الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الدينيون والحداثة (4)

عبدالله خليفة

2014 / 4 / 10
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


يعتبر الكواكبي إن التجنيد الإجباري وجهالة الأمة هما من الظواهر الكبيرة المكرسة للاستبداد، ولا شك إن وضعه هذين السببين في مقدمة المظاهر المكرسة للاستبداد، يعود إلى رؤيته لدورهما في تجهيل وعسكرة الجمهور البسيط، وخاصة الريفي والمدني الفقير الذي يستخدم لضرب الأقسام المدنية المتحررة، لأنه يمضي بعد ذلك في تحليل هذه الأقسام الشعبية وخطورة جهلها وعسكرتها على الديمقراطية. فهو يقول (وأما الجندية فتفسد أخلاق الأمة حيث تعلمها الشراسة والطاعة العمياء). إن الكواكبي يقوم بتتبع مظاهر لا تبدو بينها خيوط ارتباط دقيقة في الظاهر، لكن سنرى العلائق بينها، فبعد قليل يعود إلى بحثه مؤكداً النموذج الإنكليزي في النظام السياسي، حيث الشعب لا يكف عن مراقبة حكامه، وإن الوزارة المنتخبة هي التي تدير كل النظام السياسي بما فيها الملك وحاشيته وعلاقاته.
وفجأة من هذا النظام السياسي المتقدم يعود إلى الحكومات البدوية، فيقرر أن المجتمعات البدوية قلما عرفت الاستبداد (وأقرب مثال لذلك أهل جزيرة العرب فإنهم لا يكادون يعرفون الاستبداد من قبل عهد ملوك تبع وحمير وغسان إلى الآن إلا فترات قليلة)، وهذا التعميم في الواقع بين ملوك تبع، والقبائل البدوية، فيه جانب محدود من الموضوعية، فالقبائل الرعوية لم تتجذر فيها السلطات الدكتاتورية، ولكنها أيضاً تحمل بذور الدكتاتورية عبر الخضوع المطلق لشيخ القبيلة، وعبر (وحدة الدم) فيها، التي تشكلها الحياة القاسية للصحراء وهيمنة الشيوخ. وعبر هذه الدكتاتورية أمكن لهؤلاء أن يشيدوا الإمارات والدول الاستبدادية المنبثقة من التطور القبلي.
وهذا المثال يعطينا كيف أن وعي الكواكبي يستقي بعض المظاهر الحقيقية لكنه يقوم بحالات من التعميم، وبتغييب الدراسة التاريخية للظاهرة الجزئية المدروسة. والمثال السابق يدعوه لدراسة تطور الإنسان عبر التاريخ، فانتقل من تحليل البدو إلى تحليل تاريخ الإنسانية، وكيفية الاجتماع، فهو يعتبر إن الجماعات والشعوب المتلاصقة هي التي تعيش حياة الاستبداد كالأمم الشرقية، أما الشعوب المتفرقة في السكن كالبدو والإنكليز والأمريكيين فإنهم يعيشون حياة أقرب للحرية. إن الكواكبي هنا يعطي سبباً جغرافياً مطلقاً مفصولاً عن التطور الاجتماعي المركب، لكن الأمم الرعوية أقرب للحرية بسبب عدم تجذر السلطة الاستبدادية داخلها، أي عبر غياب مؤسسات القمع الراسخة، وحضور الجمهور المسلح وعدم رسوخ الطبقات، فالأمر يعود لبنية اجتماعية معينة، وليس لمسألة التفرق والبعثرة السكانية، فالإنكليز والأمريكيون لا يعيشون هذه البعثرة بل التركز السكاني كالهنود والعرب ولكن مسألة الحرية تعود للتطور الاجتماعي والسياسي، حيث تمكن الناس في هذين البلدين من إخضاع الحكام للمؤسسات الدستورية
وهكذا فإن الكواكبي عبر تحليل ظاهرات معينة، تغيب عنه قراءة التشابك بين الاجتماعي والسياسي.
إن الطابع الخطابي لدى الكواكبي يتضح في هذه العبارة البليغة النارية:
(المستبد عدو الحق، عدو الحرية وقاتلهما، والحق أبو البشر، والحرية أمهم، والعوام صبية أيتام نيام لا يعلمون شيئاً، والعلماء هم أخوتهم الراشدون. إن أيقظوهم هبوا وإن دعوهم لبوا وإلا فيتصل نومهم بالموت).
في مثل هذا الخطاب الحماسي الموجه لإيقاظ الشعب واستثارته، تتشكل المفاهيم من كلمات مجردة بلا خلفية اجتماعية وتاريخية، كتعابير: المستبد، والحق، والحرية، والعوام، والعلماء، فكل هذه الكلمات تتشكل في غياب الفضاء التاريخي، فالحق هنا مقصود به ولا شك حقوق الناس الديمقراطية التي أوضحها الكواكبي في أماكن أخرى، ولكن الكلمة تتجرد من دلالتها، مثلما تتجرد كلمة العوام، فهم نائمون بشكل مطلق وليس لأسباب موضوعية في ظرف تاريخي معين، كذلك فالعلماء هم أصحاب الإيقاظ المطلق.
هنا يعبر الكواكبي عن العرب في بداية القرن حيث يستفز العامة للثورة، كما يستفز العلماء، علماء الدين، لكن لا يقوم بالتحليل لهذه التعبيرات العامة، ولكننا ندرك إن مسائل الوعي والثقافة والناس والمثقفون والأوضاع الموضوعية لا تترابط وتتداخل في فهمه، فليس ثمة شروط وقوانين موضوعية للتطور الاجتماعي، فالأمور خاضعة لديه لإرادة ذاتية يقوم بها العلماء، وإلى جسم عامي مرتبط بهذه الإرادة، وليس لجسم شعبي مرتبط بظروف معقدة يتداخل فيها الذاتي والموضوعي.
ولهذا فإن هذه التعميمات تتحول إلى رؤية كونية عامة مجردة مضطربة فيقول: (إن الله جلت نعمه خلق الإنسان حراً قائده العقل، ففكر وأبى إلا أن يكون عبداً قائده الجهل)، فهو هنا لا يضع مسافة موضوعية بين الله والإنسان، عبر التاريخ الذي تشكل فيه الناسُ، فتأتي كلماتُ: الإنسان، الحر، العقل، العبد، الجهل، بلا ركائزها في التاريخ الملموس، أي يغيب التاريخُ الحقيقي في المواضع المختلفة من تطور الحضارات وكيفية نشؤ الدولة وانتقال الإنسان من المجتمع المشاعي إلى مجتمع العبودية المعممة في المشرق العربي، فمثل هذه السيرورة تغيب عن الكواكبي، ولهذا ينهال على رأس هذا الإنسان المجرد بأقذع الهجوم: (فكفر وأبى شكره وخلط في دين الفطرة الصحيح بالباطل ليغالط نفسه وغيره)، [فكفر الإنسان نعمة الله وأبى أن يعتمد كفالة رزقه فوكله ربه إلى نفسه وابتلاه بظلم نفسه وجنسه وهكذا كان الإنسان ظلوماً كفوراً).
هذا الخطاب جزء من خطبة العالم الديني، الذي يمثله الكواكبي هنا، وهو يقوم بالتعميمات المجردة اللاتاريخية، ويسكب الخط الديني الغيبي: فهنا الله وجنته ودينه الصحيح، وهناك الشيطان والنار والدين الباطل، وثمة الإنسان المجرد الكافر الذي يتوجه للمعصية، ولكننا لا نعرف لماذا يتوجه هذا الإنسان العام اللاتاريخي إلى الشر؟ ما هي ظروفه ؟ وكيف تسهل قيادته من قبل الشيطان؟
في هذا الخطاب يعود الكواكبي للغيبية، ويبتعد عن دوره كمحلل تاريخي، لكنه يعود لهذا الدور بعد أن ينهي فصل الاستبداد السياسي، منتقلاً إلى الاستبداد الديني، اللذين يعتبرهما صنوين، ووجهين لعملة واحدة: (هما صنوان قويان بينهما رابطة الحاجة إلى التعاون لتذليل الإنسان، والمشاكلة بينهما أنهما حاكمان أحدهما في مملكة الأجسام والآخر في عالم القلوب).








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. حتة من الجنة شلالات ونوافير وورد اجمل كادرات تصوير في معرض


.. 180-Al-Baqarah




.. 183-Al-Baqarah


.. 184-Al-Baqarah




.. 186-Al-Baqarah