الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


من وهج البحث عن الراحة

حامد حمودي عباس

2014 / 4 / 23
الادب والفن


ما أروع أن تحمل أسمال روحك المدافة بالسأم ، لتهرب وإياها الى حيث يضع لك جسدك قبل عقلك ، موضعاً تحاول ان تلقي فيه بعضاً من هموم النفس .. هكذا فعلت وأنا أشعر بانقباض شديد يحبس في عروقي قدرتها على إمدادي بدماء الحياة .. فكل شيء من حولي بدا لي داكناً حينما حلت ساعات العصر .. تلك الساعات التي تفقدني أحياناً الاحساس بالشبع والجوع معاً ، النعاس واليقظة ، الفرح والحزن ، الشعور بارتداد حوامض المعدة لتخدش مجرى المريء بلا رحمة .. انه الحصار بكل صوره ذلك الذي يداهمني في الكثير من اللحظات التي تقترب بي من أوقات الغروب .
ثمة حديقة عامة ، عثرت عليها عن طريق الصدفة ، وانا انتظر ابنتي عند عيادة طبيب الاسنان ، فدورها للخضوع الى الفحص لم يحن بعد ، ولدي الوقت في أن اتحرك ضمن دائرة لا تبعدني عنها عندما يحين ذلك .
سرت بجانب السياج الخارجي للحديقة ، وكانت اصوات الاطفال وهم يسعون لسرقة أوسع ما تمكنهم قواهم من سعادة قد لا يحضون بها مرة ثانية ، دليل يأخذني لمعرفة بقية التفاصيل ..
سوف أكون هنا يوم الغد .. وسوف اقتحم هذا العالم الجميل ، رغم صرامة اليافطة المعلقة على الباب الرئيسي وهي تعلن .. ( يمنع الدخول لغير العوائل ) .
هكذا أنا أريد ، منفرداً دون ان يصحبني أحد من العائلة .. وحيداً تتحرك حواسي جميعها ، وبكل حرية ، بين خيوط لوحة رسمتها ريشة فنان لم يزعجه رقيب ..
لم يكن من السهل اجتياز عتبة الباب الرئيسية للحديقة وأنا منفرداً عكس ما ورد بالتعليمات .. لابد لي أن أدخل .. لاحظت وجود شابين يرتديان بدلتي عمل ، كانا يتسامران وملامح السرور بادية عليهما وبدون أي تكلف .. يجلس بالقرب منهما رجل مسن ، وقد نشر امامه بعضاً من انواع الحلوى الرخيصة الثمن ، وعدد من أكياس لب زهرة الشمس ، واصناف من العلكة ، بهدف بيعها للاطفال على ما يبدو .. تحركت بهدوء صوب الشابين وكان لي حوار معهما :
- كيف حالكما ؟
- بخير .
- هل تعملان في الحديقة ؟
- نعم .
- ارجو ان لا يزعجكما لو سألتكما كم تتقايضان من أجور ، وهل انتما أجيرين أم على الملاك الدائم ؟ .
- نتقاضى 375 الف دينار شهرياً ، ونحن نعمل باجور يومية .
وشجعتني دعوة احدهما أن أجلس على كرسي قريب منهما ، لأبدأ مناورتي التالية بالزحف الى داخل الحديقة وبهدوء ..
مشاعية المكان ، ووحدة مصادر الاصوات فيه ، جعلاني انتمي وبسرعة الى الفضاء المحيط ، ولم يخالجني حينها أن أحداً سيطلب مني المغادرة ..
الأطفال هم ابطال الحركة في عموم الحديقة .. تلوح بأجسادهم أرجوحات راح بعض الآباء يشغلون وقتهم بتحريكها حسب الطلب ، في حين بقيت أمهاتهم وأخواتهم البالغات سن الرشد كما يسمونه في بلادنا ، يشكلن حلقات غير منتظمة ، تتوسطهن صحون وقناني مياه الشرب وأشياء اخرى غير واضحة المعالم .
صحون .. عصائر .. قدور تمتليء بها أطعمة لابد وان تكون غنية بالدهون ، هي عدة أية سفرة يقوم بها عربي مع أسرته ، وحينما يعود الى بيته ، سوف لن يتذكر أحد من المسافرين غير أن هذا الطعام كان مالحاً زيادة ، والاخر معتدل ولكنه ينقصه الطعم الحامض .
لا أدري بالضبط ، لماذا تأخذني دائماً عزلة امرأة في مكان مزدحم ما ، فأطير على عجل ، محاولاً السباحة في بحر صمتها ، علني أرى ذاتي خلف ذلك الصمت المهيب .. انها وحيدة هناك ، وقد اختزلت كل الاصوات وكل منابع الضجيج الطفولي المنبعث من حولها ، لتبدو ساهمة في اللامكان ، وقد طوت زمناً لا يعرف مقداره أحد ، محاولة بلوغ أحلام ضاعت منها على ما يبدو ، وهي في تلك اللحظات ، راغبة في العودة اليها رغم المستحيل ..
من لي يا ترى ، بقوة تقربها مني لأرى تقاسيم وجهها القلقة وبوضوح أكثر ، حينها سأعرف ، وبقدرة جميع العرافين في العالم ، من تكون ، وسأعرف وجهة سفرها ، وما الذي جعلها تنزوي وراء تلال الحزن ..
ان بكاء الروح ، هو أشد انواع البكاء تأثيراً في النفس ، وليس ثمة من مشهد يحرك في نفسي الرغبة بالبكاء ، أكثر من مشهد لطفلة لم تتعدى من عمرها غير حفنة قليلة من السنين ، تكتفها أدوات الخوف من ركوب أهوال الرذيلة ، وهي لم تعرف بعد ، أية صورة واضحة الالوان ، غير انها تواقة للجري والنط وسط أقرانها من الصغار .. طفلة تركض ، أو تحاول الركض لتلحق بكرة رفسها طفل آخر على أرض الحديقة ، فتعرقل فيها القدرة على الحركة الحرة عباءة سوداء ، وشال أسود ، وجوارب تغطي قدميها الغضتين ، لمنع الكبار من شذاذ الافاق ، من ان تكون تلك الطفلة قبلة لشهوا تهم الجنسية المنطلقة بقوة عربية مسلمة مؤمنة بربها ، لا تفرق بين الطفولة والكبر .. بالمقابل ، يربض جلف بهيئة بشر ، هو ابوها ليراقبها من بعيد ، لا تحمل ملامح وجهه غير صرامة أجداده من ابناء الصحراء ، التي اراد الله لها ان تكون غير ذي زرع ، وليس فيها ما يمت لطراوة الحياة من شيء .
أحد العاملين اللذين صادفاني عند البوابة الرئيسية ، مر من أمامي وهو يحمل جردلاً لم استطع تمييز ما بداخله ، وقد رمقني بطرف عينه ، وابتسامة خفيفة على وجهه ، وكأنه يقول لي ( لماذا خالفت تعليمات الدخول ؟ ) ..
انتشار واسع للطفولة من حولي ، ومع كونها طفولة ينقصها الاكتمال ، لكنها كانت مدعاة للشعور بالراحة .. تلك الراحة التي افتقدها عندما تحل ساعات العصر من كل يوم ..
- لقد فقدت هاتفي المحمول قبل دقائق ، وكنت جالساً هنا في نفس مكانك .
قال احدهم وهو يحملق في وجهي ، وقسماته تقطر بالشك .
أجبته وقد شعرت بالخوف منه لو استمر الشك في نفسه :
- لم أعثر على شيء هنا ، بل ولم افتش في المكان .
- كم أمقت اولئك الذين يشيعون بأن حالنا نحن العرب قابل للتحسن ، لم يفصلني عن فقدي لهاتفي غير دقائق ، أين يا ترى قد ذهب ؟ ..
- لا أدري .. هل ترغب بمساعدتك بالتفتيش عنه في اركان الحديقه ؟
- ومن تكون انت حتى تقوم بهذه المهمة ؟ .. سوبرمان مثلاً ؟ ..
كانت ملامح الشر بادية عليه وهو يرمقني بحدة ، فسارعت الى البدء بمحاولة لتغيير مسار افكاره خشية حدوث ما ليس لي تجربة فيه ، لو قرر الرجل ان يسحبني لساحة عراك يحاول من خلاله استرداد ما فقد .. فوقفت في مكاني ، رافعاً كلتا يدي الى الاعلى ، معلناً استعدادي للخضوع للتفتيش .. حينها تحرك بعيداً تاركاً في مخيلتي بقايا من مدنية هي الفاصل بين الانسان والحيوان ، لتقودني الى الاحساس بالأمان .
لم أستطع أن البي رغبتي بالتجوال في المكان ، خشية اكتشاف أمر وجودي وبدون عائلة .. لا بأس .. فأنا متأكد من قدراتي الذاتية على السفر ضمن أوسع المساحات مهما بعدت أطرافها بواسطة عيون تديرها مخيلة لا يصيبها الملل .. الاطفال لا زالت أراجيحهم تهتز ، وثمة سكون بين الحين والاخر ، لم اجد تفسيراً له حتى انني يخالجني شعور بان حاسة السمع لدي قد تكون على غير ما يرام .. وجوه الكبار جميعها مكفهرة ، لا تريد أن تعلن عن استبشارها بشيء .. كل الاجساد الموجودة من حولي ، عدا الاطفال ، أتخيلها مصابة بواحد من الامراض المزمنة ، السكري أو ارتفاع الضغط ، أو هشاشة عظام المفاصل .. وفي الايام الاخيرة شاع بين العراقيين مرض آخر هو التهاب الغدة الدرقية ، والغريب أن أكثر الادوية التي يقررها الاطباء لمعالجة هذه الامراض ، لها صفة ( تهدئة الاعصاب ) .
التفت الجميع من حولي باتجاه هرج حدث في الركن البعيد من الحديقة .. فهمت بعدها بان صاحب الهاتف المفقود ، قد تعلق بجلابيب شاب متهماً إياه بسرقة هاتفه ، فما كان مني الا أن أفر على عجل ، مغادراً مسرح راحة وهبتني إياه زيارة عابرة لطبيب أسنان .


















التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فيلم شقو يحافظ على تصدره قائمة الإيراد اليومي ويحصد أمس 4.3


.. فيلم مصرى يشارك فى أسبوع نقاد كان السينمائى الدولى




.. أنا كنت فاكر الصفار في البيض بس????...المعلم هزأ دياب بالأدب


.. شاهد: فنانون أميركيون يرسمون لوحة في بوتشا الأوكرانية تخليدً




.. عوام في بحر الكلام - الفن والتجارة .. أبنة الشاعر حسين السيد