الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الإنسانية في تقدم حقا أم أن التدهور هو العنوان ؟

عبد الكريم جندي

2014 / 4 / 13
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


يبدو أن الرأي السائد في هذا الشأن هو القائل بأن الإنسانية لا تعرف شعار التراجع، بل هي في تطور وتقدم مستمرين، وهذا ما يجد صداه الصارخ في النتائج المبهرة في مجالات العلوم والتقنيات؛ حيث استطاع العقل البشري أن يبدع ويتفنن فيها بشكل لم يسبق له مثيل. فالعلوم سواء منها الطبيعية أو الإنسانية بلغت في عصرنا الحالي مستويات عليا من خلال استفادتها من التاريخ العلمي والفكري سواء بإنجازاته الموفقة أو بإخفاقاته كذلك. أما التقنية وعوالمها فقد صارت سمة العصر بدون منازع؛ فالكون أصبح يعج بالأقمار الإصطناعية، وبوسائل مذهلة في المواصلات البرية والبحرية والجوية (السيارة، القطار، البواخر، الطائرات...)، وآلات إلكترونية صنعت للتواصل السمعي والبصري تصل لكل أقطار الكرة الأرضية (الهاتف، الحاسوب...)، وتقنيات لتنظيم الطرقات وأخرى لمراقبة الشوارع والأماكن العمومية، وبعضها لتسهيل الأشغال المنزلية وغيرها كثير، إلى درجة أصبح فيها خبر صنع رجل آلي يقوم بوظائف إنسانية معينة خبرا معتادا. في حين أن هناك من الابتكارات التي ينظر إليها - لغرابتها - كمعجزات في سياق إنتاجها، لعل من أهمها صنع " قلب اصطناعي" يحاكي إلى حد ما الوظائف البيولوجية التي يقوم بها قلب الإنسان. فنحن في عصر العلوم والتقنيات بامتياز؛ حيث نحتاج مجلدات كثيرة إذا أردنا تعدادها ووصفها وتصنيفها وذكر مزاياها، إلا أن المقام لا يسعفنا البتة لذلك. إنما نحن بصدد محاولة للإجابة عن السؤال المركزي الذي اخترناه لعنونة مقالنا هذا.
نشير بعد هذا المدخل الموجز، أن كل ما ذكرناه بخصوص هذه التطورات العلمية والتقنية التي يشهدها عالمنا حاليا، لم نستحضرحه بغرض الحط من شأنه وإفقاده أهميته داخل المجتمع اللإنساني، بل إننا والحالة هذه نثمن هذه المنجزات ونرى فيها الكثير من الفوائد مع ما فيها من مخاطر. وبالتالي تكون استراتيجيتنا في هذا الاستحضار هو الوصول وإياكم إلى طرح الأسئلة التي تهمنا وفقا للسؤال المركزي المطروح في العنوان فنقول: أليس كل ما أبدعه البشر من علوم وأفكار وتقنيات كان هدفها الأول والأخير يكمن في تحسين أوضاعه انطلاقا من تجاوز كل ما يعيق تحقيق رفاهيته، ليتمكن من الوصول إلى " السعادة الإنسانية "؟ ألم يكافح هذا الكائن العاقل على مر العصور بكل ما أوتي من حكمة وقوة من أجل هذا الهدف؟ وبالتالي ألا يمكن القول أن هذا الهدف المنشود هو غاية الغايات، والأمل بعد كل ألم، وحلم المستيقظ والنائم على السواء؟ فهل يا ترى تحقق التقدم والتطور وفق هذا المقياس، وكان موازيا لما شهدته العلوم والتقنيات؟ أم أن الإنسان أنهك ذاته وفقد روحه وكينونته، وأسباب سعادته الداخلية ؟
هي إذن أسئلة ذات بعد فلسفي عميق؛ لكن لها مؤشرات سيكوسوسيولوجية يمكن قياسها أولا، ثم تحليلها ثانيا، وتأويلها أخيرا لنحصل على أجوبة واقعية ملموسة بعيدا عن أشكال التنظير من الأبراج العاجية. ولنا أن نختبر صلابة هذه الأسئلة بمعيار رياضي في الاستدلال؛ فنسلم بداية صحة الطرح الشائع والمروج له بخصوص تقدم وتطور الإنسانية، ولنتساءل: إذا كان المجتمع الإنساني حقق فعلا مراده ومسعاه الكبير، فاستطاع أفراده - أو لنقل جلهم – الوصول إلى معاني السعادة فأحسوا بالراحة والطمأنينة الداخلية والاستقرار والأمن الروحي، من خلال قدرتهم على الإجابة عن مختلف الأسئلة الأنطولوجية الكبرى، من قبيل: من نحن؟ من أين جئنا؟ لمذا نحن في هذا السياق المكاني والزماني بالذات؟ ومن يسير هذا الكون؟ وما هو مصيرنا؟
إذن ونحن نسلم بهذا الطرح مؤقتا، فكيف نفسر كثرة الأمراض النفسية المعقدة التي لم تعرف من قبل؟ لعل من أخطرها أمراض الفصام و العصاب والهستيريا و الاكتئاب... وبأي صيغة نأول الارتفاع المهول لنسب الانتحار في مختلف دول العالم؟ وهل من ترجمة صحيحة للانتشار الخطير لأمراض عضوية وفيروسات يذهب ضحيتها آلاف البشر؟ وما المبررات المنطقية لما نشهده من أنواع مختلفة من الجرائم، وأشكال الاستغلال، وأنماط الاستيلاب؟ بل وبعد تحقق التقدم الإنساني المزعوم، فما هو الداعي للحروب ومظاهر الاستعمار التي يذهب ضحيتها ملايين الأبرياء منهم الأطفال والنساء؟ ومن جهة أخرى، كيف نفسر مختلف المشاكل الاجتماعية العويصة التي أتلفت حسابات السوسيولوجيين لعل أبرزها تلك المرتبطة بالأسرة؟ حيث ازدياد العزوف عن الزواج، وفي المقابل تم شرعنة أنواع من الزواج تعتبر مخلة بطبيعة الإنسان كزواج المثليين، والأسرة الأحادية... وإن تحققت الأسرة بشكل طبيعي نسقط في حالات كثيرة من أشكال التفكك الأسري الذي يسبب في ازدياد نسب أطفال الشوارع، والدعارة، والمخدرات...
ولنا أن نرجع لمسألة تطور العلوم والتقنيات، لكن هذه المرة من زاوية أخرى، في علاقتها بمبدأ تحقيق السعادة والرخاء الإنساني، فنتساءل: بمذا نفسر صنع صواريخ وقنابل ذرية ونوية قادرة على إبادة عدد كبير من البشر في لحظة زمنية قصيرة ( ناكازاكي، هيروشيما، باكيستان، العراق، فلسطين...)؟ وبمذا نؤول سقوط طائرة أو اصطدام طائرتين، أن انحراف قطار، أو انقلاب حافلة فيما أصبح يعرف بحرب الطرقات، حيث يفقد سنويا آلاف البشر للسبب ذاته؟ بل والأخطر من ذلك، ما نرى ونسمع من انفجار مفاعل نووي، أو تلوث الهواء والماء، أو انتشار الفيروسات أو تدهور البيئة عموما؟ كيف نزن كل هذه المخلفات المرعبة بمكيال " سعادة الإنسان "؟
ورغم كل ما ذكرناه، يبقى الواقع أفصح، ولكم أن ترجعوا إلى الإحصائيات حسب التقارير المنشورة تبعا لكل الميادين المذكورة، لتتحسسوا – بلغة الأرقام – جسامة ما وصل إليه المجتمع الإنساني من حالات مخيفة جدا، تدفعك لتردد عنوان المقال متسائلا: هل الانسانية فعلا في تقدم أم أن التدهور هو سيد الموقف حقا؟
وفي الختام، ستلاحظون أننا لم نضع لسؤالنا المركزي جوابا محددا، إنما اكتفينا بطرح أسئلة مختلفة لا تخرج عن صميم الموضوع، والغرض هو استفزاز عقولكم بعد تيقننا أن كل سؤال يحمل في طياته إجابات مفترضة وأنساق مضمرة، لكم القدرة على استخراجها كل حسب سعة فكره، وعمق انشغالاته. أما البصمة الأخيرة فسنجعلها من نصيب عالم المستقبليات " المهدي المنجرة "، لنتساءل - بإلحاح شديد- على منوال انتاجاته الفكرية فنقول: ألسنا حقا في السياق التاريخي المناسب الذي يستلزم منا استيعاب درس "قيمة القيم"؟ أوليست الفرصة مواتية لنفسح الطريق أمام المقاربة الأخلاقية في مختلف الميادين والمجالات؟ إلى متى سنغض الطرف عن استبداد المادة والتقنية على حساب القلب والروح الإنسانية؟ وإجمالا، ألم يحن الوقت ليسترجع الإنسان كينونته المفقودة، وينتصر لأنسانيته؟








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. انتخابات رئاسية في تشاد بعد 3 سنوات من استيلاء الجيش على الس


.. الرئيس الصيني في زيارة دولة إلى فرنسا والملف الأوكراني والتج




.. بلحظات.. إعصار يمحو مبنى شركة في نبراسكا


.. هل بات اجتياح مدينة رفح قريبا؟




.. قوات الاحتلال تقتحم مخيم طولكرم بعدد من الآليات العسكرية