الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


كم من يهوذا على هذه الأرض

اوليفيا سيد

2014 / 4 / 8
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات


خُلِد إسم يهوذا فى التاريخ مقرونا بالخيانة ، ولعله صنف كأشهر خائن حينما باع السيد المسيح وسلمه لأعدائه، كما خلد إسم الشيطان مقرونا بالشرور والآثام وبات مطرودا من رحمة الله معذبا بين السماء والأرض ، بعد أن كان من الملائكة المسبحين أصبح من المطرودين الملعونين يتعوذ منه البشر أجمعين!

كان يهوذا الإسخريوطى واحدا من تلاميذ المسيح الاثنى عشر، اتفق يهوذا مع رؤساء كهنة اليهود على أن يسلم لهم المسيح مقابل ثلاثون قطعة من الفضة فى مكان خلاء لأن اليهود كانوا يخشون القبض عليه أمام الجموع لئلا يثوروا ضدهم، وكان يهوذا يعرف الأماكن التى يختلى فيها المسيح بتلاميذه.
وأثناء العشاء الأخير للمسيح مع تلاميذه تنبأ وأعلنها قائلا " الذى يغمس يده معى فى الصحن هو من يسلمنى" .. وبعد أن تمت صفقة يهوذا مع اليهود بتسليم المسيح ندم ندما شديدا وعاد ورد الثلاثين قطعة من الفضة إلى رؤساء الكهنة قائلا "لقد أخطأت إذ سلمتكم دما بريئا" ، فأجابوه "ليس هذا من شأننا بل شأنك أنت"، فألقى قطع الفضة فى الهيكل وإنصرف ، ثم ذهب وشنق نفسه.

ولم تنته الخيانة والغدر من على الأرض بموت يهوذا الاسخريوطى، بل توالت قصص الغدر على يد من اؤتمن فى عدة صور وان اختلفت الشخصيات والوقائع.. ومن أشهر قصص الغدر والخيانة تلك المؤامرة التى حيكت ضد يوليوس قيصر من قِبل أمراء وأشراف روما ، وتمثلت الفاجعة فى إشتراك بروتس فى قتل قيصر روما الذى أغدق عليه بالنعم وعامله كولده.
فبعد الانتصارات التى حققها يوليوس قيصر خارج روما وسيطرته على الفتن ونجاحه فى اخماد الحرب الأهلية قرر العودة إلى روما، الأمر الذى جعل الأشراف يعتقدون أن عودته تعنى فنائهم فقرروا القضاء عليه بالرغم من أن قيصر قد عامل هؤلاء الأشراف معاملة كريمة ولم يحكم بالاعدام إلا على عدد قليل من الضباط الذين خانوا عهده فحاربوه بعد أن هزمهم وعفا عنهم ، وصبر على كثير من الأذى ولم يتخذ شيئا من الاجراءات ضد من كان يظن أنهم يتامرون عليه لقتله ، لدرجة أنه أصلح تمثال غريمه بومبى الذى هزمه فى معركة فارسلوس التى خرج منها قيصر منتصرا وأقام التمثال فى موضعه بعد أن طرحه أتباعه على الأرض ، وقال بومبى حينها انه لو كان انتصر لكان أشد انتقاما من أعدائه ، وفى الأسكندرية أقدم مستشارون الفرعون على قتل بومبي عدو قيصر وذلك لتحسين علاقتهم معه لكن قيصر لم يكن سعيدا بهذه المفاجأة مما دفع قيصر لقتل مستشارين الفرعون المسئولين عن اغتيال بومبى .. هكذا يكون الاختلاف بشرف ، لكن ذلك لم يقف المتآمرين عن فعلتهم حيث قرروا التخلص منه واقناع ماركوس جونيوس بروتس والذى كان من رجال السياسة فى روما وعضوا فى مجلس الشيوخ بمشاركتهم قتل القيصر الذى كان يعامل بروتس كابن له، أقنعوه أن حب روما أقوى من حبه للقيصر..

وبالفعل يقررون أن يكون الاغتيال فى اليوم الذى يأتى فيه يوليوس قيصر إلى مجلس الشيوخ ، وكان الاتفاق أن لكل شخص منهم طعنة حتى يموت بأيديهم جميعا دون أن تلحق الجريمة بشخص واحد، وحينما وصل قيصر للمجلس باغته كاسيوس بأول طعنة ثم توالت الطعنات من باق المتآمرين، إلى أن جائته آخر طعنة من بروتس ، حينها امتنع عن كل مقاومة وغطى وجهه بثوبه واستسلم للضربات وسقط .
وفى هذه التراجيدية المؤلمة قد صاغ وليم شكسبير جملة شهيرة على لسان يوليوس قيصر التى قدمها فى رواية (يوليوس قيصر) ، عندما فوجىء القيصر ببروتس بين الطاعنين قال آسفا "حتى أنت يا بروتس"!.. وكثيرا ما تستخدم هذه الجملة للدلالة على خيانة المقربين ممن لا نتوقع خيانتهم وغدرهم.

ولم يك يوليوس قيصر الوحيد الذى غُدِربه على أيدى من حوله ومن وضع ثقته فيهم، فالتاريخ ملىء بالمؤامرات، فقد مات السلطان قطز على يد ركن الدين بيبرس الذى تقلد الحكم من بعده.
فبعد الانتصار على المغول فى معركة عين جالوت بقيادة السلطان قطز، طمع بيبرس فى ولاية حلب لكن قطز خزله فأضمر له بيبرس شرا ، كما ذهب بعض المؤرخين أن وعيد السلطان للمتآمرين ضده وتهديدهم بعد أن حقق النصر وثبت أقدامه فى الحكم كان سببا فى إضمارهم السوء له فقرروا التخلص منه قبل أن يتخلص هو منهم.
فى يوم الإغتيال .. عندما انتهى قطز من حرب التتار وهزيمتهم وتحرير الشام ، عاد إلى مصر ، ولما بلغ بلدة القصير بمحافظة الشرقية بقى بها مع بعض خواصه فى حين رحل بقية الجيش إلى الصالحية، وضرب السلطان خيمته، وهناك دبرت الخطة التى نفذها شركاؤه فى النصر، فتعقبوه وتقدم بيبرس ليقبل يد السلطان ، وكانت تلك إشارة بينه وبين الأمراء، ولم يكد السلطان قطز يمد يده حتى قبض عليها بيبرس بشدة ليحول بينه وبين الحركة فى حين هوى بقية الأمراء بسيوفهم عليه، وانتهت بذلك حياة بطل معركة عين جالوت ليتولى بعده الحكم ركن الدين بيبرس.

ومن قصص التاريخ إلى قصص الأدب العالمى ، استلهم العديد من الأدباء والشعراء روايات تحاكى فكرة الخيانة، ليس بمفهومها الكلاسيكى والتقليدى كالخيانة بين الرجل والمرأة وانما بما يعبر عن المكائد والدسائس ، فقدم لنا وليم شكسبير واحدة من أروع أعماله "عطيل".
وبما أنى من المعجبين بأدب شكسبير وأجد فيه ذائقة خاصة ، سأسرد لكم الخطوط العريضة لهذا العمل الرائع والذى يحاكى نفس الفكرة التى تناولتها..

كان عطيل جنرالا مغربيا فى جيش البندقية، وكان لديه قائد جيوش فى خدمة البندقية يدعى ياغو، وكان له صديق مقرب يدعى كاسيو جعله عطيل ملازمه ونائبه، وكان لعطيل زوجة جميلة مخلصة له تدعى دزدمونة Desdemona "تمت ترجمة الاسم ديدمونة بواسطة خليل مطران"...
كان ياغو يضمر الشر لعطيل لأنه جعل كاسيو نائبا له وكان يضيق بكاسيو لأن عطيل فضله عليه وهو الذى يرغب فى منصب يليق به كما كان يحقد على عطيل كونه تزوج من فتاة جميلة ذات نسب تخلص له وهو المغربى الأسمر، فتأججت نيران الحقد فى صدره فلجأ لحيلة شيطانية، أراد أن يقنع عطيل بخيانة زوجته المحبة مع ملازمه كاسيو، وامعانا فى الخطة طلب ياغو من زوجته إيمليا التى كانت وصيفة لدزدمونة سرقة منديلها الذى أهداها اياه عطيل ، ذلك المنديل المصنوع من الحرير الطبيعى والذى أهداه لها عطيل ، وكان فى الأصل ملكا لوالدته بعد أن وهبته لها امرأة مصرية وأوصتها بالاحتفاظ به لأنها مادامت تحتفظ به فهى تحتفظ بحب زوجها لها وان ضاع فقدت حب زوجها لها، وظلت محتفظة به.

وبالفعل سرقت إيمليا المنديل وأعطته لزوجها ياغو فدسه بدوره فى غرفة كاسيو ، ثم ذهب لعطيل ليسرد له قصة مختلقة من صنع خياله الشيطانى ليقول له أنه كان يبت ليلة مع كاسيو وتبين أن يرى حلما فسمعه يقول وهو مستغرق فى نومه "حبيبتى ديدمونة لنكن حذرين ولنخف حبنا".. وحينئذ يا سيدي أمسك بيدي يشدها ويصيح "يالك من حسناء شهية" ثم طفق يلثمني بقوة.. ثم ألقى بساقه على فخذى وتنهد وعانقني وصاح: "لعن الله الحظ الذي وهبك للمغربي". ويقول لعطيل أنه رأى المنديل بيد كاسيو، ويتفق معه على أن يسمعه حديثا بينه وبين كاسيو على أن يكون عطيل مختبئا ، ووافق عطيل وسمع حديثا دار حول امرأة أخرى كانت خليلة كاسيو، وظن عطيل أن الحديث يدور حول زوجته دزدمونة...
وتنتهى المأساة عندما يخنق عطيل زوجته المخلصة له والمغدور بها ، وتعرف إيميليا زوجة ياغو بذلك فتدلى بالحقيقة لعطيل وتعترف بأنها هى التى أخذت المنديل وأعطته لزوجها دون أن تعلم أنه يبيت أمرا خبيثا.
حينها حاول أن يقتل ياغو لكنه أصابه فقط ، ثم يطعن عطيل نفسه بالسيف حزنا على دزدمونة ، ويقول وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة واصفا نفسه ضمن أحداث الرواية "رجل لم يعقل فى حبه بل أسرف فيه، رجل رمى بيده "كهندى غبى جاهل" لؤلؤة أثمن من عشيرته كلها ، رجل اذا إنفعل درت عيناه وان لم يكن الذرف من دأبها دموعا غزيرة كما تدر أشجار العرب صمغها الشافى".
ويغلق الستار على واحدة من ضمن سلسلة مكائد الحياة التى لا تنتهى...

لذا كم من يهوذا على هذه الأرض! وكم من جريح صرع مغدورا به وأكثر ما أوجعه أن تكون الطعنة من بروتس!
ومن غير العجب أن تأتى الخيانة من المقربين ، فهم يعرفون نقاط ضعفنا وأوجاعنا وما قد يسعدنا وما يشقينا ، وأمر وارد أن يكون من بينهم شخص واحد يمثل يهوذا ، لكن ليس بالضرورة أن يكون كل من حولنا يهوذا ولا يجب أن نستسلم لهذا الهاجس حتى لا نعكر صفو حياتنا بأدخنة الشك وغبار الظنون.. فلم يكن الإثنى عشر تلميذا بأكملهم يهوذا ، بل كان من بينهم يهوذا ، وقد يوجد فى حياة كل منا يهوذا أو بروتس أو ياغو.. فاحذروه.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ماذا وراء استئناف الخطوط الجوية الجزائرية رحلاتها الجوية من


.. مجلس الامن يدعو في قرار جديد إلى فرض عقوبات ضد من يهدّدون ال




.. إيران تضع الخطط.. هذا موعد الضربة على إسرائيل | #رادار


.. مراسل الجزيرة: 4 شهداء بينهم طفل في قصف إسرائيلي استهدف منزل




.. محمود يزبك: نتنياهو يريد القضاء على حماس وتفريغ شمال قطاع غز