الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الرقصات الاحتفالية بمنطقة الريف شمال المغرب:رؤية سوسيوأنثروبولوجية

محمد قروق كركيش

2014 / 4 / 17
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


” اَشْرٍينا نَعجَة شَارفَة ذْبْحْنَاهَا وْصْنَعْنا مَن جَلْدها بَنْدٍير… وْشَطّحنا العَالم “.
محمد العيناوي

تقديــــــم عام :
يعتبر الفن أي فن مقوم من مقومات الحياة الإنسانية ، لذلك فإن الظروف العامة التي يعيشها هذا الإنسان ، تجعله يعبر بمجموعة من الحركات والإشارات والأقوال ، قصد تفريغ اليومي و الترفيه عن الذات ، وكذلك التعبير المتميز لكافة المعاناة وأشكال الفرح بمجموع تنويعاتها ، ولما كانت طبيعة المجتمع هي الحنين للسلام والحرية والخروج من القهر الإجتماعي ، كان لابد للأفراد من أن يبتكروا طرقا جذابة في التعبير عن هذا الفن ، لذلك نجد كل مجتمع من مجتمعات المعمورة يزخر بكثير من الدلالات الإبداعية والفنية التي تدخل في إطار الرقصات الشعبية ، ويعتبر المغرب بهذا الصدد بلدا يحفل بكثير من الأنماط الاحتفالية على اختلاف مكوناته و روافده المتعددة ، العربية والأمازيغية والحسانية واليهودية المغربية ، لذلك نجد تنوعا صارخا يجمع ما بين الأصـــــالة و المعاصرة ، وسوف نركز في هذه الورقة على الرافد الأمازيغي الريفي كمكون أساسي في بنية المجتمع المغربي .
ونجد الثقافة الأمازيغية الريفية بهذا الصدد من أغنى الثقافات ثراءا وتنوعا في الجانب الإبداعي الفني ، بحيث نجد أن الإنسان الريفي الأمازيغي بشمال وشرق المغرب قد ابتكر وطور كثيرا من فنونه الدلالية والرمزية للتعبير عن نكهة الحياة ، مرها وحلوها، ومن بين أبرز ما نجده في فنون الثقافة الريفية الأمازيغية، فن إمذيازن و الركادة وبعض الفنون الاحتفالية التي ترتبط بالرقص والتي تحمل طابع الخصوصية ؛ وهي كثيرة ومتنوعة للغاية، حيث يمتزج الرقص بالغناء والإيقاع ،وتشكل الأغاني الشعبية شكلا من أشكال التعبير الفني في أوعية إيقاعية متجانسة تضمن لها إمكانية التداول والانتشار، كما تشكل هذه الرقصات وسيلة من وسائل التعبير عن الذات والجماعة والتفاعل مع الطبيعة والناس والأحداث التاريخية ، لذلك تقدم الأغاني والرقصات الشعبية كافة الأغراض الموحية بالأفراح والأقراح، فبالإضافة إلى التسلية و المتعة ، تطرح الرقصات الشعبية كافة أنواع الطموحات وأشكال المعاناة التي يشكو منها المجتمع . وتعد فنون الرقص الريفي بالمغرب من بين الفنون الشعبية الرائعة التي تمرر لنا معاني ودلالات لا ينبغي أن نغفلها، لأنها في النهاية تستبطن مجموعة من المقاصد التي تطورت عبر مرور التاريخ و تغير المجتمع ، يعبر عنها في العادة بالغناء والرقص والإيقاع المرتبطين بنكهة المجتمع وبرمزيته المقدسة، لذلك فاستخلاص الدلالات المتنوعة لهذا الفن يحتم علينا الغوص في دراستها دراسة أكاديمية ترقى إلى المستوى المطلوب، وقبل أن نبدأ بتشريح معظم الرقصات التي تميز الجانب الشمالي وللأمازيغ نطرح مجموعة من الأسئلة توضيحا للمقصد و تنويعا للمعنى من قبيل :
• كيف يمكن أن نعرف الرقص الشعبي ؟
• وما هي الأنواع الرئيسية للرقص الريفي بشمال المغرب ؟
• وهل يرتبط بالغناء كخاصية تميزه ، سيما إذا علمنا أن الرقص الأمازيغي الريفي يمتزج بشكل وثيق بالغناء والإيقاع ؟
• وما هي مميزات هذا الرقص ودلالاته الرمزية ؟

المحور الأول : الإطار المفاهيمي
إن مسألة الرجوع إلى المفاهيم وتوضيحها واكتشاف أنساقها وامتداداتها كفيل بوضع الباحث أمام صورة واضحة بخصوص البحث المراد إنجازه ، فهي تعد حاملة للتمثلات والتصورات المصاغة قبلا والمِؤطرة بدرجة أولى لمجال البحث الذي يحتضن مفاهيم تقنية وأكثر تداولية، إن طبيعة أي بحث يتصف بالعلمية ترافقه مفاهيم إجرائية حمالة للأفكار وتساعد على توسيع مجال البنية الحجاجية لتكون أكثر فاعلية، وللوقوف على الأبعاد والأشكال العامة للرقص الأمازيغي الريفي ينبغي معه وضع ترسيمة مفاهيمية تشمل نطاق هذا الرقص الشعبي، وقد قدم مجموعة من الباحثين والمهتمين مقالات مهمة ودراسات، رغم أنها قليلة، تبقى مهمة في هذا المجال؛ ويؤكدون على خصوصية الرقص الأمازيغي في مختلف مناطق المغرب، ولن نستبق الأمور في ذكر خصوصية الرقص، فيكفي أن نصرح منذ البداية أنه يرتبط أشد الارتباط بالموسيقى والإيقاع والشعر والغناء ؛ إذ لا يمكن أن تخلو رقصة معينة من هذه المكونات لأنها منبع الإبداع الأمازيغي ، لذلك ينبغي التركيز على توضيح مجموعة من المفاهيم المتاخمة لحدود الرقص الشعبي مثل الأغنية الشعبية، الموسيقى الشعبية، هذه المفاهيم هي ضرورة فرضتها طبيعة الموضوع فعندما يحضر الرقص تحضر الموسيقى والأغاني ، إنه الرقص كبناء فلكلوري معقد يعبر عن صيرورة اجتماعية - ثقافية للمجتمع الأمازيغي الريفي بشمال المغرب .
1- مـفهوم الـــــأغنية الشعبية :
قبل أن نبدأ بتعريف الرقص الشعبي، كما قلنا سابقا، لابد لنا من تعريف الأغنية الشعبية على اعتبار أن هذه الأخيرة ترتبط بشكل وثيق بالرقص، فلا يمكن أن نجد رقصة معية دون غناء أو شعر مغنى من طرف المنشد أو المغني ، فالأغنية الشعبية مثلها مثل الرقص ترتبط أشد الارتباط بالبيئة المجتمعية التي تنتجها من جهة، كما أنها من جهة ثانية "شكل من أشكال التعبير عن المآرب والآلام والآمال، قوامها اللفظ العامي المتداول بين الناس، وقد أفرغ في أوعية إيقاعية متجانسة تمتلك القدرة على إخراجه -اللفظ- من محدودية امتداده وتحركه، وتنفث فيه بالمقابل روح التداول والإشعاع خارج محيطه الضيق" ، فهي بنية تعبيرية تخضع لمقومات الإبداع الشعبي النابع مما تصوغه الحياة الاجتماعية من تفاعلات بين الأفراد في شكل قوالب إيحائية أحيانا وترميزية في أحايين أخرى، إنها بتعبير ’’جورج هرتسوج’’ " الأغنية الشائعة أو الذائعة في المجتمع الشعبي، وأنها تشمل شعر وموسيقى الجماعات الريفية التي تتناقل آدابها عن طريق الرواية الشعبية دونما حاجة إلى تدوين أو طباعة " ، فالأغنية الشعبية على هذا القياس مصدرها الشعب إبداعا وممارسة، فهو مؤلفها وملحنها ولا ترتبط بمبدع معين، كما تتناقلها الذاكرة الشعبية ضمن تلاقح بين الأجيال شفهيا، وهي تغنى بشكل جماعي أو انفرادي، وذلك لغرض ترويحي أو لأنها تختص في لحظة معينة بوظيفة اجتماعية معينة، أو طقوس أو مناسبات محددة، ويشير ’’هانز موزر’’ إلى أن " المجتمع الشعبي يقوم بتعديل التعابير التي يبدعها الأفراد، وإخضاعها لوجدانه وعقله الجمعي، كي تلائم التعبير عن حاجاته المتعددة، ومن ثم يصف الأغنية الشعبية بأنها " الأغنية التي قام الشعب بتعديلها وفق رغبته..." ، إنها بتعبير آخر إعادة إنتاج جمعي لإنتاج فردي تحيل على آلام وآمال الجماعة، وبتصنيف ممنهج يمكن القول أنها:
- تحمل في طياتها طابع الشعب معبرة عن عاداته وتقاليده وأخلاقياته، وهي في نفس الآن تتأثر بالمراحل التاريخية والسياسية وغيرها.
- مجهولة المؤلف إلا أن هذا لا يمنع أن يكون لها مؤلف ولو كان غير معروف.
- إبداع يتميز بصفة الجماعية، بمعنى آخر أن أي شخص يستطيع أن يشترك في أداء الأغنية، وهذا غير متاح بالنسبة للأساليب الغنائية الأرقى.
- تتميز بالشيوع والانتشار.
أما الشق الثاني من هذا المركب الإضافي، " فيفيد التعدد والتباين في نطاق الوحدة الشاملة مما يعكس مدى الفعالية والحيوية والتمثيلية التي يتميز بها، والتي يفرضها منطق الأشياء وطبائعها كشرط من شروط الحياة الاجتماعية " ، فالأصل اللغوي للفظة "شعبية" "يفيد التعدد داخل الوحدة كما يفيد الاختلاف داخل الائتلاف. وهذه التقابلية في الدلالة اقتضاها منطق الحياة المتشعبة المناحي على نحو ما اقتضاه قانون الكون الذي ليس سوى تقابل(الخير/الشر، النور/الظلام...) فتعدد الشعوب والقبائل فرضته المصلحة (الدم والنسب، واللغة، والدين) وهو تعدد مبني على التوحد فما اختلفت قبيلة مع أخرى إلا لأنها توحدت فيما بينها " .
2- مفهوم الموسيقى الشعبية :
تعتبر الموسيقى من أهم العناصر التي تصاحب الرقص كيف ما كان نوعه، إذ لا يمكن أن نجد رقصة معينة تخلو من موسيقى ايقاعة، فالموسيقى الشعبية تختلف عن الموسيقى المثقفة أو العالمة في أن هذه الأخيرة يتحكم في تأليفها وأدائها القواعد العلمية، فهي منظمة على مستوى إيقاعها وبناءها الفني، أما الموسيقى الشعبية " فتتميز كعناصر الفولكلور ببساطة مكوناتها، فهي موسيقى (ميلودية) لحنية سهلة الأداء، كما تتميز بالانتقال السماعي، وليس على النوتة الموسيقية المكتوبة، مما يساعد على الارتجال، ويؤدي إلى التنوع والابتكار والتجريد " .
وهذا لا يعني البتة أن الموسيقى الشعبية خالية من القواعد، بل أنها تمتاز بخصوصياتها المعقدة التي تخضع للحظة الرقص ، وبإمكاننا القول أن الرقص بالريف تحكمه أنواع مختلفة من الموسيقى الإيقاعية بشكل عفوي " الأدب والفن الأمازيغي كله فطري ، يأتي عفو الطبيعة والفطرة في ذات المنتج ، ومثل الأمازيغي بطبيعته وتكوينه الفطري يميل إلى السذاجة، ويحب البساطة، يكره الغلو والمظهرية ويمقت التزويق والخداع والنفاق(...) على مثل ذلك جاء إنتاجه الفني " لذلك حاكت الموسيقى الريفية الطبيعة في بساطتها وإبداعها وأخذت منها مكوناتها ورونقها العام التي تنبني عليه، ومن تم كانت الثقافة الأمازيغية دائما قريبة من البساطة والطبيعة ، كما تعتمد الموسيقى الشعبية على آلات بسيطة التركيب، بحيث تتم صناعتها بطريقة يدوية واعتمادا على مواد محلية.
3- مفهوم الرقص الشعبي :
يستخدم هذا المصطلح لوصف ما يبدعه الناس من أشكال الرقص المتعارف عليها بناء على طبيعة المجتمع ومراعاة للموسيقى الشعبية السائدة متناغمة معها ومبنية على إيقاعاتها، " والرقصات الشعبية هي نتاج الحياة نفسها تستقى من نشاطات الناس لتعكس أعمالهم التي يقومون بها مثل الزراعة، والحرب، والمواقف الرومانسية، وكذلك أعيادهم واحتفالاتهم وطقوسهم التي يمارسونها، وعاداتهم، ومعتقداتهم، وأفكارهم" ، فالرقص بهذه الصورة يمثل مرآة تعكس تاريخ الشعب والأحوال الطبيعية التي تعيش فيها .
كما أن الإنسان الأول استخدم الرقص للتعبير عن عواطفه على اعتبارها من اللغات الأولى التي عرفها إلى جانب الصوت والدراما ليشكل أساس وانطلاق باقي الفنون من بعدها. والرقص يجمع بين الرياضة والفن بحركات متناسقة تختلف في شكلها وإيقاعها باختلاف وقت ومكان ظهورها لارتباطها بالعادات والتقاليد المجتمعية، وهذا الفيلسوف الإنجليزي’’هفلوك’’يختصر الحديث عن فن الرقص كفن راق بقوله:" إذا كنا لا مبالين في نظرتنا إلى فن الرقص فإننا لاشك فاشلون ليس في تفهم الظاهرة السامية في الحياة المادية فحسب،بل في تفهم الرمز السامي للحياة الروحية أيضا" ، ولابد أن هذا القول يعكس القيمة الحقيقية للرقص كفن وكتعبير عن مختلف مقومات الحياة الإنسانية .
ويصاحب هذا الرقص الشعبي الموسيقى والغناء الشعبي، وكل مجتمع هو بالضرورة خاضع للتغير على اختلاف مستوياته إذ يطال كل الأنساق الاجتماعية والثقافة من منظور شمولي، وبالتالي فهذا الرقص يتطور بتطور الموسيقى، والموسيقى تتطور بتطور الآلة وهكذا، لذلك ليست هناك أي ممارسة إنسانية جامدة أو متحجرة بل إنها متماهية مع صيغ الحياة المختلفة.
إن هذا الإجراء المفاهيمي الذي تم التركيز فيه على ثلاث مصطلحات مركبة (الأغنية الشعبية، الموسيقى الشعبية والرقص الشعبي)، يشكل بنية تحتية لتناسق الروابط العامة التي تجمعها بعضها ببعض ، فمسألة دراسة الرقصات بالريف في المغرب تحتاج بدرجة أولى قطبا المقارنة بين هذه المفاهيم ، والتي تعبر عن تداخل قائم لابد من تفكيكه وفي نفس الآن ينبغي تحليل عناصر كل قطب على حدة لتتوضح فيما بعد أوجه التشابه والاختلاف كي يسهل معه فعل المقارنة ، كان هذا إذن مسوغنا العلمي في ذكر كل هذه المفاهيم التي لابد من ذكرها في النهاية .

المحور الثاني : منطقة الريف الإنسان والمجال
1- الـإنسان الريفي ونمط الحياة :
إن مناطق الريف بشمال وشرق المغرب لها خصوصيات متعددة على رأسها العامل المجالي الجغرافي من جهة، ثم العامل اللهجي اللغوي من جهة ثانية، ضف إلى ذلك خصوصيات العيش ونمط الحياة التي تعبر عن هوية الإنسان الذي يتواجد بهذه المنطقة من المغرب العميق، وتعتبر منطقة الريف بهذا الصدد، جهة مغربية لها من الخصوصيات الثقافية، والتاريخية، والجغرافية، والاقتصادية، والبشرية، ما يؤهلها ويرشحها لتصبح قطبا فاعلا، فهذه المنطقة رغم وعورة تضاريسها ، أثارت اهتمام وأطماع العديد من الشعوب والدول، بالنظر إلى موقعها الاستراتيجي، لقد قامت حكومات وجيوش هذه الدول والشعوب بمحاولات – خلال محطات تاريخية تمتد من التاريخ القديم إلى التاريخ الحديث والمعاصر – بخطوات حثيثة للسيطرة على المنطقة والنفاذ عبرها إلى داخل البلاد الأم، هذه المحاولات استندت في أغلبها الأعم على القوة ، وعلى السلم في بعض الفترات .
ومما لا شك فيه، أن المراجعة التاريخية للماضي البعيد والقريب لهذه المنطقة، تكشف لنا عن حدوث تفاعل حضاري بين العناصر الوافدة والعناصر المستقرة، هذا التفاعل والتداخل الحضاري ترك بصماته الواضحة على الحياة الاجتماعية والثقافية لساكنة الريف، مثلما أن المنطقة انصهرت فيها فسيفساء بشرية ولغوية وثقافية بما حملته من عناصر السلب والإيجاب، يمكن للباحث وللدارس الميداني تلمسها في أنماط السلوك، ووسائل العيش، وفي كل مظاهر التراث الشعبي للمنطقة.
إن كل هذه التنوعات حكمت على الإنسان الريفي بالبساطة والتنوع في نمط الحياة، إذ يحتل الإنسان بقوته الفكرية الثقافية المقام الأول من الاهتمام بالغير والتفاعل به والرغبة في التفاهم والتواجد المشترك والتعايش المتداخل والمتعانق على الحياة، وعلى استثمار الحياة والاستمتاع بما فيها من نعيم وقوة وجمال، لأن " الإنسان..فكر وروح، إحساس ووجدان ووعي، و إدراك..جسم مادي متحرك، وعالم من المشاعر ترافق هذا الجسم وتصدر عنه.. وكل من هذه مضارب للحركة والتفاعل بالأخر، و مطالب لإشباع الحاجات وتوفير مجالات للحركة والعمل والإنتاج " .
2- جغرافية المجال الريفي :
يتبين من خلال بعض المصادر والمراجع التاريخية، أن مصطلح الريف برز في القرون الأولى من الحقبة الوسيطية ، وخاصة في بدايات القرن الثامن للميلاد، استنادا إلى ما ذكره مؤلف مجهول، عندما أشار قائلا: "و في سنة 139 هـ / 718م ، اشتد الجوع فخرج أهل الأندلس إلى طنجة و أصيلا و ريف الأمازيغ ممتارين و مرتحلين " ، أما عند ابن خلدون، فيتحدد مفهوم الريف جغرافيا في قوله :" عبارة عن سلسلة جبلية متوسطية تقع في أقصى الشمال، فهي تمتد من طنجة غربا إلى مصب نهر ملوية شرقا " ؛ إذن وفق هذا التحديد الجغرافي، فإن مجال الريف يجمع بين منطقة الريف الشرقي : المكونة من جبال كبدانة و قلعية وبني سعيد و بني أولشك و بني توزين و تمسمان ؛ ثم الريف الأوسط: المكون من جبال بني ورياغل والقبائل المجاورة لها، وجبال صنهاجة السراير؛ و أخيرا، الريف الغربي : المكون من منطقة جبالة و غمارة . وفي وصف إفريقيا للحسن بن محمد الوزان الفاسي ، المعروف بليون الإفريقي ، فإن التحديد الجغرافي للريف التاريخي : "يبتدئ من تخوم مضيق أعمدة هرقل ، و يمتد شرقا إلى نهر النكور، و ينتهي شمالا عند البحر الأبيض المتوسط، ليمتد جنوبا حتى الجبال المحاذية لنهر ورغة الواقعة بمنطقة فاس" و قد حدد بعد ذلك حدود إقليم كرت من نهر النكور غربا إلى نهر ملوية شرقا .
لكن مع بداية القرن أصبح الريف يجمع بين الريف الشرقي ’’ كرت’’ و الريف الأوسط، مما زاد من تعقيد في تحديد دقيق للريف ، فنجد ’’ أوجست مولييراس ’’ الذي يحدد الريف كما يلي: " الريف يمتد على شواطئ المتوسط ، من إقليم وهران إلى القبيلة البحرية لغمارة، غير بعيد عن تطاوين﴿-;-تطوان﴾-;- " و قد فصل بين إقليم الريف و إقليم جبالة ، وفي نفس الاتجاه تنحو المؤرخة الإسبانية ’’ ماريا روسا دي مادارياغا ’’ في تحديد جغرافية الريف، حيث تعرفه كالآتي: " يطلق مصطلح الريف على كل المنطقة الشمالية للمغرب الممتد على طول المتوسط، من طنجة إلى ملوية، نحو الداخل إلى حدود واد ورغة و شمال تازة و ربما قد يعود ذلك إلى أن عبارة ـ ريف ـ لا تعني قبيلة، و إنما جهة جغرافية". ووفقا لهذه التحديدات نستخلص ثلاث أبعاد رئيسية لتحديد منطقة الريف :
المدلول الجغرافي : ونعني به السلسلة الجبلية الممتدة من طنجة إلى مصب نهر ملوية، كما يقصد به جزء من ساحل المتوسط .
المدلول البشري : رغم انه لازال يكتنفه الغموض، فإنه وفقا للتحديدات قد يعني العناصر الصنهاجية والغمارية والزناتية التي شكلت النواة الأصلية لسكان الريف .
المدلول الإداري : وهو متغير ويخضع للتبدل مع تغير الحقب والمراحل والأسر الحاكمة، فكانت حدود الريف تعرف مدا وجزرا .

المحور الثالث : أنواع الرقصات الريفية بشمال المغرب
إن الغناء والرقص ومختلف الفنون ملتصقة بحياة الأمازيغ بصفة عامة وحركاتهم ومناشطهم الحياتية كلها، مما جعلها في نفس الوقت مشحونة بالدلالة قوية المعنى عميقة المضمون، وتعبر عن مضاربها المختلفة المادية والروحية والعاطفية تعبيرا أمينا،ورفع قدرتها على الأداء والتبليغ إلى مستوى الأمانة والدقة والأصالة، كل هذا أضفى عليها طابعها الشعبي ومنحها الفطرية الجميلة وقوتها المؤثرة الساحرة .
ولما ارتبط الرقص بالموسيقى في الريف والشرق المغربي، كان لهذه الموسيقى كبير الأثر على أنماط الرقص بالمنطقة ، فنجد الفنان الأمازيغي اقترن إيقاعيا وعروضيا ونغميا بشعر " لالابويا أو ازران بويا " ، إن من أهم الخصائص التي تميز بها الرقص كما سلف الذكر، الموسيقى والغناء، لذلك تعددت فنون الرقص بحسب المناسبات الاحتفالية والموسمية التي تتعلق بالقبائل .
1- رقصة " إمذيازن " :
فإذا كانت رقصات أحواش و أحيدوس قد ظهرت بالأطلس الكبير والمتوسط، فإن رقصة ”إمذيازان” ظهرت بمنطقة الريف انسجاما مع المقاومة الريفية وشعر النضال والاستماتة، ويسمى الذي يمارس هذا النوع من الرقص ”أمذياز” (الفنان)، بينما المرأة تسمى “ثامذيازت”(الفنانة)، ويعني هذا المصطلح أن أمذياز فنان راقص ومبدع شاعر يتميز بخفة الحركة وحسن اللسان ، ومفردها إمذياز وهم جماعة من العازفين الذين كانوا يجوبون القرى والمداشر والأحياء باحثين عن مناسبات الفرح ليقدموا رقصاتهم وأغانيهم قصد الترويح عن النفس والترفيه، وقد ارتبطت صورة ” أمذياز” في كثير من الأحيان بالرجل الخامل والفنان المتكسب المتملق، كما تقترن صورة تامذيازت بالميوعة والخلاعة والدناءة الأخلاقية في مختلف القبائل الريفية، حيث ارتبطت بالكسب؛ لأنها تستثير عواطف الحضور، ولاسيما في الحفلات والأعراس والمناسبات الوطنية والولائم ومما زاد الطين بلة، أن تراجعت مكانة إمذيازان كثيرا في منطقة الريف في السنوات الأخيرة، وهمش فنهم تهميشا كبيرا، واستبدل بالفنون الغنائية العربية و الأمازيغية المعاصرة.
وتنتشر ظاهرة “ إمذيازان ” في كثير من قبائل ومدن الريف كتمسمان، وبني توزين، وقبائل قلعية، وبني ورياغل وترتبط رقصة ” إمذيازان” بقصائد ” لالابويا” وأشعار الحي والهوى والعشق والمجون، كما تقتصر هذه الرقصة على إمذيازان وثمذيازين والإناث الشابات . ويعرف الرقص في منطقة الريف بمفهومه العام حسب الباحث الأمريكي ’’داﭭ-;-يد مونتگمري هارت’’ : " نوعين أساسيين من الحركة ومرحلتين متميزتين هما: أيارا لا بويا التي تتحرك خلالها الفتيات بشكل دائري في اتجاه عقارب الساعة أو عكس هذا الاتجاه، و أشظيح ، فالأول يتميز بثني خفيف للركبتين يكاد لا يبدو للعيان، أما في المرحلة الثانية فإن هذه الدائرة تنفتح تدريجيا لتصبح عبارة عن صف متعرج من الفتيات اللواتي يحركن أجسامهن بشكل جماعي متناسق على مستوى الخصر والصدر، مع تحريك شديد وسريع للجزء العلوي من الجسم خلال فترات محددة ووقفات منتظمة، وتحتفظ فتاتان فقط بدفيهما خلال هذه المرحلة، في حين تضعها الأخريات جانبا، ويأخذن بدلها مناديل الرأس التي يربطنها حول خصورهن، حيث تسمح لهن بضبط إيقاع الحركة من جهة، أما أشظيح فيتميز بسرعة إيقاع مضاعفة مقارنة مع أيارا لابويا ، وقد يرافقه ضرب على الدفوف من طرف شاب أو اثنين من المتفرجين أو من طرف إمذيازن، أي الموسيقيين المحترفين، وما يبرز خلال هذه المرحلة هو موسيقى الضرب على الدفوف وحركات الجسم المتناسقة في غياب تام للغناء " .
ويكون هذا الرقص جماعيا بحيث يصعب على أي فتاة أن تقوم بحركة مغايرة للحركة الجماعية، " غير أنه قد يحدث أن تنسل إحدى الراقصات، وهو أمر نادر على أية حال، لتبتعد عن المجموعة ولتظهر مهارتها الشخصية، لكن سرعان ما تفرض المجموعة نفسها على الثائرة، كما يقول ’’بلانكو’’، وتلغي فردانيتها التي تعمدت إبرازها خلال تلك الفترة القصيرة " .
والراقصين في إمذيازن يمتازون بلباس تقليدي وأهمها الجلباب الأبيض الذي كان يلبس فوق أقمصة بيضاء، وتحته يرتدي سروالا ضيقا في الأسفل يطلق عليه سروال ( قندريسي )، أما الحذاء فيكون من نوع حداء الكولف التقليدي في حالة تعذر هذا النوع يلبس إمذيازن حداء عادي، ويضع عمامة في رأسه تسمى الرزة وهي عصابة تحبك دوائرها الكثيرة فوق الرأس، وغالبا ما يعلق على كثفه محفظة صغيرة تسمى الزعبولة، وهي بالإضافة إلى وظيفة التزيين تلعب وظيفة حركية أثناء الرقص خصوصا وأنها تقع فوق جانب الخصر .
ويستعمل ” إمذيازان” الدف والغيطة والمزمار الزمار ، والناي ثامجا في تقديم رقصاتهم الإيقاعية التي تؤديها جماعة من الراقصين والراقصات في شكل تناوبي، فينقسمون إلى فرقتين، فيتم تشكيل عدة أشكال هندسية مدا وجزرا عن طريق التقابل والتماثل والاستواء والدوران، مع ضرب الأرض ضربات معدودة انسجاما مع نغمات الأشعار وطلقات البارود، وغالبا ما يقود هؤلاء الراقصين والراقصات شيخ ” مايسترو” له تجربة ودربة كبيرة في مجال الرقص والغناء كالشيخ موسى بالنسبة لجماعة ” إمذيازن” القاطنين بمدينة الناظور.
2- رقصة الركادة :
الركادة رقصة حربية تنتمي إلى الريف ( بني يزناسن ) والمنطقة الشرقية برمتها، وهي حسب بعض الباحثين رقصة خالصة لها مميزاتها الخاصة، كما يسير البعض إلى القول أنها رقصة عامة تضم مجموعة من أشكال الرقص؛ ويطلق على نوع منه الاسم الأمازيغي إمذيازن – التي سلف ذكرها - ، وبصفة عامة فإن رقصة الركادة تنتمي إلى أصلها الشرقي مع الحدود الجزائرية لتنتقل فيما بعض إلى الريف الشمالي عن طريق الحروب والمناوشات الحربية ضد المستعمر، ويطلق على ممارسي هذا النوع من الرقص العرفة وهم في الأصل عائلة عريقة من الشيوخ في الريف قاطبة ، ورقص العرفة رمز للمحاربين ، وزمنها يكون أثناء التغلب على العدو؛ فهي تجسد النصر، ويكون على يد الراقصين في الركادة بندقيات التي قد تعوض بالعصي عندما لا تتوفر البنادق، كما يضربون الأرض بأرجلهم كعلامة على الانتماء للأرض ويحركون أكتافهم وفق عمليات حسابية وحركية مضبوطة إيقاعيا بمساعدة المزمار المزين بقرون الثور، والنوع الأخر يسمى الكصبة وقد أشار إليها ’’ بول بولز ’’ في كتابه " أياديهم الزرقاء " ، ويعتد هذا الرقص على الكلام و المجون مرافقا بالغيطة و الطامجا ، و رقص الركادة ضرب من ضروب الموسيقى العريقة وأقدمها يبدأ بلازمة " كاع كاع أزبيدة" وهي أغنية حسب البعض تتغنى بأسطورة قديمة جدا – أسطورة الكاهنة - .
هكذا يتم الرقص المرافق للغناء الشجي والطروب في شكل زجل ينظم على إيقاعات الركادة، حيث كان العمال ذكورا وإناثا في المزارع والحقول ومكان العمل يرقصن ويتغنون بالخصوبة والأفراح، وتتميز الركادة بالعفة والوقار والحشمة في الريف الشمالي، ولا يمكن لأي واحد من الراقصين – سواء ذكور أو إناثا – أن يمتهن هذا الرقص لأنه يكون مرتجلا وعفويا، ولا يسمح في قبائل الريف بامتهان الغناء أو الرقص لأن ذلك ضرب من الفساد .
3- رقصات المواسم والزواج ( الأهازيج ) :
غالبا ما تجتمع العائلات الريفية مرتين أو أكثر في السنة على إثر إقامة حفلات الزواج أو العقيقة أو في المواسم الدينية، أو غيرها من المناسبات التي تبرز فيها الأهازيج بشكل أساسي، ويعتبر هذا النوع لحد الآن صورة فلكلورية ريفية بالدرجة الأولى حيث تجتمع النساء والرجال مكونين صفين متقابلين، يقف الصف الأول في وسط دائرة مرسومة اعتباطيا ، في حين يتراجع الثاني إلى الوراء ببطئ على إيقاعات " أدجون " وصولا إلى أقصى الوراء ثم يعود إلى وضعه السابق بالوسط على إيقاعات مغايرة للأولى، فينحني الجميع على ركبتهم اليمنى ليأخذ المبادرة الصف الأول معيدا نفس العملية على إيقاع أبيات شعرية تقصيدث ، كل بيت شعري يتكون من أربعة أشطر، يردد كل صف نصف البيت ( شطران ) فيما يردد الأخر النصف المتبقي بالتناوب، ويبرز هذا النوع من الرقص في المواسم الأولى؛ خاصة موسم ’’ سيدي شعيب بو مفتاح ’’ بقلب الريف في قبيلة تمسمان ، حيث تستعمل المجموعات آلة واحدة " أدجون " .
حتى أن ليالي العرس بالمنطقة الريفية تكون في باطنها محملة بزخارف متنوعة من الرقصات التي تعبر عن الهوية الريفية بصفة خاصة، و الأمازيغية بصفة عامة، ففي بيت العريس مثلا؛ ويسمى هذا اليوم بـــ " أوحني أمزيان "؛ أي الحناء الصغرى، حيث الفتيات من أقارب العريس يقمن بإعداد وليمة و تنظيف المنزل من الداخل والخارج، ويرافق كل هذه الأعمال أهازيج ورقصات غنائية تحمل في مضمونها القيمة الدنية والاجتماعية للزواج، حيث أن رقصات الزواج تظهر بشكل متوالي من طرف نساء القبيلة في موكب العريس حينما يتجه إلى منزل العروس، حيث يكون هذا الموكب مختلط بالعديد من سكان الدواوير المجاورة، ويتميز هذا الرقص ببساطته وسرعته ، وغالبا ما يصاحبه إيقاعات الطبل والغيطة والبندير، في شكل صفوف متوالية متوازية، وهذه الرقصات لها خصوصيات معينة تتعلق بالبعد المحلي الخاص بالقبائل الريفية من جهة، ثم على مستوى الخطاب فتكون عبارة عن أهازيج ومفردات قصيرة جدا تعاد وتكرر بدون رتابة، ثم على مستوى الزي حيث تلبسن النساء المتزوجات الزي الأبيض، ونفس الشيئ بالنسبة للعازبات، إلا أنهن يضعن على رؤسهن ورود تجمع ما بين اللون الأبيض والأحمر في علامة على العزوبة، ويمكن أن نقول أن رقصات الأعراس والزواج تتشابه في مناطق الريف مع بعض الاختلافات البسيطة، هذه الاختلافات تعود إلى البون الشاسع ما بين المدينة والقبيلة .

المحور الرابع : خصوصية الرقص الريفي بالمغرب
الرقص كجنس فني وكنوع متميز بخصائصه الجوهرية والشكلية من المعالم والمؤشرات التي يمكن أن يقوم عليها تصنيف ثقافة أو مجموعة بشرية، وتمكن من التعرف على انتمائها الجغرافي واللغوي والثقافي، من ذلك على وجه المثال أنه بمجرد مشاهدة رقصة إمذيازن أو الركادة ، يتبادر إلى الذهن فضاء تاريفيت أو أمازيغ الشمال حسب الشائع من الـتسميات، وهي في غالبها تعميمية وليست دائما في تطابق تام مع النظريات السـوسيولغوية والسوسيوثقافية في المغرب ، و الجمع في كل هذا أن الرقصات في حد ذاتها واجهة ظاهرية للثقافة المحلية التي تنتمي إليها والتي أنتجتها ونمارسها، وبالتالي يكون العامل الجغرافي من جهة، والعامل اللغوي من جهة ثانية، من بين أهم الخصوصيات التي تميز الــــرقص والغناء الشعبي الأمازيغي، وعلى وجه الخصوص في إمذيازن التي تمتزج فيها الطبيعة بالإنسان .
ترتبط الرقصات الجماعية المعروفة عادة بالرقصات "الشعبية" بمجموعة من العناصر المتنوعة المستمدة من الأدب والثقافة الشفويين،من قبيل الغناء والشعر والمـوسيقى والحركات والطقوس والعادات، وغير ذلك مما يصدر عن الذاكرة الجماعية والتي تدخل في عداد الممارسات الجماعية العريقة في القدم والمتشعبة في عمقها بما تراكم من طقوس ثقافية واجتماعية ، وتقريبا كل الرقصات مرتبطة بطقوس الاحتفال إن عائليا ( الزفاف والإعذار والعقيقة ...) أو دينيا( المولد النبوي ...) أو وطنيا أو اجتماعيا ( المواسم ... ) وكذا بالأنشطة الفلاحية و القروية الفصلية ( الحصاد... ) وهي من تم تعبير عن الفـــــرح والتضامن والمشترك، مما يعني أن الثقافة ممثلة في العادات والتقاليد والأعراف تشكل خصوصية مهمة يتميز بها الفن الأمازيغي بشكل عام، بل أن هذه الثقافة تميز كل البنيات الموجودة في أي مجتمع من المجتمعات .
لذلك فإن الرقص والغناء الأمازيغي يبقى له خصوصياته و مقوماته التي تميزه عن باقي الرقص الغنائي العربي أو الحساني، ولا غرابة حينما يقول فيه روني باصي " ليس ثمة لدى برابرة المغرب من ترفيه يلقى أوج التفوق وأشمله وأهمه غير الرقصات الغنائية أو السهرات الغنائية ، وهي وإن كانت لها بعض الاختلافات من منطقة إلى أخرى، تبقى ميزتها الجوهرية في تماثلها وتوحدها " ، وهذه خاصية من بين خصائصها، أي ان الرقص الغنائي الأمازيغي يتميز بالبعد التضامني الجامعي، إذ لا يمكن أن ينجح إلا في إطار التوحد والتجمع .
وتجسد الرقصات الريفية المتنوعة عمق الحضارة الريفية وثقافتها المتعددة الجوانب التي تقام في تناغم وتكامل على الكلام الموزون والحركة والغناء والرقص باستعمال آلات كثيرة وبسيطة في الصنع مثل "البندير" الذي يصنع من جلد الماعز، كما تدل هذه الرقصات على انصهار الفرد داخل الجماعة وامتثاله لأحكام وأوامر القبيلة أو العشيرة، حيث يجد الأب نفسه مضطرا للتخلي عن سلطة التوجيه والأمر لشـــــخص أخر، وهي مظاهر تكتنفها الرقصات عبر خضوع جميع من يمارسها لأعراف وقوانين نظام القبيلة .

المحور الخامس : الدلالات الرمزية للرقص الريفي بالمغرب
إن الغناء والرقص ومختلف الفنون ملتصقة بحياة الأمازيغ بصفة عامة، وحركاتهم ومناشطهم الحياتية كلها، مما جعلها في نفس الوقت مشحونة الدلالة قوية المعنى عميقة المضمون، وتعبر عن مضاربها المختلفة المادية والروحية والعاطفية تعبيرا أمينا، ورفع قدرتها على الأداء والتبليغ إلى مستوى الأمانة والدقة والأصالة، كل هذا أضفى عليها طابعها الشعبي وميزاتها الفطرية الجميلة وقوتها المؤثرة الساحرة .
فالحركات أو الرقصات بطبعها مشحونة ويعبر عنها بكل الجسم أو بعضه، فنجد الرقص والإيماءات والإيقاع، مسائل كلها حاضرة في الحياة اليومية ومضارب العمل، وفي كل حركات الإنسان وإبداعاته من أجل التسامي وإضفاء المدلول الحركي الفاعل على علائقها ومطامحها وأخيرا من أجل تسجيل حركات النفس ونبضات الوجدان الداخلي وترسيم الشحنات الكهربائية أو الكهرو-عاطفية التي تشحنها الأحداث والمشاهد والمواقف والرؤى في لوحات الإحساس الباطني في أعماق الأعماق، يتم تسجيل كل ذلك في شريط المواقف وردود الأفعال وفي نبضات وحركات ورموز عدية لها من الدلالات الشيئ الكثير والمعنى العميق .
حيث أن كل ما يعبر عنه في إطار الرقص ما هو في الحقيقة إلا عملية لإعادة إنتاج كل ما هو ثقافي واجتماعي داخل القبيلة أو الجماعة؛ من عوائد الحياة و ضرورات العمل وتعبيرات الفرح والحزن والشقاء وغيرها من الدلالات العميقة التي تضمر في غياهب الفن والتي تدل على معاني متعددة منها الهوية الجماعية .
إن مجمل الاحتفالات التي يحتفل بها الأمازيغ بصفة عامة تعود إلى مجموعة من الدلالات والمرجعيات، أولها ما كان يراد به التضحية من أجل الإله والتي كانت تصاحبها مجموعة من الرقصات والتموجات، وإذا علمنا أن الديانات الوثنية كانت مهيمنة منذ القدم، فإننا نجد رمزية العبادة واضحة جدا ، مرجعيات أخرى نجدها في الإرث المشترك بين الأمازيغ والحضارات الأخرى وخصوصا ما فعله الرومان والفينيقيون، وفي بعض النقاط الأخرى إغريقية، إذ أن المشترك والاحتكاك أغنى هذه الثقافة، لذلك فإننا نجد مختلف الرقصات تعبر عن البعد الحربي الذي كانت تتعرض له، وما دامت منذ القدم تدافع عن الأرض فإن رمزية الرقصات كانت حربية بامتياز .
يمكن الكلام كذلك عن الحفلات " التي سميناها موسمية والتي استمرت في تعيين – عند أغلب الأمازيغ – أهم تغيرات السنة ، لقد رأينا ، ليس عن غير حق ، أثار عبادة طبيعية ، يمكن أن نربطها ببقايا طقوس فلاحية ، هكذا تبدو ضاربة في القدم وأنها مورست من دون تدخل، فلا يتم الاحتفال الأساسي هو الذي يهم يناير وهو حاسم بالنسبة للسنة " معنى ذلك أن العبادة الطبيعية تمثلت في محاكاة المسارح الطبيعية للعمل من حقوق ومزارع، إننا نقول في النهاية أن الدلالات الرمزية للرقص تعبر :
• عن الطبيعة والجغرافية المجالية للريف .
• تحاكي الأحداث والتاريخ المحلي .
• تعبر عن مضمون الجماعة والمشترك .
• تتمثل الطقوس والعادات والتقاليد والأعراف الريفية .
• تحاكي الزرع والحقوق والمزارع في تموجاتها .

خلاصة عامة :
إن ما نخلص إليه أن المجتمع الريفي تعرض لكثير من التغيرات، حكمتها ظروف متعددة كان النصيب الأكبر فيها للاستعمار الذي قضى على كثير من معالم ثقافتها، ثم إلى عامل الزمن حيث لم يعد المجتمع الريفي الأمازيغي ذلك المجتمع الذي يضم من الرقصات الإبداعية والفنون الشيئ الكثير، إننا نتساءل عن مجموعة من الموروثات الثقافية التي كانت سائدة، أين حلت ؟ وماذا حصل لها ؟ وكيف حدث أن اندثرت ولم يبقى لها وجود ؟ سيما إذا علمنا أن الحضارة الأمازيغية كانت ثقافة متنوعة لها من الرصيد المعرفي والتاريخي ما يؤهلها لتكون قطب السيطرة .
إن ما نريد قوله أن الرقصات التي قمنا بتبيانها في هذه الورقة لا تختزل كل ما يوجد في هذا المجتمع إلا النزر اليسير مما يوجد به، بل ما هي إلا موروثات سطحية تظل ظاهرة للعيان، ولو جاز لنا أن درسنا الثقافة الريفية في شموليتها لنعتر على كنوز مهمة رغم أنها لم تعد ممارسة – كافتراض – بشكل يومي، و كما سبق أن أشرنا، لقد قضت مجموعة من الوضعيات على هذه الثقافة حتى استنزفت قواها ولم تعد تلك الثقافة الغنية التي فيها من الدلالات والرموز والموروثات الجماعية والفردية ما يجعلها قطب رحى الثقافة المغربية بشكل كلي، وأن اقتصارنا على تلك الرقصات هو وقوف عن المادة الموجودة في المراجع والكتب فقط، وهي صعوبة لا ينجو دارس منها أثناء البحث، ولو جاز أن قمنا ببحث ميداني يعتمد الملاحظة المباشرة والمعايشة الميدانية لخرجنا بمجموعة من الرقصات الأخرى التي تبين أن هذا المجتمع غني بما فيه الكفاية وحامل لكثير من العناصر التي تدل على هويته .

لائحة المصادر والمراجع
أولا : الكتب باللغة العربية
1. أحمد بن خالد الناصري " الاستقصا لأخبار المغرب الأقصى " ، المطبعة البهية المصرية ، الجزء الأول ، الطبعة الثانية 1340 هــ
2. حسين عبد الحميد أحمد رشولان : "الفولكلور والفنون الشعبية من منظور علم الاجتماع"، المكتب الجامعي الحديث ، طبعة 1993.
3. الحسن بن محمد الوزان الفاسي " وصف افريقيا " ، الجزء الأول ، ترجمة محمد حجي محمد الأخضر ، منشورات الجمعية المغربية للتأليف والترجمة والنشر ، دار الغرب الإسلامي ، بيروث ، الطبعة الثانية 1983 .
4. بوخريص فاطمة " أحـــــيدوس " معلمة المغرب ، الجمعية المغربية للتأليف و الترجمة و النشر ، مطابع سلا ، الطبعة الأولى 1989.
5. جميل حمداوي " أضواء على الفن الأمازيغي بالمغرب " ، دار نشر المعرفة – مطبعة النجاح الجديدة الدار البيضاء ، سلسلة المعارف الأدبية ، طبعة 2013 .
6. داﭭ-;-بد مونتگمري هارت " آيت ورياغر" ، الجزء الأول ، ترجمة محمد أونيا وآخران ، نشر جمعية صوت الديمقراطيين المغاربة في هولندا ، الطبعة الأولى 2007م .
7. علال ركوك : "الغناء الشعبي المغربي، أنماط وتجليات"، تقديم: سعيد يقطين، مطبعة وليلي للنشر والتوزيع ، طبعة 2000 .
8. عبد الرحمان بن محمد بن خلدون " مقدمة ابن خلدون " ، تحقيق كارتمير ، المجلد الأول ، طبعة 1858.
9. عبد المالك المومني " الجناح الهيمان بنبع رڴ-;-ادة الوسنان " ، منشورات عكاظ ، طبعة 1996 .
ثانيا : الكتب باللغة الأجنبية
1. Basset , H. « Essai sur la littérature des Berbères , paris , Ibis Press Awal , 1er édition en 1920.
2. Moulieras August : « Le Maroc inconnu : Etude géograpphique et sociologique , paris , 1899 .
ثالثا : الندوات والمجلات والدوريات
1. محمد العنياوي : " جراوة " ، عرض بمناسبة الأيام الثقافية الرڴ-;-ادة ، يوليوز 2006 .
2. المصطفى شادلي : مقال " شذرات من الشعر الشفاهي المغربي : البنية والدلالة " ضمن كتاب " الشعر الشفاهي بالمغرب مقاربات ونصوص " تنسيق المصطفى الشادلي ، مطبعة النجاح الجديدة ، منشورات كلية الآداب و العلوم الإنسانية بالرباط ، سلسلة ندوات ومناظرات رقم 136 ، الطبعة الأولى 2006 ، الدار البيضاء-المغرب .
3. الفرقاني محمد الحبيب : مقال " سيمات... وخصائص، وظواهر عامة للأدب الأمازيغي " ، ضمن كتاب : " تسكلان تمازيغت : مدخل للأدب الأمازيغي " ، منشورات الجمعية المغربية للبحث والتبادل الثقافي ، أعمال الملتقى الأول للأدب الأمازيغي – الدار البيضاء في 17-18 ماي 1991 .
4. الثقافة الشعبية بين المحلي والوطني ، منشورات عكاظ ، أعمال الجامعة الصيفية بآكادير- المغرب ، أعمال الدورة الثالثة من 1 إلى 6 غشت 1988.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الجامعات الأميركية... تظاهرات طلابية دعما لغزة | #غرفة_الأخب


.. الجنوب اللبناني... مخاوف من الانزلاق إلى حرب مفتوحة بين حزب 




.. حرب المسيرات تستعر بين موسكو وكييف | #غرفة_الأخبار


.. جماعة الحوثي تهدد... الولايات المتحدة لن تجد طريقا واحدا آمن




.. نشرة إيجاز بلغة الإشارة - كتائب القسام تنشر فيديو لمحتجزين ي