الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


سارتر في القاهرة

سوسن بشير

2005 / 7 / 14
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


" دور المثقفين في المجتمع المعاصر" هو عنوان المحاضرة التي ألقاها جان بول سارتر في جامعة القاهرة، في الرابع من مارس عام 1967، و نشرتها مجلة الطليعة في ملف خصصته عنه في أبريل من ذات العام، و أعادت نشرها مجلة أوراق فلسفية في عددها الرابع عشر عام 2005. إذاً اختار سارتر أن يلقي على المصريين الذين اعتبرهم آنذاك مجتمعاً ثوريا، محاضرة في دور المثقف، و تشاء المصادفات أن يكون ذلك قبيل النكسة. و لنكن أكثر تحديداً، فقد اختار سارتر أن يتحدث عن دور المثقفين في المجتمع البرجوازي الذي نشأ فيه، و تأسف لأنه لا يستطيع أن يتحدث عن دور المثقف في المجتمع الثوري الذي يتحدث إليه. و يا لها من مفارقة، فها نحن المجتمع الثوري في نظر سارتر أيام 1967، قفزنا حوالي أربعين عاماً...فماذا أصبحنا؟
هل نحن مجتمع برجوازي كالذي تحدث سارتر عن مثقفيه و دورهم؟ ربما تساعدنا العودة إلى بعض تفاصيل محاضرة سارتر في الإجابة على هذه الأسئلة، أو طرح المزيد منها. لقد بنى سارتر محاضرته على التفرقة بين رجل العلم و المعرفة و المثقف. هذا المثقف الذي لا ينظر له بارتياح من الطبقة الحاكمة، و كذلك تنظر له الطبقة الكادحة بريبة و شك، مع احترامها له كرجل علم و معرفة. فالمثقف كما يراه سارتر هو ذلك الكائن دائم المعارضة والنقد، يتدخل فيما لا يخصه في نظر السلطة مستغلاً شهرته و تأثير أعماله. و يبدأ سارتر بضرب أمثاله للدلالة على قوله، فعالم الأبحاث النووية الذي يخدم القوة الإمبريالية، يظل عالماً لا مثقفاً، إلى أن يشترك مع علماء آخرين في التوقيع على بيان يدين استخدام الدولة لأبحاثه في أغراض غير إنسانية. هنا فقط يتحول إلى مثقف. فالمثقف رجل معرفة ، لكنها معرفة عملية. المثقف هو ذلك العالم أو الطبيب أو القانوني أو الفنان...إلخ، الذي يسعى لتكوين نفسه حين يعي التناقض داخل مجتمعه البرجوازي، ثم يقوم بالاختيار. و هناك من رجال العلم و المعرفة من يدركون التناقض، لكنهم يسعون لإخفائه مع السلطة الحاكمة، و هنا يختار رجل العلم أن يصبح من كلاب الحراسة بحد وصف سارتر، الذين يعيشون القلق و التناقض و عدم الرضى، لكن لا يجعلون هذه العناصر تعمل داخلهم و تغيرهم. و هذا يعود بنا إلى مقولات سارتر الأساسية التي يعرفها كل دارس فلسفة، هذه المقولات التي تنبني عليها مثل هذه المحاضرة، و غيرها من قصص و مسرحيات و روايات و مقالات و أحاديث سارتر. فرجال العلم و المعرفة من البشر، الذين عرفهم سارتر بأنهم موجودات لذاتها، تكون أسبقية الوجود لديها على الماهية، أي توجد أولاً ثم تتحدد ماهياتها عن طريق أفعالها. و لا يترك سارتر الإنسان عرضة للتأويل، فقد قرر عبر الفكرة المركزية في الفلسفة الوجودية، و هي الحرية، أن الإنسان محكوم عليه بالحرية، و من ثم فرجل العلم محكوم عليه بالحرية، و لا يوجد ما يجبره على أن يصبح من كلاب الحراسة بدلاً من أن يكون مثقفاً. لكن سارتر يدرك هذه المرحلة المضطربة القلقة لدى رجل العلم و المعرفة، التي يمكننا أن نطلق عليها مرحلة انتقالية أساسية. لكن من أين يأتي التناقض؟ و علينا أن نتذكر هنا أن حديث سارتر كان عن مجتمعه الغربي البرجوازي، لقد ضرب سارتر مثلاً ذكياً للغاية، مستمداً من تاريخ اليابان، حين تم الإصلاح الكبير، أو حين قرر حكام اليابان صنع بلادهم و إصلاحها من أعلى، فضحت الطبقة الحاكمة ببعض الإقطاعيين، لدفع عجلة الاقتصاد ببعض رؤوس الأموال. و وجدت الطبقة الحاكمة نفسها تواجه مسألة ملحة، و هي أهمية وجود كوادر من المهندسين و الفنيين و غيرهم، و من هنا كان لابد من إصلاح في وسائل التربية و التعليم، هذه الوسائل التي كانت ترسخ تربية الشعب على عبادة الإمبراطور و التضحية من أجله، فأمسك أحد وزراء التربية و التعليم بالعصا من المنتصف، و قرر أن تكون تربية الأطفال في حدود المبادئ التقليدية المتعارف عليها، التي ترسخ الانصياع للأسلاف، إلى أن يشب الطفل و يصل للجامعة، و هنا تكون التربية علمية تماماً، سيدرس الطالب الفيزياء و الرياضيات و الأحياء. أي أن النظام الأول الذي يطبق في الطفولة التي يصعب الإفلات من تاثيرها يعلم الخضوع الكامل، و الثاني إن شاء الفرد أم أبى سيؤدي به إلى الحرية. الملفت للنظر في هذا المثال الذي يطرحه سارتر هو أن الاخوة اليابانيين لم يلجأوا في حل مشكلتهم في الإصلاح إلى خبراء أجانب. و ينتقل سارتر إلى حرية الفكر، هذه المقولة الملتبسة لدى كثيرين، فحرية الفكر هنا لها معنى محدد: " ليس حرية التفكير في أي شيء بل حرية البحث. إنها حرية تقدم الشيء عما اكتسبه الفكر من تجارب، مما يتمشى و يتجاوب مع رفض مبدأ السيادة". فالعالم و رجل المعرفة سيضطر على مضض لاستعمال الحرية، حيث ستأتي إليه التناقضات بنفسها، و لن يسعى هو إليها، فقط عليه أن يتركها تكونه و تدفعه. و يضرب سارتر مثلا معبراً هنا بـ " ميكلسون" و " مورلي"، حين أرادا أن يقيسا سرعة الضوء في بداية القرن العشرين، و لم يفكرا و لو للحظة في نقض نظرية نيوتن، التي قاما بالقياس في نطاقها. لكن التجارب التي قاما بها لأكثر من مرة ، لم تترك لهما مجال شك، فقد أثبتا أن سرعة الضوء باقية على ما هي عليه، سواء اقترب الشيء المضاد من المرآة أو ابتعد عنها. فهما كرجلي علم كان عليهما أن يقوما بنقض العرف العلمي، لا نتاج نزوة عابرة، و إنما لنقض العرف العلمي لذاته. و هكذا يعلمنا سارتر قبول النقض حينما ينقض الشيء نفسه، و يصبح استمراره عبثاً. و من هنا على العالم أن يكون حر الحركة، هذه الحرية العملية، لما يقتضيه العلم. و هذا العلم له طابع شامل و كلي، فكل إنسان مهما كانت معرفته ضئيلة يمكنه أن يكون عالماً، و استند سارتر في ذلك على تجربة سقراط، الذي عرف منهجه الفكري الفلسفي بالتوليد، فقد دفع سقراط بأحد العبيد ليكتشف البرهان على نظرية من النظريات عبر نقله من جملة لأخرى و استنتاج لآخر، حتى وصل العبد للبرهان الرئيسي. و هنا يضرب سارتر عرض الحائط بفكرة صفوة العلماء، فالعالم هو أخصائي في البحث الذي يستطيع أي إنسان أن يتوصل إليه إذا توفرت له أسباب التخصص. أما نظريات عالم الفن التي تقرر أن بعض المؤلفات التي تتسم بالرقة والحساسية النادرة، ليست موجهة إلا لمن يتميزون بذات المستوى من الرقة والحساسية، و عليه فإن ما يتردد بأن المؤلفين والقراء يمثلون فئة أعلى من غيرهم، فهو قول لا يقنع سارتر و لا يعترف به، و دلل عليه بكتابات "ستاندال" الذي صرح بنفسه بأن مؤلفاته للمختارين، و تحولت بعد ذلك إلى كتب للجيب يقراها الملايين. و من هنا يتحدث سارتر إلى الفنانين و الكتاب، و يقول إن من يتصور نفسه صاحب طبيعة خاصة فهو مخطئ. و بغض النظر عن اتفاق البعض مع مقولات سارتر تلك أو اختلافهم معه، أو محاولة البعض الآخر اكتشاف إلى أي حد كان سارتر متناسقاً أو متنافراً مع مقولاته، فإن سارتر قد بنى على المذكور سابقاً جملته المهمة: " إذا ما أخذ يفكر العالم أن غالبية الناس ليسوا مؤهلين للحكم على الأشياء أو رفضها لأنهم لا يستطيعون إدراكها فهو يمس بحكمه هذا صميم الطابع الكلي الشامل للعقل". و كان من المنطقي أن ينتقل سارتر إلى فكرة العنصرية، فلا يجوز للإنسان أن يكون عالماً و عنصرياً في نفس الوقت.
لكن العالم قد يتحول عنصرياً لسبب واحد، و هو العمل على خدمة من يمدونه بالأجر. فعلى العالم أن يرفض العنصرية، أي يرفض فكرة تفاوت المستويات الذهنية بين الأجناس البشرية. و قد طالب سارتر في محاضرته برفض كل أنواع التمييز، كذلك طالب بوحدة الفكر مرة أخرى، تلك التي إن لم تتحقق على مستوى كافة البشر، فعليها أن تتحقق بين العلماء. و يعود بنا سارتر إلى هؤلاء الأطفال اليابانيين، الذين سيخضعون لتربيتين مختلفتين، أحدهما في الطفولة و الأخرى في الشباب أثناء التعليم الجامعي، و يجعلنا نتصور كم التناقضات التي ستفور في الصدور، و الإضرابات التي تتكون في المرحلة الانتقالية، حيث يصبح العالم آلة في يد الطبقة الحاكمة التي صنعته، و ينشأ بينه وبينها صراع أكيد، بل ينشأ الصراع بالأساس بين نصفيه المتلاحمين، ذاك الذي تربى على الخنوع، و الآخر الذي استنشق الحرية مع المعرفة، و يدرك أنه نتاج طبقة متميزة عن باقي الشعب، و يمثل أحد انعكاسات هذه الطبقة، لكن عليه أن يصبح خادماً حراً للعلم لا للطبقة التي صنعته. و بالقياس فعلى العالم في أي مكان أن يرفض عبوديته لمن يدفع له. و في هذا المستوى من الصراع تحديداً يظهر المثقف أو لا يظهر، و هذه المرحلة لدى سارتر يطلق عليها "المرحلة الثقافية"، فعلى العالم أن يختار بين هذا الخنوع الذي تربى عليه، و بين مهنته وهي العلم. أي يختار بين كلاب الحراسة و بين أن يكون مثقفاً. و إذا اختار الثانية فعليه أن يمارس عملاً صعبا في ذاته، حيث عليه أن يرفض العنصرية و الامتيازات، بل و يرفض فكرة إنه إنسان خارق و متميز. و يصف سارتر المثقف في وقته بالمخلوق الغريب، و بناء على مقولات سارتر، فهذا الوصف يتم إطلاقه تجاوزاً. فهذا المخلوق الغريب هو الذي يقف بجانب الطبقة الحاكمة التي كونته، و تنظر إليه الطبقة الكادحة حينها بارتياب ، لأن حالته تجعله مشاركاً لأصحاب السلطة، و يمثل جزءاً من فائض القيمة. لقد استشهد سارتر بعمال بناء السد العالي، حينما سألهم عن سبب فرحتهم في لحظة تغيير مجرى مياه النيل، التي شاهدها في فيلم تسجيلي، فأجابه أحدهم بأن هذه الملايين من الفدادين التي سيتم استصلاحها بالمياه، سيعود أثرها على المجتمع بأسره. و علق سارتر بأن تخطي العامل لذاته لا يحدث في الدول الرأسمالية و لا البرجوازية. لكن الثقافة البرجوازية برأي سارتر تجثم على الصدور. و يستمر سارتر في بيان الارتباط بين العلم و العمل لدى المثقف، و يمكننا أن نستمر في عرض محاضرته و تحليلها إلى نهايتها، لكن التساؤل الذي يفرض نفسه هو، هل تجاوزنا في بلادنا تلك المرحلة الثقافية التي أشار إليها سارتر في محاضرة ألقاها وسط مجتمع مصر الذي وصفه بالثوري منذ حوالي أربعين عاماً، مما يؤهلنا لتتبع العلاقة لدى المثقف بين العلم و العمل؟ و أي مسمى يمكننا أن نطلقه على المرحلة التي يعيش فيها اليوم كل من المثقف الحقيقي، و المثقف الذي تطلق عليه هذه الصفة تجاوزاً، بل المرحلة التي يعيش فيها المجتمع بأسره؟ ربما تكون هذه الأسئلة هي الأجدر بالطرح حين نستعيد سارتر في مئويته، و معه نستعيد تلك المحاضرة التي ألقيت في قلب القاهرة...في جامعتها.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. تفاصيل صغيرة منسية.. تكشف حل لغز اختفاء وقتل كاساندرا????


.. أمن الملاحة.. جولات التصعيد الحوثي ضد السفن المتجهة إلى إسر




.. الحوثيون يواصلون استهداف السفن المتجهة إلى إسرائيل ويوسعون ن


.. وكالة أنباء العالم العربي عن مصدر مطلع: الاتفاق بين حماس وإس




.. شاهد| كيف منع متظاهرون الشرطة من إنزال علم فلسطين في أمريكا