الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


كيف يحتال الدِّين على الفيزياء

جواد البشيتي

2014 / 4 / 22
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


جواد البشيتي
"الطبيعة" تتطوَّر بقوانينها الذاتية (الخاصَّة بها) والتي لا يُمْكِن أبداً فَصْلها عن الطبيعة نفسها (أو عن الأشياء التي تتطوَّر). ولا تحتاج "الطبيعة"، في تطوُّرها، من ثمَّ، إلى "قوى من خارجها"، ومن ماهية غير ماهيتها. و"الطبيعة"، ولجهة "مفهومها"، هي "جزء من كل"؛ هي جزء من مفهوم أوسع وأشمل وأعم، هو "الواقع الموضوعي"، الذي يشمل كل شيء يَقَع "في خارج "العقل، أو الذِّهْن" البشري، والذي هو "غير دماغ الكائن البشري الحي"، ويكون مستقلاًّ، بوجوده وتطوُّره، عنه.
و"الفيزياء (الفيزيائية، أو التي لا يخالطها شيء من الميتافيزياء واللاهوت والدِّيِن)" لم تأتِنا قَطْ بظاهرة طبيعية لا تُعلَّل، أو يستحيل تعليلها، فيزيائياً؛ فكل ظاهرة طبيعية يسْتَغْلِق علينا، الآن ، والآن فحسب، فَهْمها وتعليلها وتفسيرها، تتحدَّانا أنْ نَكْشِف، ونَكْتَشِف، قانونها (الفيزيائي، الطبيعي) الموضوعي، والذي لا يخلقه البشر، ولا يُمْكِنَهم إزالته، أو تغييره؛ فكل ما يُمْكِنهم فعله لا يتعدَّى كشفه، واكتشافه، ومعرفته، والعمل بما يوافقه، أو اجتناب كل عمل لا يُوافِقه، ويتعارض معه، واستخدامه (ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا) بما يسمح ببلوغ النتيجة (أو الغاية) التي يريدون؛ وإنَّ معرفة القانون الطبيعي (الموضوعي) من عدمها لا أثر لها (على الإطلاق) في وجوده وعمله؛ فكَمْ من قانون طبيعي (فيزيائي) يؤثِّر فينا الآن ونحن لا نعرف عنه شيئاً، ولا عِلْم لنا به!
قديماً، وقَبْل تطوُّر علوم الطبيعة، واكتشاف كثير من القوانين الطبيعية، كان "الله" مُرْهَقاً من "العمل اليومي"؛ فهو، وعلى مدار السَّاعة، يشتغل بكل شيء؛ يتوفَّر على تسيير الكواكب والنجوم والشمس والقمر والريح والغيوم، وعلى إنزال الماء من السماء، وصُنْع الكوارث الطبيعية من زلازِل وبراكين وصواعق وفيضانات وجفاف..، وعلى الإتيان بالخسوف والكسوف والشُّهُب، وعلى قيادة الحروب عن بَعْد، ينْصُر جيش على جيش، وعلى تفويض الملوك والأباطرة صلاحيات وسلطات الحُكْم؛ فالطبيعة (في صورتها الذهنية القديمة) لا يمكنها أبداً فِعْل أيِّ شيء من ذاتها، وبذاتها.
لقد وَقَفَت العقائد الدينية ضدَّ فكرة "التَّطوُّر الذَّاتي للطبيعة"؛ فالطبيعة (في صورتها الدينية) عاجزة عجزاً مُطْلَقاً عن التَّطوُّر التِّلْقائي، وعن أنْ تكون هي نفسها عِلَّة تطوُّرها؛ ولا بدَّ، من ثمَّ، لـ "خالِق كل شيء" من أنْ يتولَّى هو بنفسه "المُهِمَّة"، وأنْ يَفْعَل بقواه الذاتية كل شيء رآه، ويراه، البشر في الطبيعة؛ فـ "الله"، أو ما يشبهه، هو وحده التفسير والتعليل لكل الأحداث والظواهر (التي لم يكن تفسيرها وتعليلها العلميين في متناول البشر).
وبعد صراع طويل ومرير بين الدِّين والعِلْم، غَذَّتْهُ اكتشافات علمية مهمَّة، اضطَّر الدِّين إلى الإقرار والاعتراف بوجود قوانين طبيعية، تَحْكُم الأحداث والظواهر الطبيعية، وتتحكَّم فيها، وتَصْلُح لها تفسيراً وتعليلاً، ويُمْكِنها أنْ تُريح "الله" من كثيرٍ من أعباء "عمله اليومي القديم"؛ لكنَّ الدِّين أَبَى إلاَّ أنْ يُبْقي على ما يشبه "شعرة معاوية" بين "الله" و"القانون الطبيعي"، وتَفَتَّق ذِهْن رَجُل الدِّين (المُحْبَط) عن حيلة فكرية جديدة؛ فالقوانين الطبيعية زَرَعَها وغرسها وبَثَّها وأَدْخَلَها "الله" في الطبيعة؛ وظنَّ رَجُل الدِّين أنَّه بحيلته الفكرية هذه قد أَنْقَذ الدِّين من هلاك محتوم؛ لكنَّه، وهو الذي يُمثِّل اجتماع كِبَر النَّفْس وضيق الأُفق، لم يُجِبْنا عن السؤال الآتي: كيف كانت (أيْ في أيِّ حالٍ كانت) هذه الطبيعة قَبْل أنْ يُدْخِل فيها "الله" القوانين الفيزيائية؟
لقد رأى رَجُل الدِّين سِلْك نحاس يتمدَّد بالحرارة؛ فَلَم يَعْتَرِض، هذه المرَّة، على وجود وعَمَل قانون "تمدُّد المعادِن بالحرارة"؛ لكنَّه قال، في لهجة سادِن الحقائق المُطْلَقَة، إنَّ "الله" هو الذي أَدْخَل في الطبيعة هذا القانون؛ فَمِنْ قَبْل، كان سِلْك النحاس؛ لكنَّه لم يكن ليتمدَّد بالحرارة؛ وكانت الحرارة؛ لكنها لم تَكْن بقادرة على جَعل هذا السِّلْك يتمدَّد بها!
واحتدم الجدل، في هذا الأمر، بين رَجُل الدِّين والعالِم؛ فلَمَّا وَقَفَ حمار الشيخ في العقبة، اضطَّر الشيخ إلى التراجع قليلاً، فقال، وكأنَّ "الله" أَلْهَمَه "الحِكْمَة"، أو كَشَفَ له "السِّر"، إنَّ "الله" خَلَقَ الطبيعة، وخَلَقَ فيها، ومعها، قوانينها؛ لكنَّ هذه القوانين لا تَعْمَل إلاَّ بما يَخْدُم "الغاية الرَّبَّانية"، وَوُفْق "مُخَطَّط إلهي (سِرِّي) مُحْكَم"؛ فالطبيعة تَعْمَل وُفْقَ قوانينها، التي تَعْمَل وُفْق "مُخطَّط (ومشيئة، وغايات) الله"!
رَجُل الدِّين، وعلى مضض، قَبِلَ أخيراً قَوْلاً من قبيل إنَّ هذا المريض قد شَفِيَ (مِنْ مرضه) لتناوله هذا الدواء؛ لكنَّه سرعان ما تساءل قائلاً، وفي لهجة قائل "وجدتها": فَمَنْ ذا الذي جَعَلَ في هذا الدواء شِفاءً لهذا المريض من هذا المرض؟
وعلى البديهة أجاب هو قائلاً: "الله".
ما عاد رَجُل الدِّين يَعْتَرِض على قانون "تمدُّد المعادِن بالحرارة"؛ لكنَّه تساءل قائلاً: أليس "الله" هو الذي جَعَل الحرارة سبباً لتمدُّد المعدن، وجَعَل المعدن قابلاً للتمدُّد بالحرارة؟
أليس الله هو الذي خَلَق القِطَّ ليأكل الفأر، وخَلَق الفأر ليأكله القِط؟!
لولا هذه "الجَعْلِيَّة (مِنْ "جَعَلَ") الإلهية" لَنَتَجَ مِنْ تسخين سِلْك النحاس (مثلاً) أنْ تَحَوَّل هذا السِّلْك إلى "صوص"، أو إلى "قصيدة"!
وعَمَلاً بهذه "الفكرة الدِّينية العبقرية"، كَتَبَ الطبيب (عندنا) في لافتة في عيادته: مِنَ الطبيب التشخيص والعلاج، ومن الله الشِّفاء!
أمَّا المبدأ الذي لا يحيد عنه رَجُل الدِّين أبداً فهو السَّعي الدائم، وبلا كلل أو خجل، إلى اكتشاف "ثَغْرَة" في جِدار العِلْم، مع أنَّها ليست بثغرة، ليَنْفُذَ منها الدِّين، وتُهَرَّب أفكاره تهريباً، إلى حِصْن الفيزياء المنيع؛ فـ "العِلَّة الفيزيائية" يجب أنْ تظل دائماً مدار جهد ديني لـ "تعليها بِعِلَّةٍ من ذاك الكائن الذي لا يحتاج (في وجوده وعمله) إلى عِلَّة"!








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - اين ستالين لكي يقضي على الجهلة؟
حميد كركوكي ( 2014 / 4 / 23 - 08:56 )
أين ستالين؟ لكي يضع الدينيون في أقفاص الحيوانات ويرسلهم الى المحطات في سيبيريا!!! لا نقاش مع خالي الأوهام ولا مجال الأمثال خلف المستأجر في صفوف العقلاء، أنهم مجانين في عالمهم الغيب و يقبضون المعاش من الرجعية لكي يغسلوا الأدمغة الفقيرة والبسيطة


2 - نقض الفكرة
حسن عبد اللطيف ( 2014 / 4 / 24 - 19:30 )
قد يفهم القارىء أن الكاتب يقصد بمقاله تسفيه عقول رجال الدين والحط من أقدارهم وفى تلك الحالة سأكون متضامنا معه تماما ولكن الحقيقة أن المقال يستهدف الدين ذاته (أى دين) ويستهدف بالتحديد مسألة وجود خالق للكون وهذا ما يجعلنى أخالفه وأسعى لنقض فكرته
ربما كان صحيحا أن (الله) كان دائما وعبر الأزمان هو الإجابة الفورية الحاضرة عن أى تساؤل يتعرض لأى ظاهرة طبيعية غامضة كما يقول الكاتب. نعم ولقد كانت تلك هى أقوى آليات انجذاب البشر لفكرة الألوهية والخوف منها والوقوف عند حدودها مما كان له أبلغ الأثر فى ابراز فكرة الضمير ووضع تعريفات لما هو خير وما هو شر ومن ثم ظهور قوانين العمران البشرى.
بالتالى فهذه الآلية (أو الحيلة) التى انجذب بها الناس الى الدين (قديما) كان لها (برغم ركاكتها وعدم صحتها) أبلغ الأثر فى تأمين مسار الحضارة البشرية وتجنيب البشرية الكثير من الويلات

جرب (مثلا) أن تنتزع فكرة الإله من حضارة المصرى القديم ثم اسأل نفسك بصدق ما هى دواعى استمرار تلك الحضارة أو قيامها من الأصل !!
لقد كانت فكرة الألوهية بمنزلة القلب والروح الباعثة والملهمة لتلك الحضارة والمبقية لها عبر آلاف السنين


3 - نقض للفكرة 2
حسن عبد اللطيف ( 2014 / 4 / 24 - 19:49 )
نعم هى آلية خادعة لا تليق بحاضر العقل البشرى لكنها كانت مناسبة تماما لطفولة العقل البشرى الطويلة عبر ظلمات الماضى السحيق ودعامة استند اليها الضمير وتوكأت عليها المجتمعات دون أن تعمل بشريعة الغاب - القوى يفترس الضعيف ويستحل دمه !!
اليوم الوضع مختلف .. لم تعد هذه الآلية مناسبة لإثبات وجود الله أو نفى وجوده ومن بقى يتعلق بأذيال هذه الآلية من رجال الدين هم يسهمون فى تشويه أديانهم أمام وإضعافها وتمهيد الطريق أمام الشبيبة لاعتناق الإلحاد كما بدأ يشيع اليوم

لنسأل أنفسنا عن القسم من العلماء الكبار الذين يعتنقون فكرة وجود الخالق: هل كانوا يكنون أدنى احتراما للانتاج العقلى لرجال الدين أو لمنظورهم الساذج للإله والألوهية ؟ اللهم لا .. ولنا فى أينشتين ونيوتن وماكسويل شىء من العبرة والمثل . فلنقتدى بهم اذن .. فإذا كنت أستاذا جامعيا أمتلك عقلا حرا .. هل أرفض الإله لأن حظى أوقعنى فى أمة مغيبة يقود قطعانها جماعات من رجال الدين السذج ؟ أين عقلى أنا ؟ ما هى الأسباب
(الموضوعية) التى تدعونى لرفض فكرة الإله ؟
هذه الأسباب بالتأكيد لن يكون من بينها أن الدين كيان محتال على الفيزياء كما يخبرنا العنوان


4 - نقض الفكرة 3
حسن عبد اللطيف ( 2014 / 4 / 24 - 20:10 )
الدين (كنصوص إلهية مقدسة) لا يحتال على الفيزياء ولكن رجال الدين هم من يفعلون.
وسواء كانت بدايات الكون التى تشرحها الفيزياء الحديثة صحيحة أو خاطئة كما قد يثبُت مستقبلا فلا يضر الإيمان أن تكون مادة الكون سرمدية أزلية أو طارئة مستحدثة أو أى احتمالات أخرى واردة ... لا شأن لقضية الإيمان بكل هذا
فالمسألة أن الفرد منا ليس أكثر من طيف عابر للوجود .. وفى حدود كمية الوعى المتاحة لعقلى أرى نفسى حزين لأنى سأفارق المشهد وأنزوى الى طى العدم دون أن أعرف شيئا عن سر قيام ذلك الوجود الخارجى أو حتى عن سبب ذلك الوعى الذى غمرنى فى فترة حياتى المحدودة .. النور الذى تسلل من حدقات عينى ، الأصوات التى سمعتها ، الجمال الذى عاينته - العمق اللامحدود الذى استشعرته فى ذلك الوجود .. ما هذا وأين سيذهب بعد موتى .. ولماذا لا يستمر .. لماذا أموت ؟
تمنيت لو كان الخلود والاستغراق فى ذلك الجمال اللانهائى ممكنا والموت منعدما
تمنيت أن لو كنت شريكا مقيما .. لا مجرد طيف عابر
هذا هو السؤال الحقيقى يا أستاذ جواد و( الله ) هو الإجابة
وكما ترى فهو سؤال مشروع لا احتيال فيه
وشكرا

اخر الافلام

.. عواطف الأسدي: رجال الدين مرتبطون بالنظام ويستفيدون منه


.. المسلمون في النرويج يؤدون صلاة عيد الأضحى المبارك




.. هل الأديان والأساطير موجودة في داخلنا قبل ظهورها في الواقع ؟


.. الأب الروحي لـAI جيفري هنتون يحذر: الذكاء الاصطناعي سيتغلب ع




.. استهداف المقاومة الإسلامية بمسيّرة موقع بياض بليدا التابع لل