هذا القرار و هم الإلهة "أنانا" إلهة الحب و الخصوبة و الإلهة "ننخرساج" و هي الإلهة الأم إلهة الأرض، و اخيرا أنكي إله الحكمة الذي اخذ علي عاتقه مسئولية انقاذ البشرية، حيث قام إنكي باختيار شخص يدعي "زيوسودرا" وواضح من النص انه كان ملكا و مسئول عن المعبد، و في يوما ما ذهب زيوسودرا إلي المعبد ليصلي و يقدم القرابين للألهة و يبدو من سياق النص أن زيوسودرا قد غلبه النعاس في المعبد، و اثناء نومه جاءه إنكي في المنام و كلمه من وراء جدار و اخبره عن نية الألهة لإرسال فيضان مدمر لتدمير البشر، و هنا يوجد كسر أخر ادي لفقد ما يقرب من 40 سطرا، و عندما يتصل النص مرة أخري نجد الأحداث قد وصلت إلي الفيضان نفسه مما يعني أن الجزء المفقود كان يتحدث عن كيف سينجو زيوسودرا من الفيضان و مواصفات السفينة و كيفية بنائها و من سيركب فيها مع زيوسودرا، و عندما وصف النص الفيضان وصف كيف استمر الفيضان لمدة سبعة ايام و سبعة ليالي ثم ظهرت الشمس التي قام زيوسودرا بفتح طاقة في سقف السفينة ليسمح لأشعتها بالدخول ثم ذبح ثورا و اغنام كأضحية ل"أوتو" إله الشمس، بعد هذا ينقطع النص مرة اخري و عندما يتضح مرة اخري نجده يصف كيف سجد زيوسودرا أمام الألهة شاكرا علي نجاته، و كيف كافئته الألهة بمنحه الحياة الأبدية في "دلمون" مسكن مجمع الألهة السومري، و اطلقت عليه لقب "حافظ بذرة الحياة"، لهذا فيمكننا استنتاج أن الجزء المقطوع من النص كان يتحدث عن كيفية انحسار الفيضان و رسو السفينة.

تم ترجمة هذا النص و نشره لأول مرة عام 1914م، و هو يقدم الخطوط العريضة لكل اساطير الفيضان المعروفة اللاحقة له، حيث تتوافر به عدة عناصر هامة منها غضب الألهة علي البشر و قرارها لتدميرهم بواسطة طوفان كبير، ايضا حرص الألهة في القصة السومرية علي اختيار فرد من البشر لتستمر الحياة من خلاله هو و مجموعة صغيرة من البشر إلي جانب انقاذه لمجموعة محدودة من الحيوانات، و هذه النقطة اصبحت نقطة اساسية في جميع قصص الفيضان اللاحقة، و ايضا من العناصر التي اصبحت اساسية فيما بعد هي تقديم القرابين و الأضاحي للألهة كتعبير عن الشكر بعد انحسار الفيضان، و اخيرا نجد عنصر هام اخر و هو مكافئة الألهة لبطل الفيضان و تكريمه، سواء بأعطائه الخلود كما حدث في قصص فيضان حضارات بلاد الرافدين أو مباركته هو و أولاده كما حدث في القصة الإبراهيمية.

ملحوظة 1 : لقد تعمدت عدم ذكر الترجمة الكاملة حتي لا يزيد حجم المقال زيادة تجعله عبئا علي القارئ، و بدلا من ذلك ذكرت القصة مختصرة، و علي الراغب في قراءة الترجمة كاملة يمكن الرجوع إلي ترجمة إنجليزية لعالم السوماريات المعروف Samuel Noah Kramer في كتاب "B. Pritchard, James (1969) Ancient Near Eastern Texts Relating to the Old Testament, Third Edition wit Supplement, Princeton University Press" صفحات 42-44، كما توجد ترجمة عربية جيدة للأستاذ فراس السواح في كتابه "مغامرة العقل الأولي" صفحات 157-160

• ثانيا: قصة الفيضان البابلية الأولي، اللوح الحادي عشر من ملحمة جلجامش :

لم يكن النص السومري الذي ترجم لأول مرة عام 1914م هو أول دليل علي عدم أصلية قصة الفيضان الإبراهيمية، ففي عام 1872م قام "جورج سميث" و هو عالم آثار بريطاني تخصص في اللغات المسمارية، بترجمة أحد الألواح الطينية التي اكتشفت عام 1854م في مكتبة الملك "أشوربانيبال" بأطلال مدينة "نينوي" الأشورية القديمة (شرق الموصل بالعراق)، و بترجمتها اكتشف انها تقص قصة فيضان مطابقة تقريبا لقصة الفيضان العبراني، و فيما بعد تم اكتشاف احدي عشر لوحا اخري في نفس المكان و بترجمتهم ظهر ما نعرفه بأسم "ملحمة جلجامش" و هي ملحمة سومرية قديمة تم اعادة صياغتها في الحضارات البابلية المختلفة بالأعتماد علي مصادر سومرية أقدم، و هذه الألواح التي اتحدث عنها و التي تمثل احدي اكمل النسخ التي وصلتنا لهذه الملحمة يعود تاريخ نسخها إلي القرن السابع ق.م.

لا يعنيني هنا سرد احداث ملحمة جلجامش كاملة،و اعتقد انه يكفي أن اقول أن جلجامش كان ملك احدي المدن السومرية القديمة و قامت صداقة بينه و بين إنسان يعرف بأسم إنكيدو، و قاموا معا بأعمال عظيمة لأثبات بطولاتهم تسببت في اغضاب الألهة التي انتقمت لنفسها بقتل إنكيدو، و عندما رأي جلجامش مصير صديقه العزيز بدأ في البحث عن سر الخلود حتي يكون في مأمن من هذا المصير الذي وصل اليه صديقه، و لم يجد جلجامش طريقة أخري لمعرفة سر الخلود سوي سؤال الحكيم أوتنابشتيم الذي يتمتع بحياة الخلود في أرض دلمون، و حينما وصل إليه جلجامش حكي له أوتنباشتيم عن قصته و كيف حصل علي الخلود، و هي القصة المسجلة في اللوح الطيني رقم 11 من الواح ملحمة جلجامش المكتشفة في مكتبة أشور بانيبال، و الذي يعرف اصطلاحا بأسم "لوح الفيضان".

تبدأ القصة بمقابلة جلجامش لأوتنابشتيم، و هنا يندهش جلجامش من مظهر أوتنباشتيم العادي فلم يدرك ما هو المختلف فيه حتي ينال الخلود و طلب منه ان يشرح له الأمر، فحكي له أوتنابشتيم قصته التي حدثت في مدينة "شوريباك" السومرية التي دفعت شيخوختها الألهة لأن ترسل فيضانا يدمرها بمن عليها (ربما المقصود بشيخوخة المدينة هنا هو امتلائها بالمفاسد و المعاصي) ، و بناءا علي هذا اجتمع الألهة السومريين معا لبحث مسئلة الفيضان هذه، و قد كان الأله "أيا" معارضا لفكرة الفيضان و افناء البشر، لهذا فقد قام بتسريب ما قاله الألهة في اجتماعهم إلي رجل يدعي "أوتنابشتيم" حيث قام بالذهاب إليه في بيته و حدثه من وراء جدار و هناك اخبره بنية الألهة لأرسال فيضان لإفناء الحياة و أمره أن يهدم بيته و يبني سفينة لينجي بنفسه، كما امره أن يأخذ معه علي السفينة بذرة كل ذي حياة، ثم اخبره بمواصفات السفينة حيث أن طولها يجب أن يساوي عرضها كما يجب أن تغطي كما المياه السفلي (أي أن يكون لها سقف)، و هكذا لم يكن أمام أوتنابشتيم سوي عقبة واحدة إلا و هي ماذا سيقول للناس لتفسير ما يفعله ؟؟؟ و قد تولي أيا هذه النقطة حيث أخبره بأن يقول لهم بأنه علم بأن الأله إنليل يكرهه لهذا فسوف يبني هذه السفينة للرحيل من هذه المدينة المقدسة، كما اخبره أيا بأن يبشر الناس بأمطار وافرة و خير وفير بعد رحيله من مدينتهم، بعد هذا شرع أوتنابشتيم في بناء السفينة حسب المواصفات التي ابلغه بها أيا، حيث قام بجعل عرضها مساويا لطولها و كان طول كل جانب من جوانبها 36.5 مترا تقريبا، و كان هذا ايضا مدي ارتفاع جدرانها، و ايضا قام أوتنابشتيم بتقسيم السفينة إلي 7 طوابق، و قسم أرضية السفينة إلي تسع أقسام، كما قام بتركيب مصدات للمياه علي جوانب السفينة و زودها بالمؤن الضرورية، و بعد ذلك قام بإزابة ثلاث وزنات من القار و ثلاثة من الأسفلت و ثلاثة من الزيت استهلك بعضهم علي السفينة و مصدات المياه و بعضها الأخر قام بتخذينه في السفينة، و من العناصر الهامة في قصة بناء السفينة الخاصة بهذه الأسطورة هو أن أوتنباشتيم لم يبني السفينة بنفسه بل لقد استأجر عمال و صناع محترفين لبناء السفينة التي استغرق هيكلها الخارجي خمسة أيام لبنائه، و بعد أن انتهي بناء السفينة أقام أوتنابشتيم مأدبة للصناع و الناس ثم نقل إلي السفينة كل ممتلكاته من ذهب و فضة و غيرها كما نقل إلي السفينة كل ما لديه من بذور النباتات و الحيوانات التي جمعها، و بعد ان انتهي و نقل إلي السفينة أهله و أقاربه، قال له الأله "شمش" (إله الشمس) بأنه عندما يبدأ الإله إنليل في إرسال عواصفه و امطاره المدمرة يصعد إلي السفينة و يغلق بابها، و فعلا صعد أوتنباشتيم إلي السفينة بمجرد بدأ الأمطار و نظر إلي السماء قبل صعوده فهاله منظر السماء المرعب، و بعد أن صعد أغلق أبواب السفينة ثم سلم قيادتها إلي ملاح محترف يدعي "بوزور-أموري" ثم ظهرت في الصباح غيمة سوداء هائلة مصحوبة بعاصفة رهيبة ظلت تتعاظم حتي انها كانت تكسر الأرض كما تكسر الفخار و تحصد البشر حصدا، و كانت هذه العاصفة من القوة إلي درجة أنها اخافت الألهة انفسهم الذين فروا إلي سماء الأله "أنو" (الطبقة السابعة من السماء) و انكمشوا هناك مثل الكلاب الخائفة (وفقا لتعبير النص)، و حينما وصلت الأمور لهذه الدرجة لم يتمالك الألهة أنفسهم من البكاء و النواح، و ابدوا ندمهم علي تأييدهم لقرار الفيضان الذي قرره أنليل ووافقوا عليه في مجمع الألهة و ظلوا علي حزنهم لمدة ستة أيام و ستة ليالي و في اليوم السابع توقفت العواصف و خفت حدة الفيضان إلي أن توقف فقام أوتنابشتيم بفتح طاقة و لكنه لم يري إلا مياه ممتدة علي مدي النظر و لا يوجد أي أثر لحياة حيث أن كل البشر قد ماتوا، و بعد فترة ليست بالطويلة بدأت الأرض في الظهور و رست السفينة علي جبل "نيسير" (ربما يكون جبل "بير عمر جودرون" الذي يقع بالقرب من مدينة السليمانية بكردستان العراق)، و قد ظلت السفينة 7 أيام أخري راسية علي الجبل و لم يخرج منها أحد، و بعد إنقضاء السبع أيام أطلق أوتنباشتيم حمامة لتكشف له هل انحسرت المياه إم لا، و لكنها عادت عندما لم تجد مكان للوقوف، فقام أوتنباشتيم بأرسال طائر السنونو الذي فعل كما فعلت الحمامة و ذهب و عاد عندما لم يجد مكان للوقوف، فقام أوتنابشتيم بأرسال الغراب في المرة الثالثة و الأخيرة فلم يعد الغراب حيث انه وجد أن الماء قد انحسر بما يكفي و ظهرت جثث الضحايا فأنشغل بالأكل من هذه الجثث و لم يعد، و هكذا علم أوتنباشتيم أن الفيضان قد انتهي فقام بأرسال الحيوانات و الطيور اللتي معه إلي الجهات الأربعة، و قدم أضحية للألهة و قام بسكب نبيذ القرابين علي الجبل تقربا و شكرا للألهة، فتجمع الألهة علي رائحة القربان الذكية و تجمعوا عليه كالذباب (حسب تعبير النص) و عندما وصلت عشتار قامت برفع عقدها و اقسمت أنها لن تنسي هذه الأيام ابدا مثل عدم نسيانها لعقدها، ثم دعت الألهة إلي تناول القربان ماعدا إنليل الذي تسبب بالطوفان و أسلم البشر شعبهم إلي الدمار، و عندما جاء إنليل غضب غضبا شديدا علي الألهة عندما رأي السفينة و عليها أوتنابشتيم لأنه كان مقدرا أن يهلك جميع الفانيين و لا ينجي منهم أحدا، فقال له الأله "ننورتا" إله السدود و القنوات بأنه السبب في نجاته هو الأله أيا، فرد أيا معاتبا أنليل علي إرساله الفيضان دونما تفكير، ألم يكن يستطيع أن يحمل المذنب ذنبه و الآثم أثمه، ألم يستطع أن يسلط الأسود أو الذئاب أو المجاعات أو الطاعون علي الخاطئين من البشر بدلا من الفيضان الذي دمر كل شيئ، ثم قال أيا إنه لم يفشي اسرار الألهة بل لقد أوحي لأوتنباشتيم في المنام فأستشف السر من نفسه ثم طلب منه أن يبت في أمر أوتنباشتيم، فقام أنليل بالصعود إلي السفينة و أخذ بيد أوتنباشتيم و زوجته و لمس جباههم و منحهم الخلود و الحياة في القاصي البعيد عند فم الانهار و هو المكان الذي يقف فيه جلجامش متحدثا إلي أوتنباشتيم.

حينما قرأ جورج سميث هذه القصة لأول مرة فقد صوابه تماما و بدأ في الصراخ و الهياج من فرط اثارته لهذا الأكتشاف، و لا عجب في ذلك، فما كان يقرأه هو تفاصيل الفيضان العبراني و لكن في لوح بابلي قديم يثبت بما لا يدع مجال للشك عدم أصلية قصة الفيضان العبراني التي كان العالم بأكمله ينظر إليها علي انها احدي اهم القصص التي تثبت عظمة الرب و قوته، و في الحقيقة فأنه يمكننا أن نقول إن الديانات الإبراهيمية قد تعرضت لأقصي الضربات في ذلك الوقت إلا وهو القسم الأخير من القرن التاسع عشر، بداية بنشر كتاب "في أصل الأنواع" الذي نشره الأحيائي الإنجليزي "تشارليز داروين" في الرابع و العشرون من نوفمبر عام 1859م، و الذي تعرض فيه لنظريته المثيرة للجدل ألا و هي التطور البيولوجي و نشوء و ترقي الكائنات الحية، و تبعها في 1871م بكتاب "نشأة الإنسان و الأرتقاء الجنسي" الذي تعرض فيه لتطبيق نظريته علي نشأة الإنسان، تلك النظرية التي وضعت نهاية لأسطورة الخلق التي تعتمد عليها الأديان الإبراهيمية، و بعد ذلك بعام في 1872م قام الأثري الإنجليزي جورج سميث بترجمة قصة الفيضان البابلي، ثم لحقها في عام 1876م بترجمة و نشر نصوص ملحمة الخلق البابلية "إينوما إيليش" و التي وضحت المصدر الأسطوري التي استقت منه قصة الخلق الإبراهيمية مصدرها.

ملحوظة 2 : علي الراغب في قراءة الترجمة كاملة يمكن الرجوع إلي ترجمة إنجليزية لملحمة جلجامش لE. A. Speiser في كتاب "B. Pritchard, James (1969) Ancient Near Eastern Texts Relating to the Old Testament, Third Edition wit Supplement, Princeton University Press" ترجمة اللوح الحادي عشر صفحات 93-97، و الترجمة العربية للأستاذ فراس السواح في كتابه "مغامرة العقل الأولي" صفحات 162-170

• ثالثا: قصة الفيضان البابلية الثانية، ملحمة أتراحيسس :

هي ملحمة أكادية قديمة تعود إلي القرن الثامن عشر ق.م، اقدم النسخ التي وصلتنا لها جائت من الواح طينية تعود إلي عصر الملك البابلي "أمي سادوقا Ammi-Saduqa" (1646-1626 ق.م) و لكن تم العثور علي قطع إخري من عصور أحدث تحتوي علي نسخ من هذه الملحمة، و تحتوي هذه الملحمة علي رواية أخري للفيضان بها بعض التفاصيل الأضافية التي وجدت طريقها للقصة العبرانية، و لسوء الحظ فأن القصة لم تصلنا كاملة و لكني سأذكر فيما يلي ما وصلنا منها بأختصار.

تبدأ القصة بقول الكاتب أن الأرض قد عمرت و تكاثر البشر حتي امتلئت بهم الأرض، و قد ازعجوا الأله أنليل بتجمعاتهم حيث أنه لم يعد يستطيع النوم بسبب ضجيجهم، فجمع الألهة الكبري و قال لهم بأن ضجيج البشر قد زاد و منعه من النوم، و قرر أن يمنع عنهم الطعام، و فلتعوي بطونهم طلبا للخضار، و فلتمنع السماء امطارها و لتمتنع الأنهار من التدفق و فلتأتي عليهم الرياح، و لكن يبدو أن أنليل قد سامح البشر ربما بسبب وساطة الأله إنكي فنجده يأمر الأمطار بأن تعود و الأرض أن تثمر و "نيسابا" (إلهة القمح و الحبوب) أن تكشف صدرها مرة أخري، ثم ينتهي العمود و نجد أن مقدمة العمود الثاني مشوهة و لكن عندما يتضح النص نجد أن أنليل قد عاد و غضب علي البشر ربما بسبب عودة صخبهم مرة أخري، ثم يلي هذا تشوه كبير في النص و عندما يعود النص نجد الإله إنكي يقول لإنليل لماذا أقسمت علي إرسال الفيضان علي البشر ؟؟؟ سأمد يدي لمساعدتهم أمام هذا الفيضان الذي أمرت به، و نستنتج من هذا أن أنليل عندما وجد أن الكوارث التي ارسلها علي البشر غير كافية لأفنائهم أرسل عليهم الفيضان، بعد هذا نجد أن إنكي قد ذهب إلي أتراحيسس و اخبره بالفيضان، و أمره أن يهدم بيته و يبني سفينة التي سيكون أسمها "حافظة الحياة" و ليغطي سطحها بسقف خشبي، و في الوقت الذي سيعينه له فليدخل إلي السفينة و يأخذ معه الحبوب و المتاع و المواشي و يأخذ زوجته و عائلته و اصحاب الحرف و طرائد البرية ووحوشها و طيور السماء و ما استطاع من أكلة العشب ثم يخبره أنه سيدفع بها إليه و لن يضطر إلي أن يجمعها بنفسه، و بعد هذا يقول أتراحيسس لأنكي أنه لم يسبق له أن بني سفينة من قبل فهل يقوم برسمها له علي الأرض ليستعين به علي بنائها، فقام أنكي برسم السفينة علي الأرض و عندها أخبره أتراحيسس أنه سينفذ كل ما أمر به، و بعد ذلك تذكر الألواح العديد من الكوارث و المجاعات و الأوبئة التي ارسلها أنليل علي البشر و ربما تكون هذه الكوارث كانت سابقة للفيضان التي لم تصلنا أحداثه بالضبط فيما وصل إلينا من كسرات لهذه الملحمة.

ملحوظة 3 : علي الراغب في قراءة الترجمة كاملة يمكن الرجوع إلي ترجمة إنجليزية لملحمة أتراحيسس لE. A. Speiser في كتاب "B. Pritchard, James (1969) Ancient Near Eastern Texts Relating to the Old Testament, Third Edition wit Supplement, Princeton University Press" صفحات 104-106، و الترجمة العربية للأستاذ فراس السواح في كتابه "مغامرة العقل الأولي" صفحات 171-179

• رابعا: المتشابهات بين اساطير فيضان بلاد الرافدين و اسطورة الفيضان العبراني :

لا يحتاج القارئ لكلاً من الأسطورة العبرانية و اساطير بلاد الرافدين إلي كثيرا من المجهود العقلي و التفكير ليدرك أن الأسطورة العبرانية مأخوذة من الأساطير العراقية الأقدم بل هي نفس الأسطورة مع تعديلات بسيطة، و هذه التعديلات انصبت علي محورين، أولهم هو شكل الأله الذي قام بالفيضان حيث أن العبرانيين اضطروا إلي أن ينسبوا الفيضان إلي إلههم، و هنا ظهرت مشكلة ألا و هي أن ديانة العبرانيين ديانة توحيدية تؤمن بوحدة الأله، و الأسطورة الرافدية نتاج حضارة تؤمن بمجمع ضخم للألهة و كما رأينا في الأسطورة فلم يكن كل هؤلاء الألهة متفقين علي فكرة الفيضان، و هكذا وجد الكتبة العبرانيين انفسهم مضطرين إلي نسخ الأسطورة بمتناقضاتها و نسبها إلي إلههم و لذلك فقد ظهرت تصرفات الأله متناقضة و غير مترابطة فهو يرغب في تدمير البشر لشرورهم و في نفس الوقت يرغب في الحفاظ علي نسلهم و بعد أن يدمرهم تماما يندم علي ما فعل علي الرغم من انه مطلق القدرة و الصفات و لا يليق به الندم ثم يتعهد إلا يدمر الأنسان مرة أخري لأن شره جزء من شخصيته التي خلقه بها، إذا فلماذا دمره من الأساس ؟؟؟!!! بالطبع كل هذه التناقضات كانت مبررة في اسطورة فيضان بلاد الرافدين و ذلك لأختلاف اراء الألهة فيما يخص الفيضان فهي ليست متناقضات و لكنها اراء مختلفة، و لكن حين تم تحويل القصة إلي الديانة اليهودية التوحيدية اصبح التناقض شرا لابد منه للحفاظ علي القصة كما هي، اما بالنسبة للمحور الثاني الذي انصبت عليه تعديلات الكتبة العبرانيين فقد كان سبب الفيضان، حيث حاول المحررين التوراتيين أن يجعلوا الفيضان في قصتهم نتيجة طبيعية لعصيان البشر للأله و هذا كان له ضرورة تاريخية حيث أن العبرانيين في ذلك الوقت و هي فترة الأسر البابلي كانوا يسعون لمعرفة ماذا فعلوا ليستحقوا هذا العقاب من الرب – المقصود بالعقاب هو اسرهم في بابل- و كانت الإجابة من انبيائهم هي أنهم عصوه و اشركوا به، و ربما لم يصدق الشعب هذه الإجابة لذلك فقد احتاج رجال الدين العبرانيين إلي قصة يظهروا بها للشعب إلي أي درجة يمكن أن يصل غضب الرب نتيجة عصيانه و بناءا عليه فلابد أن يكونوا شكورين لأنه سمح لهم بالبقاء أحياء بعد عصيانهم له.

و الأن سأحاول ذكر بعض العناصر المتشابهة بين اساطير فيضان بلاد الرافدين اسطورة الفيضان التوراتية :

1. نجد أن جميع قصص الطوفان قد اجتمعت علي وسيلة نجاة واحد ألا و هي سفينة خشبية يصعد إليها بطل الطوفان و معه مجموعة محدودة من البشر و بذرة الحياة من الحيوانات و الطيور، إلا أن قصة أوتنباشتيم و أتراحيسس ينفردوا بأن بطل الطوفان قد اخذ معه مجموعات من الصناع و الحرفيين و ذلك لحفظ الحضارة و اعادة تعمير الأرض بعد الفيضان.

2. اتفقت جميع القصص ايضا علي ان الأله هو الذي وضع تصميمات السفينة بنفسه و اخبر بها بطل الفيضان لينفذها، و لكن اختلفت القصص في من قام ببناء السفينة فبينما قام زيوسودرا و أوتنابشتيم بأحضار حرفيين متخصصين يبدو أن أتراحيسس قد قام بنفسه بالبناء حيث نجده يقول للأله "إني لم ابني سفينة من قبل، ارسم لي شكلها علي الأرض حتي استطيع بنائها" فإذا كان سيستخدم عمال محترفين فما الداعي إذا إلي ما قاله، و هذه النقطة تتفق فيها القصة العبرانية مع ملحمة أتراحيسس حيث أن نوح قام ببناء السفينة بنفسه.

3. يأمر الأله إنكي أتراحيسس أن يصنع للسفينة سقفا خشبي، و في الحقيقة هناك رأي له وجاهته يقول أن هذه الجملة "16 وتصنع كوا للفلك، وتكمله إلى حد ذراع من فوق" (تك 6 : 16) التي غالبا ما تترجم فيها الكلمة العبرية "צ-;-ֹ-;-֣-;-ה-;-ַ-;-ר-;- تصوهار" إلي "كوات – نوافذ – طاقات – فتحات" المقصود بها هو "سقف" و ليس نوافذ و يؤيد ذلك الجملة التي اتت بعدها حيث يأمر فيها الرب نوح بأن يجعل السقف علي ارتفاع ذراع من الأعلي.

4. استخدم النص العبري كلمة "ת-;-ּ-;-ֵ-;-ב-;-ַ-;-֣-;-ה-;- تيباه" و التي تعني صندوق أو تابوت، و لم يذكر علي الأطلاق أنها سفينة بالشكل الذي نعرفه للسفن، و هذا يتشابه مع شكل السفينة في قصة أوتنابشتيم، حيث ان مواصفات السفينة كانت أن يكون عرضها مساوي لطولها و فعلا جعل أوتنباشتيم طول كل جانب من جوانبها 36.5 مترا تقريبا مما يجعلها ذات شكل مربع يشبه الصندوق.

5. كيفية جمع الحيوانات التي ستصعد إلي السفينة لم تكن واضحة في قصة زيوسودرا و أوتنباشتيم لكن في ملحمة أتراحيسس نجد إنكي يخبره أنه سيقود إليه الحيوانات و الطيور و ستظل جالسة امام بابه تحرسه إلي أن يحين أوان دخلوهم إلي السفينة، و بالمقابل نجد نصوص المدراش اليهودية تذكر أن الرب قد أرسل ملائكة تحمل سلالا مليئة بالطعام المفضل لكل الحيوانات و ذهبوا إلي هذه الحيوانات ليقتادوهم باستخدام هذه السلال إلي السفينة، فبدا كأن الحيوانات و الطيور تأتي من نفسها لأنه لم يري أحد الملائكة التي تتقدمها.

6. اتفقت جميع القصص علي الأمطار كمسبب للفيضان إلا أن النص العبراني يعطي مسبب اخر إلا و هو مياه الأعماق "11 في سنة ست مئة من حياة نوح، في الشهر الثانى، في اليوم السابع عشر من الشهر في ذلك اليوم، انفجرت كل ينابيع الغمر العظيم، وانفتحت طاقات السماء" (تك 7 : 11) و هنا نجد تشابه مع نص قصة أوتنابشتيم التي تقول من ضمن مسببات الفيضان "و ما ان لاحت تباشير الصباح، حتي علت الأفق غيمة كبيرة سوداء، يجلجل في وسطها صوت "حدد" و يسبقها "شوللات" و "خانيش"، اقلع "اريجال" الدعائم، و قام "ننورتا" بفتح السدود" و اريجال هو اسم اخر لأله العالم السفلي "نرجال" مما يدل علي أن الدعائم التي اقتلعها هي دعائم البوابات التي تحجز المياه السفلية، كذلك نجد في هذه النقطة بالنص العبراني تأثرا واضحا بقصة الخلق البابلية، و هذه ليست النقطة الوحيدة التي تظهر تأثر المصدر الكهنوتي P Source الواضح بملحمة الخلق البابلية "إينوما إيليش" فنجد في الجملة العبرانية سابقة الذكر أن النص يقول "انفتحت طاقات السماء" بدلا من القول ببساطة أن الأمطار قد أنهمرت، كما يقول "أنفجرت كل ينابيع الغمر العظيم" بدلا من أن يقول أن مياه الغمر قد تدفقت، و هذا لأنه متأثرا بالأسطورة البابلية التي ترجع خلق الكون إلي الأله البابلي "مردوخ" الذي قام بشق الإلهة "تيامات" نصفين و صنع من احدهما قبة السماء كسقف، و النصف الأخر صنع منه الأرض، و كان السقف و الأرض كلاً منهما يحجز جزء من مياه المحيط الأزلي الفوضوي القديم "إبسو" و كان فتح طاقات السماء و فتح بوابات الغمر كرمزية للسماح لقوي الفوضي بتدمير العالم المنظم الذي خلقه الأله بعد القضاء علي الفوضي.

7. تتفق قصة أوتنابشتيم البابلية مع قصة نوح العبرانية علي أن السفينة قد رست علي جبل بعد انقضاء الفيضان فبينما رست سفينة أوتنباشتيم علي جبل يسمي "نيسير Ni-Ser" و هي تعني الخلاص، و توجد آراء تذكر أن هذا الجبل هو أحدي الجبال التي توجد في إقليم كردستان العراق بالقرب من مدينة السليمانية، نجد أن سفينة نوح قد رست علي جبال آراراط، و هو إسم اطلقه شعوب الشرق الأدني علي منطقة "أرمينيا" و ربما يكون السبب في تغيير مكان رسو السفينة في الأسطورة العبرانية عن مكان الرسو في الأصل البابلي هو أن العبرانيين قد اعتبروا أن قمم جبال أرمينيا هي أعلي قمم في العالم فبلتالي كان من المنطقي اكثر ان تكون هي مكان الرسو.

8. ايضا من العناصر التي لم تتغير تقريبا بين قصتي أوتنابشتيم و نوح هي نقطة إرسال الطيور بعد الرسو لأكتشاف مدي درجة أنحسار الفيضان عن العالم، فنجد في أسطورة أوتنابشتيم أن النص يقول "و عندما حل اليوم السابع، أتيت بحمامة و اطلقتها في السماء، طارت الحمامة بعيدا و ما لبثت أن عادت إلي، لم تجد مستقرا فآبت، فأتيت بسنونو و اطلقته في السماء، طار بعيدا و ما لبث أن عاد إلي، لم يجد موطئا لقدميه فآب، ثم اتيت بغراب و اطلقته في السماء، فطار الغراب بعيدا و لما رأي أن الماء قد انحسر، أكل و حام و حط و لم يعد" و بالمقابل يقول النص العبراني قصتان قصة بسيطة خاصة بالمصدر اليهودي J Source تقول فقط بأن نوح قد أرسل غرابا " 6 وحدث من بعد أربعين يوما أن نوحا فتح طاقة الفلك التي كان قد عملها7 وأرسل الغراب، فخرج مترددا حتى نشفت المياه عن الأرض" (تك 7 : 6-7) و نجد هنا أن الكاتب العبراني قد ختم الموضوع بجملة "حتي نشفت المياه علي الأرض" و لكن نجد أن الجملة التالية قد ذكرت قصة أخري و قد حاول المحرر دمجهم بأستخدام الكلمة التي ترجمت في النسخة العربية إلي "ثم" " 8 ثم أرسل الحمامة من عنده ليرى هل قلت المياه عن وجه الأرض9 فلم تجد الحمامة مقرا لرجلها، فرجعت إليه إلى الفلك لأن مياها كانت على وجه كل الأرض. فمد يده وأخذها وأدخلها عنده إلى الفلك10 فلبث أيضا سبعة أيام أخر وعاد فأرسل الحمامة من الفلك11 فأتت إليه الحمامة عند المساء، وإذا ورقة زيتون خضراء في فمها. فعلم نوح أن المياه قد قلت عن الأرض12 فلبث أيضا سبعة أيام أخر وأرسل الحمامة فلم تعد ترجع إليه أيضا" (تك 7 : 8-12) و هذه هي رواية المصدر الكهنوتي P Source التي يبدو انها تأثرت ايضا بفترة السبعة ايام التي ارسل بعدها أوتنابشتيم الطيور لتقصي حالة اخبار الفيضان إلا أنها وضعتها كفواصل زمنية بين فترات أرسال الطيور.

9. تتفق كل قصص الفيضان سواء الرافدية أو العبرانية علي أن ابطال الفيضان قد قدموا اضحيات شكر للأله بعد نجاتهم من الفيضان، فتقول اسطورة زيوسودرا السومري "زيوسودرا الملك، خر ساجدا أمام أوتو، و ذبح ثورا و قدم ذبيحة من غنم" بينما يقول نص قصة أوتنباشتيم إنه قام بالأتي بعد أن أرسل الغراب "عند ذلك اطلقت الجميع للجهات الأربع و قدمت أضحية. سكبت خمر القربان علي قمة الجبل. اقمت سبعة قدور و سبعة أخر، و جمعت تحتها قصب السكر الحلو و خشب الأرز و الآس" و علي نفس النسق يخبرنا النص العبراني " 20 وبنى نوح مذبحا للرب . وأخذ من كل البهائم الطاهرة ومن كل الطيور الطاهرة وأصعد محرقات على المذبح" (تك 8 : 20)

10. يتفق ايضا نص قصة أوتنابشتيم مع النص العبراني علي موقف الألهة من الذبيحة حيث يقول نص قصة أوتنباشتيم "فتشمم الألهة الرائحة الذكية، تجمعوا علي الأضحية كالذباب" و يقول النص العبراني " 21 فتنسم الرب رائحة الرضا" (تك 8 : 21أ) و بالطبع فأن الألهة التي شمت رائحة القربان في النص البابلي قد تحولت إلي يهوه فقط في الفكر التوحيدي العبراني.

11. يتفق ايضا نص قصة أوتنابشتيم مع نص قصة نوح في أن الألهة قد ندمت علي إرسال الفيضان، فنستطيع استشفاف ندم الألهة علي دمار البشر في اكثر من موضع في اسطورة أوتنباشتيم فمثلا في منتصف القصة نجد الألهة تبكي علي البشر الذين يموتون بسبب الفيضان "صرخت عشتار كأمرأة في المخاض، ناحت سيدة الألهة ذات الصوت العذب، لقد آلت إلي طين تلك الأيام القديمة، ذلك بأني نطقت بالشر في مجمع الألهة، فكيف استطعت أن امر بمثل هذا الشر. كيف استطعت أن آمر بالحرب لتدمير شعبي، تدمير من اعطيتهم أنا الميلاد، و هاهم يملأون البحر كصغار السمك، و بكي معها آلهة الأنوناكي. جلسوا يندبون و ينوحو، و قد غطوا افواههم" ايضا نجد في نهاية القصة بعد أن اجتمع الألهة علي القربان عشتار تقول "و عندما وصلت الآلهة العظيمة عشتار، رفعت عقدها الكريم الذي صنعه آنو وفق رغباتها و قالت : أيها الألهة الحاضرون. كما لا أنسي هذا العقد اللازوردي الذي يزين عنقي فانني لن أنسي هذه الأيام قط و سأذكرها دوما، تقدموا جميعا و قربوا من الذبيحة الا انليل وحده لن يقترب، لأنه سبب الطوفان دونما ترو، و اسلم شعبي للدمار" أيضا في النص العبراني عبر الأله عن ندمه و لكن كالعادة كان هناك قصتان مختلفتان، قصة المصدر اليهودي المختصرة " 21 فتنسم الرب رائحة الرضا. وقال الرب في قلبه: لا أعود ألعن الأرض أيضا من أجل الإنسان، لأن تصور قلب الإنسان شرير منذ حداثته. ولا أعود أيضا أميت كل حي كما فعلت" (تك 8 : 21)، و لكن احتفظ المصدر الكهنوتي بقصة اطول قليلا مع ذكر ميثاق من الرب للبشر ""11 أقيم ميثاقي معكم فلا ينقرض كل ذي جسد أيضا بمياه الطوفان. ولا يكون أيضا طوفان ليخرب الأرض12 وقال الله: هذه علامة الميثاق الذي أنا واضعه بيني وبينكم، وبين كل ذوات الأنفس الحية التي معكم إلى أجيال الدهر13 وضعت قوسي في السحاب فتكون علامة ميثاق بيني وبين الأرض14 فيكون متى أنشر سحابا على الأرض، وتظهر القوس في السحاب15 أني أذكر ميثاقي الذي بيني وبينكم وبين كل نفس حية في كل جسد. فلا تكون أيضا المياه طوفانا لتهلك كل ذي جسد16 فمتى كانت القوس في السحاب، أبصرها لأذكر ميثاقا أبديا بين الله وبين كل نفس حية في كل جسد على الأرض17 وقال الله لنوح: هذه علامة الميثاق الذي أنا أقمته بيني وبين كل ذي جسد على الأرض" (تك 9 : 11-17) و يذكرنا قوس يهوه الذي وضعه في السحاب كعلامة الميثاق بينه و بين البشر، بقوس الأله مردوخ الذي وضعه في السماء كعلامة علي انتهائه من الخلق و قضائه علي الفوضي السابقة، و لكن بينما كان قوس يهوه هو قوس قذح كان قوس مردوخ نجم "الشعرة اليمانية Sirius" و في الحالتين فأن قوس الأله هو علامة علي أن الأستقرار و النظام قد سادوا اخيرا بعد انقضاء الفوضي.

12. تتفق قصص زيوسودرا و أوتنباشتيم و نوح علي مكافئة الألهة لبطل الطوفان في النهاية فتقول قصة زيوسودرا "زيوسودرا الملك، سجد أمام آنو و انليل و مثل إله وهباه حياة أبدية و مثل إله وهباه روحا خالدة، عند ذلك زيوسودرا الملك دعي بأسم حافظ بذرة الحياة و في أرض دلمون حيث تشرق الشمس أسكناه" و تحكي قصة أوتنباشتيم رواية مشابهة للغاية لرواية زيوسودرا "فصعد انليل إلي السفينة، و أخذ بيدي و أصعدني معه، كما أصعد زوجتي ايضا و جعلها تركع إلي جواري، ثم وقف بيننا و لمس جبهتينا مباركا : ما كنت يا اوتناباشتيم إلا بشر فانيا و لكنك و زوجتك منذ الأن ستغدوان مثلنا خالدين و في القاصي البعيد عند فم الأنهار ستعيشان" إما كتبة النص العبراني فلم يستطيعوا بالطبع أن يطبقوا هذه المكافئة علي بطل طوفانهم لأن الديانة العبرانية التوحيدية اعطت صفة الخلود ليهوه فقط، كما أن خشية يهوه من أن يصبح الأنسان خالدا كانت هي التي دفعته لطرد أدم و حواء من جنة عدن في المقام الأول "22 وقال الرب الإله: هوذا الإنسان قد صار كواحد منا عارفا الخير والشر. والآن لعله يمد يده ويأخذ من شجرة الحياة أيضا ويأكل ويحيا إلى الأبد23 فأخرجه الرب الإله من جنة عدن ليعمل الأرض التي أخذ منها" (تك 3 : 22-23) و لكل هذا فلم يكن من المنطقي تطبيق مكافئة الألهة لبطل الطوفان في الأصول الرافدية علي نوح العبراني، و بدلا من ذلك فقد اكتفي الكاتب التوراتي بمباركة الرب لنوح و نسله كالمكافئة الوحيدة له "1 وبارك الله نوحا وبنيه وقال لهم: أثمروا واكثروا واملأوا الأرض" (تك 9 : 1) و لكن اذا نظرنا إلي النص العبراني نظرة شاملة سنري أن شخصية نوح قد تأثرت كثيرا بفكرة الخلود التي كانت موجودة في الأساطير الرافدية التي مثلت الأصل لها، حيث يذكر التكوين أن نوح قد عاش 950 عام "29 فكانت كل أيام نوح تسع مئة وخمسين سنة، ومات" (تك 9 : 29) و نعلم ايضا أن في خضم غضب الرب من البشر في احداث ما قبل الفيضان قد لعن الأنسان و جعل متوسط عمره 150 عاما فقط "3 فقال الرب: لا يدين روحي في الإنسان إلى الأبد، لزيغانه، هو بشر. وتكون أيامه مئة وعشرين سنة" (تك 6 : 3) و بما أن كل جيل ما قبل الفيضان قد مات و لم ينجي منه سوي نوح و زوجته و اولاده الثلاثة و زوجاتهم الذين مثلوا اول الجيل الجديد الذي خلقه الرب من البشر، إذاً نستنتج من ذلك أن نوح هو اطول من عاش من البشر الجدد، و ذلك اقرب ما يكون للخلود الذي ناله زيوسودرا و أوتنباشتيم.

"انتهي الجزء الثاني و إلي لقاء جديد في الجزء الثالث"

• References :

1. Callahan, Tim (2002) Secret Origins of The Bible, Millennium Press

2. B. Pritchard, James (1969) Ancient Near Eastern Texts Relating to the Old Testament, Third Edition wit Supplement, Princeton University Press

3. السواح، فراس (1996) مغامرة العقل الأولي، دار علاء الدين، دمشق – سوريا









التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - تعليق
عبد الله خلف ( 2014 / 4 / 8 - 03:28 )
1- حدوث الطوفان معروف في كل ثقافه و عقيده , و هو متواتر في كل ثقافه , و هذا يُسمى (نقل الكافة عن الكافة) , أي ملايين البشر نقلوا الخبر لملايين البشر وهذا يفيد العلم اليقيني، وهو أعلى مرتبة من جميع العلوم التجريبية النظرية في إفادة العلم، وهذا كلام المناطقة .
2- توجد أبحاث تؤكد حدوث الطوفان , راجع هذا البحث :
http://www.eltwhed.com/vb/showthread.php?35727-دلائل-طوفان-نوح-عليه-السلام

اخر الافلام

.. عادات وشعوب | مجرية في عقدها التاسع تحفاظ على تقليد قرع أجرا


.. القبض على شاب حاول إطلاق النار على قس أثناء بث مباشر بالكنيس




.. عمليات نوعية للمقاومة الإسلامية في لبنان ضد مواقع الاحتلال ر


.. مؤسسة حياة كريمة تشارك الكنائس القبطية بمحافظة الغربية الاحت




.. العائلات المسيحية الأرثوذكسية في غزة تحيي عيد الفصح وسط أجوا