الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الاساطير الثقافية: (5) أسطورة -زي السمن على العسل-

السيد نصر الدين السيد

2014 / 4 / 18
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


لعل اهم ما يميز اسطورة اليوم هو "موسميتها" فموسم ظهورها هو اثناء او بعد أي توترات طائفية بين مسلمو مصر ومسيحييها. وتقول هذه الأسطورة ان العلاقة بين مسلمو مصر ومسيحييها كانت دوما "سمن على عسل" وان ما يحدث الان ما هو الا شيء طارئ وراءه ايدي خفية او قوى خارجية تسعي لتدمير الامة المصرية. وهكذا تمنعنا هذه الأسطورة من التعرف على الأسباب الحقيقية لهذه التوترات المتكررة ومن ثم تحد من قدرتنا على إيجاد حلول جذرية لها.

واختبار صحة ما جاءت به هذه الأسطورة امر سهل فما عليك الا الرجوع الى مؤرخو مصر الإسلامية وكانوا شهود عيان للكثير مما دار فيها من وقائع وأحداث. ويأتي في مقدمة هؤلاء المؤرخين المقريزي (1364-1442 م) وابن اياس (1448-1523 م). فلقد غطى كتاب الأول "السلوك لمعرفة دول الملوك" وكتاب الثاني "بدائع الزهور في وقائع الدهور" تاريخ الامة المصرية في الفترة ما بين 1181 و1523 م.

ولنبدأ بما قاله المقريزي عقب سحق ثورة البشموريين، الذين كانوا يسكنون شمال الدلتا، ضد الحكم العباسي حيث قاموا بطرد عمال الدولة ورفعوا راية العصيان ورفضوا دفع الجزية. وقد تم القضاء على هذه الثورة عام 832 م بشكل بالغ الوحشية على ايدي الخليفة العباسي المأمون. وقد عقب مؤرخنا على ما حدث قائلا: "ومن حينئذ أذل الله الأقباط في جميع أراضي مصر وخذل شوكتهم فلم يقدر أحد منهم على الخروج ولا القيام على السلطان وغلب المسلمون على القرى فعاد القبط بعد ذلك الى كيد الإسلام وأهله بأعمال المكر وتمكنوا من النكاية بوضع أيديهم في كتاب الخراج" (المقريزى, 1992) ج،1 ص 79-80). كلمات قليلة ولكنها تحكي الكثير عن نظرة نخبة القرن التاسع الميلادي المسلمون لشركائهم في الوطن من المسيحيين. وهي نظرة رافضة لشركاء الوطن متعالية عليه ولا تعترف بما له من حقوق. ولعلنا نغفر للمقريزي وامثاله فقد قالها في عصر حل فيه الدين محل مفهوم الوطن. الا ان هذه النظرة العدائية لم تقتصر على النخب بل شملت عموم المصريين، وترسخت كامنة في ضميرهم الجمعي. انها النظرة التي، وان كانت كامنة يغلفها حلو الكلام، تتعدد اشكال تجليها. فعلي سبيل المثال يقول لنا ابن اياس ان العزيز بالله، ثاني الخلفاء الفاطميين، قد عين في الوزارة شخصا من النصارى يدعى نسطورس، كما عين شخصا من اليهود يدعى منشا في مقام الوزارة في الشام. وبالطبع عد بعض الناس هذه الفعلة من مساوئه فانتهزوا فرصة خروجه في شوارع القاهرة وعمدوا "الى مبخرة من الجريد والبسها ثياب النساء، وزيرها بإزار وشعرية، وجعل في يدها قصة جريدة وكتب فيها: "بالذي اعز النصارى بنسطروس واعز اليهود بمنشاة واذل المسلمين بك، ألا ما رحمتم، وأزلت عنهم هذه المظالم؟" (أياس, 1982) ص 196) فلما قرأها العزيز اشتد غضبه وأمر بشنق الإثنين !.

وفي عهد الحاكم بأمر الله المنصور، الخليفة الفاطمي السادس، الذي حكم مصر في الفترة من 996 م إلى 1021 م (من 385 هـ الى 411 هـ)، حدثت واحدة من أعنف حركات اضطهاد أهل الذمة المصريين. وهنا لا نجد كلمات تصور أحداث هذه الفترة بدقة أكثر من تلك التي استخدمها المقريزي إذ يقول: "وتشدد على النصارى وألزمهم بلبس ثياب الغيار، وشدّ الزنار في أوساطهم ومنعهم من عمل الشعانين وعيد الصليب والتظاهر بما كانت عادتهم فعله في أعيادهم من الاجتماع واللهو، وقبض على جميع ما هو محبس على الكنائس والديارات وأدخله في الديوان، وكتب إلى أعماله كلها بذلك، وأحرق عدّة صلبان كثيرة، ومنع النصارى من شراء العبيد والإماء، وهدم الكنائس التي بخط راشدة ظاهر مدينة مصر، وأخرب كنائس المقس خارج القاهرة، وأباح ما فيها للناس، فانتهبوا منها ما يجل وصفه، وهدم دير القصير وانهب العامة ما فيه، ومنع النصارى من عمل الغطاس على شاطئ النيل بمصر، وأبطل ما كان يُعمل فيه من الاجتماع للهو، وألزم رجال النصارى بتعليق الصلبان الخشب التي زنة كل صليب منها خمسة أرطال في أعناقهم، ومنعهم من ركوب الخيل، وجعل لهم أن يركبوا البغال والحمير بسروج ولجم غير محلاة بالذهب والفضة، بل تكون من جلود سود، وضرب بالحرس في القاهرة ومصر أن لا يركب أحد من المكارية ذمّياً، ولا يحمل نوتيّ مسلم أحداً من أهل الذمة، وأن تكون ثياب النصارى وعمائمهم شديدة السواد، وركب سروجهم من خشب الجميز، وأن يُعلق اليهود في أعناقهم خشباً مدوّراً زنة الخشبة منها خمسة أرطال، وهي ظاهرة فوق ثيابهم، وأخذ في هدم الكنائس كلها وأباح ما فيها، وما هو محبس عليها للناس نهباً وإقطاعاً، فهُدمت بأسرها ونهب جميع أمتعتها وأقطع أحباسها، وبني في مواضعها المساجد، وأذن بالصلاة في كنيسة شنودة بمصر، وأحيط بكنيسة المعلقة في قصر الشمع، وكثر الناس من رفع القصص بطلب كنائس أعمال مصر ودياراتها، فلم يردّ قصة منها إلاّ وقد وقع عليها بإجابة رافعها لما سأل، فأخذوا أمتعة الكنائس والديارات وباعوا بأسواق مصر ما وجدوا من أواني الذهب والفضة وغير ذلك، وتصرفوا في أحباسها، ووجد بكنيسة شنودة مال جليل، ووجد في المعلقة من المصاغ وثياب الديباج أمر كثير جدّاً إلى الغاية، وكتب إلى ولاة الأعمال بتمكين المسلمين من هدم الكنائس والديارات فعمّ الهدم فيها من سنة ثلاث وأربعمائة (1012 م) حتَى ذكر من يوثق به في ذلك أن الذي هدم إلى آخر سنة خمس وأربعمائة (1014م) بمصر والشام وأعمالهما من الهياكل التي بناها الروم نيف وثلاثون ألف بيعة، ونهب ما فيها من آلات الذهب والفضة، وقبض على أوقافها، وكانت أوقافاً جليلة على مبان عجيبة، وألزم النصارى أن تكون الصلبان في أعناقهم إذا دخلوا الحمام، وألزم اليهود أن يكون في أعناقهم الأجراس إذا دخلوا الحمام، ثم ألزم اليهود والنصارى بخروجهم كلهم من أرض مصر إلى بلاد الروم، فاجتمعوا بأسرهم تحت القصر من القاهرة واستغاثوا ولاذوا بعفو أمير المؤمنين حتى أعفوا من النفي، وفى هذه الحوادث أسلم كثير من النصارى" (المقريزى, 1992).

ويأخذنا المقريزي إلى وقائع اخرى فيقول لنا انه في عهد السلطان الناصر محمد بن قلاوون وفي يوم السبت 25 مايو سنة 1321 م (9 ربيع الآخر سنة 721 هـ) "ركب السلطان الى الميدان، فوجد نحو العشرين ألفا من العامة قد صبغوا خرقا بالأزرق والأصفر، وعملوا في الأزرق صلبانا بيضاء، ورفعوها على الجريد، وصاحوا عليه صيحة واحدة: لا دين إلا دين الإسلام! نصر الله دين محمد بن عبد الله! يا ملك الناصر يا سلطان الإسلام انصرنا على أهل الكفر ولا تنصر النصارى. فخشع السلطان والأمراء ومر إلى الميدان وقد تشتغل سره. وركبت العامة اسوار الميدان وهي تصيح "لا دين إلا دين الإسلام". فخاف السلطان الفتنة ورجع إلى مداراتهم، وتقدم إلى الحاجب بأن يخرج وينادي: "من نصرانيا فدمه وماله حلال" فلما سمعوا النداء صرخوا صوتا واحدا "نصرك الله يا ناصر دين الإسلام"، فارتجت الأرض. ونودي عقيب ذلك بالقاهرة ومصر: "من وجد من النصارى بعمامة بيضاء حل دمه، وكتب مرسوم بلبس النصارى العمائم الزرقاء، وألا يركبوا فرسا ولا بغلا، وأن يركبوا الحمير عرضا، ولا يدخلوا الحمام إلا بجرس في أعناقهم، ولا يتزيوا بزي المسلمين هم ونساؤهم وأولادهم. ورسم للأمراء بإخراج النصارى من دواوينهم ومن دواوين السلطان، وكتب بذلك إلى سائر الأعمال وغلقت الكنائس والأديرة ... وتجرأت العامة على النصارى بحيث إذا وجدوهم ضربوهم وعروهم ثيابهم، فلم يتجاسر نصراني أن يخرج من بيته" (المقريزي, 1997) ص 44. وقبل هذه الواقعة بسنة كاملة وفي مارس سنة 1301م (رجب سنة 700 هـ) "امتدت يد العامة الى كنائس اليهود والنصارى، فهدموها بفتوى الشيخ الفقيه نجم الدين احمد بن محمد بن الرفعة. فطلب الأمراء القضاة والفقهاء في أمر الكنائس، فصرح بوجوب هدمها ... وكان أهل الإسكندرية، لما ورد عليهم مرسوم السلطان في أمر الذمة، ثاروا بالنصارى وهدموا لهم كنيستين، وهدموا دور اليهود والنصارى التي تعلو على دور جيرانهم المسلمين، وحطوا مساطب حوانيتهم حتي صارت أسفل من حوانيت المسلمين" (المقريزي, 1997) ص 337- 339).

كانت هذه أمثلة لبعض ما ذكره لنا المؤرخين عن العلاقة بين مسلمو مصر ومسيحييها. ولقد فضلنا ذكرها بالتفصيل اذ يتم إعادة انتاج الكثير من عناصرها فيما نشهده الآن من توترات طائفية. وهي كلها توضح ان هذه العلاقة لم تكن دوما "سمنا على عسل"، وأن وراءها تلك النظرة الرافضة للتعايش مع الآخر. تلك النظرة التي تجد في النصوص المقدسة، او في بعض تفسيراتها، ما يبررها ويضفي عليها الشرعية. ومن المؤسف ان هذه النظرة ما زالت موجودة بقوة في ضمير الكثير من المصريين وما زالت فاعلة في مسرح الاحداث.
المراجع

المقريزي. 1992. المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار. بيروت: دار صادر.
المقريزي. 1997. السلوك لمعرفة دول الملوك. بيروت: دار الكتب العلمية
أياس, إ. 1982. بدائع الزهور في وقائع الدهور. القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أول موظفة يهودية معيّنة سياسيا من قبل بايدن تستقيل احتجاجا ع


.. البابا فرانسيس يعانق فلسطينياً وإسرائيلياً فقدا أقاربهما على




.. 174-Al-Baqarah


.. 176--Al-Baqarah




.. 177-Al-Baqarah