الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الانتماء

لمى يونس

2014 / 4 / 24
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


النفسُ الإنسانية ليست مجرد كتلة جامدة مسكوبة في الجسد البشري كما يُسكب المعدن في قوالب التماثيل الصماء، بل هي بحر من الأحاسيس والعواطف الحية. فكما تتواصل البحار عبر أمواجها وتياراتها المتنقلة في كل الاتجاهات، تتواصل النفس البشرية مع العالم الخارجي فتتأثر به وتؤثر عليه.
تتنوع الصلات التي تشدّ النفس إلى محيطها من حيث ماهيتها وتجلياتها وتأثيرها على حياة الإنسان، ومحيط النفس هنا لا يقتصر على الحيز الفراغي الذي يعيش ضمنه الإنسان، بل هو وجود محكوم بأشخاص وأماكن ومنظومات متكاملة من المفاهيم والأفكار، ولعل الشرط الأهم كي يحسّ الإنسان بجوهر وجوده هو إحساسه بالانتماء لهذا المحيط، هذه الحقيقة تشرّع أبواب الفكر لأسئلة طارئة حول ماهية الانتماء وتجلياته.
هناك عدة أخطاء منتشرة حول مفهوم الانتماء فمن الأخطاء الشائعة الاعتقاد بأن الانتماء مرادف للوطنية، فما الوطنية إلا لون من ألوان الانتماء المتعددة. كما أن الكثيرين يعتقدون أن الانتماء يعني التقوقع داخل الدين أو الطائفة أو القومية، وهذا أيضاً فهم قاصر للانتماء.
قد يتجلى الإحساس بالانتماء في ذلك التناغم السحري بين الإنسان ومكان ما، فيشعر بالاطمئنان والراحة للتواجد فيه، ولعل أبرز صيغ هذا الانتماء المكاني هو انتماء الإنسان لطبيعة عاش بين جنباتها، فيسعد عند النظر إلى أشجارها وحقولها، غيومها وجبالها، حتى ليحسّ أنّ هذه العناصر قد أصبحت جزءاً من وجوده وهويته. وتطالعنا في الأدب حول العالم نماذج كثيرة تؤكد عمق الإحساس بالانتماء الذي يكنّه الإنسان للطبيعة. وهذا لا ينطبق على الطبيعة فحسب، بل على الحي الذي قضى فيه الإنسان شطراً طويلاً من عمره، أو على بيت العائلة، فكم من إنسان دفعته الدراسة أو العمل لتغيير مكان إقامته، ليجد نفسه في خضمّ حالة من التشتت والضياع ، وكأنه قد ترك جزءاً من فكره وروحه في بيته الأصلي، وما هذا التشتت وذلك الضياع إلا نتيجة افتقاده للإحساس بالانتماء إلى المكان الجديد.
ومن الجدير بالانتباه أن الانتماء ليس مجرد رابطة واهية، بل هو إحساس متجذّر في النفس، تمتد جذوره في ذاكرة الإنسان وماضيه، فشعور الإنسان بالانتماء إلى مكان ما يتعزز عندما يكون هذا المكان مرتبطاً بطفولته مثلاً، فيجد في كل زاوية من زواياه جزءاً من ذاكرته، ويشم في هوائه عبق أيام مضت. لكنّ الانتماء لا يستمر وينمو إن لم يجد في حاضر النفس ما يغذيه، إذ كيف يمكن أن يستمر إحساس الإنسان بالانتماء لمكان من الذاكرة لم يعد اليوم سوى مثار حزن وندم؟
لا يقتصر الانتماء على المكان فحسب، بل يتعداه إلى الناس من حولنا، وتنبغي الإشارة هنا إلى أن هذا اللون من الانتماء لا يرتكز بالضرورة على أسس دينية أو قومية أو عرقية، بل إنه بمفهومه الأعمق الإحساس بالانتماء لمجموعة من الأشخاص يربطنا بهم تناغم فكري وتآلف روحي.
يحدث أن ينضم الإنسان خلال حياته المحكومة بالتداخل والتعقيد والمصادفات إلى مجموعات متنوعة من الأشخاص قد لا يشعر بالارتياح للتواجد معهم ويكتشف أنه عاجز عن فتح أية نافذة تواصل بينه وبينهم، إنه ببساطة لا ينتمي إليهم، إذ كيف يمكن أن يشعر العبقري مثلاً بالانتماء إلى مجموعة من السذّج المأخوذين بتوافه الأمور وقشورها؟ وقس على ذلك كثيراً..
إننا كبشر بحاجة إلى التواجد بين أناس نجد في أنفسهم صدىً لأفكارنا وأحاسيسنا، إننا بحاجة إلى التواجد بين أناس نشبههم ويشبهوننا لتغدو تشابهاتنا نقاط تواصل والتقاء نستخدمها كركائز لتمتين علاقتنا بهم، و من خلالهم بالعالم من حولنا.
إلا أنّ الإنسان في بعض الأحيان قد لا يجد في مجتمعه من يمنحه الإحساس بالانتماء، ويطلعنا الأدب على سير وأعمال كثير من المبدعين الذين عاشوا بين أهلهم غرباء، فلا هم أحسوا بالانتماء إلى المجتمع ولا المجتمع كان متسامحاً معهم لاختلافهم عن مألوفه. ومن منا لم يسمع بأحد أشهر أبيات المتنبي الذي يصور فيه غربته الأزلية عن محيطه فيقول :
" أنا في أمةٍ تداركها الله****غريبٌ كصالح في ثمود"
ومن هنا ، فالغربة لا تقتصر على غربة الجسد عن دياره، بل هي غربة الروح حتى عن مقام الجسد أحياناً..
إن للإحساس بالانتماء تأثيراً مباشراً على فاعلية الإنسان، سواء اجتماعياً، دراسياً أو عملياً. من الناحية الدراسية على سبيل المثال، لكل إنسان ميوله الفكري المميز، وطموحه الخاص، وبناءً على ذلك، فكل إنسان يسعى إلى دراسة تتوافق مع ميوله وطموحه، ولا شك أن دراسة كهذه هي المجال الذي ينتمي إليه الإنسان حيث تكون فرص نجاحه أوفر وإمكانية إبداعه أكبر. وما ينطبق على الدراسة ينطبق على العمل أيضاً.
مما تقدم، بإمكاننا تحليل الانتماء إلى ألوانه المتعددة، فهو الانتماء بمفهومه الوطني الشائع، والانتماء المكاني، فالانتماء الاجتماعي، وصولاً إلى الانتماء الفكري، ولا شك أنه من أهم الصلات التي تنشأ بين النفس والعالم الخارجي، فالإحساس بالانتماء جوهر الهوية الإنسانية والقوة الرئيسية في تعزيز وجود الإنسان وفاعليته على كل الأصعدة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. حرب غزة..احتجاجات جامعات أميركية | #غرفة_الأخبار


.. مساعدات بمليار يورو.. هل تدفع أوروبا لتوطين السوريين في لبنا




.. طيران الاحتلال يقصف عددا من المنازل في رفح بقطاع غزة


.. مشاهد لفض الشرطة الأمريكية اعتصاما تضامنيا مع غزة في جامعة و




.. جامعة فوردهام تعلق دراسة طلاب مؤيدين لفلسطين في أمريكا