الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مصائر الوثنية الشرقية - بين الإنقطاع والاستمرار

موسى ديروان

2014 / 5 / 1
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات


لنقل ابتداءً أن الديانة الطبيعية (الوثنية) التي لم تشتمل على ذلك الفيض الهائل من الترف الفقهي الذي يغوص إلى أدق الأشياء ويحاول أن يحاكمها وفق منطقه ومعاييره الخاصة، كانت أكثر قدرة من الديانة التوحيدية على التماهي مع اللحظة، وإيجاد موطئ قدم لها في خضم التغيرات التي تطرأ ضمن إطارها الجغرافي وقد يعزو البعض ذلك لكون المؤسسة الديينة الوثنية مؤسسة بسيطة للغاية ليس فيها شرطة ديينة إلا في الحدود الضيقة جداً وأيضاً كان في تقبلها للاسماء المتعددة للآلهة ، كآلهة الشمس مثلاً نوع من الانفتاح الصوفي الذي نعرف في مؤلفات ابن عربي وغيره.
لقد وجدنا مثلاً في المرحلة الهلنستية وبعد فتوحات أليسكاندر في الشرق، كيف استطاعت الوثنية الشرقية امتصاص الوثنية اليونانية إلى الحد الذي اصبح فيه البانثيون أو مجمع الآلهة الكنعاني مثلا يضم قائمة من الآلهة اليونانية والكنعانية جنباً إلى جنب كالبانثيون الذي تحدث عنه فيلون الجبيلي، كذلك امتصاص الوثنية اليونانية قبلاً للآلهة الفينيقية والمصرية والتعبد لها ضمن بانثيون مقدس واحد يفصّل في الحديث عنه هيرودوتس في تاريخه، وقد كان من العرف السائد حقيقةً أن يضحي عابري السبيل لآلهة القرى والبلدات التي يمرون بها، ويقدموا لها القرابين دون أن يكون في ذلك خيانة أو تخلي عن آلهتهم التي ينتمون إليها، وفي كتابه الإلهة السورية يذكر لوقيانوس السميساطي أمثلة متعددة عن هذا النوع من الانفتاح الديني في سوريا كذلك يذكر بلوتارخوس في كتاب ثيسيوس أمثلة مشابهة عن عادات المسافرين في اليونان وتقديمهم القرابين لآلهة القرى والبلدات التي يمرون بها وتكريمها والاعتراف بمكانتها، وحتى على المستوى القبلي أو الحياة الرعوية ، كان الانتصار لحلف من القبائل يسهل عملية تبادل الآلهة الخاصة بكل قبيلة ومشاركتها مع بقية آلهة أعضاء الحلف، تكريماً لها أولاً وتكريساً للوحدة التي آلت إليها حال هذه القبائل على المستوى السياسي والإجتماعي . وهنا يحلل ديفيد هيوم ظاهرة نشوء التوحيد من خلال عودة تلك القبائل المتحالفة إلى القتال فيما بينها وتنصيب إله القبيلة المنتصرة كإله أوحد وتحول بقية الآلهة للقبائل المنهزومة إلى شياطين وفي أحسن الأحوال إلى ملائكة أو مساعدين ثانويين لهذا الإله. وهذا بالطبع يذكرنا بتنصيب "الله" كإله أوحد بعد هزيمة دومة الجندل لمتعبدي الإله ود، وكذلك بعد تحطيم العزى وظهورها بشكل شيطان بحسب المرويات الاسلامية طبعاً. وغير ذلك من الأحداث المشابهة.
ثمة مشكلة أصلاً في اختزال الديانة الطبيعية إلى مصطلح الوثنية حيث نجد فيه حمولة عدائية وتبخيسية تختزل تلك الحياة الدينية إلى الصورة أو الوثن أو الصنم، بينما في الحقيقة لم تنشأ تلك الديانات مع الوثن ولم يكن متعبدوها الأوائل يعرفون هذا النوع من الفن أو التجسيد الصنمي لما يعبدون، بل أتى في مرحلة لاحقة وبدأ بأشكال بسيطة مع مطلع شمس النيوليت أو الحجري الحديث و انتهى إلى هذا التعقيد الجمالي في النحت الذي انحدر إلينا اعتباراً من البرونز المتأخر وصولاً للقرون الأولى للميلاد سيما في آسيا الأمامية وآسيا الشرقية واليونان وفارس ومصر وغيرها، وكانت هذه الصور عبارة عن تمثيل فني غالباً ما تحتوي على عناصر انسانية وحيوانية معاً تجسيداً لوحدة الطبيعة ووحدة القوى التي انبثقت عنها هذه الطبيعة ، وهذه هي المسألة المحورية في الديانة الطبيعية، فكل الآلهة هم عبارة عن تجسيد لقوى الطبيعة الحيّة وللمخاوف وللاوهام حول تلك الطبيعة وتتدرج أهمية كل إله بمستوى الحاجة المعيشية إليه ومدى تأثيره الطبيعي على تلك البيئة،كآلهة القمر والشمس و الري والخصب والبحر والآلهة النهرية والمطرية وغير ذلك، إذ لانجد أثراً لآلهة الخصب والري في المناطق الجافة الصحراوية لعدم انسجامها مع طبيعة البيئة التي يعيشون بها، ولا نجد تلك الاتكالية على إله واحد أو أوحد في البيئة الزراعية المتعددة المناخات والأنواع الحية والموارد، كما نجدها في البيئة الجافة ذات الطبيعة المتشابهة وقد يحدث كثيراً أن ينزل إله ما إلى مرتبة متدنية في فترات التقلب المناخي الغير منتظم، فما أن يحدث خلل في تركيبة الثيوغونيا أو شجرة الآلهة حتى نلحظ حدوث ثورة اجتماعية ما بالتوازي معها، وإن حالة الميثولوجيا البدئية في آسيا الامامية والشرق عموماً تحمل في طيات صفحاتها الأولى أخباراً ضمنية عن طور الاستقرار الاجتماعي والاستيطان على ضفاف الأنهار والأماكن الخصبة الصالحة للزراعة والتدجين وما إلى ذلك، ففي البداية كان الطمي والعشوائية والتغول الطبيعي الذي جعل موضوع الاستقرار شوطاً طويلاً وشاقاً خاضه الانسان عبر تاريخه ونجد انعكاساً له في الملاحم الخلقية او الكوسموغونيا ثم ما لبث الانسان ان استطاع ايجاد موطئ قدم له في تلك الظروف الصعبة فانعكس ذلك في الميثولوجيا كانتصار جسده إله انتصر للانسان على قوى الطبيعة المتغولة كحالة ماردوخ وتيامات في البابلية او بعل ويم في الكنعانية أو زيوس وكرونوس في اليونانية، إذن و بهذا الربط بين ما هو اجتماعي واقتصادي مع ماهو ميثولوجي وديني نفهم لماذا كان على الأديان التوحيدية أن تنشأ في بيئة ذات طبيعة خاصة أحادية ، كذا نفهم لما كان على الأديان ذات الصبغة التعدددية أن تنشأ في مواطن تتعدد فيها المصادر المعيشية وفي العناصر المناخية التي تؤثر عليها.
وفي رأينا أن انكشاف آثار العصر الجليدي الأخير، حيث قهرت الشمس العواصف والطبيعة المتجمدة ومكنت الشعوب من الاستقرار على ضفاف الأنهار بعد أن كانت الفيضانات وعوامل الطقس القاسية تلجئهم إلى الكهوف والحفر الجبلية لتفادي الموت والانقراض. كل ذلك جعل من الشمس القوة الأبرز والأكثر الحاحاَ وحاجة بين بقية القوى والعناصر الطبيعية.
ولأن اليهودية كانت في الأصل عبارة عن ثورة أيلية رعوية ضمن الديانة الكنعانية، ألفت نفسها دائماً في مواجهة مع الأصل التعددي لديانتها، فالكنعانيون وديانتهم مثلوا تحدياً لأصالتها بالدرجة الأولى، ومازالت الألواح الأوغاريتية تحتفظ لنا باشارات مختلفة عن هذا التحول، فتشير إلى اتخاذ الاله إيل لـ ياو- يهوه ابناً بصيغة يفهم منها منحه صلاحياته كإله على حساب بعل الابن الثاني لايل والذي تعود النصوص لتصفه لاحقاً بانه ابن لاله الحبوب داجون بدلاً عن إيل، وهذا الاضطراب في النص يوحي بتعقيد الحالة الإجتماعية التي كانت سائدة على الأرض، وربما ازدياد التغلغل الاجتماعي للوافدين من المناطق الجافة نحو المدن والحواضر الزراعية، مما دفع لتعديل النص وفق الحالة السكانية الثقافية الجديدة، لكن يظهر أن تعديل النص المقدس اوجد تيارات محافظة ضمن المجتمع وبالتالي تطور الصراع المذهبي إلى صراع مسلح واخذ مع الوقت صبغة الانقسام الاجتماعي النهائي وبالتالي انفصال الديانتين بشكل نهائي ايضاً .
ومع بروز المسيحية كديانة تحمل في جعباتها التراث الكنعاني البعلي الزراعي حيث تعيد تمثيل كامل المشهد الميثولوجي لإيل وبعل ويم وعناة وياو، بالأب والمسيح ومريم و مريم المجدلية واليهود، وبالتالي لم نعد امام انقطاع ومن ثم اتصال بل أمام حالة تصيُّر – من صيرورة- للبعلية بعناوين جديدة لكن بمضامين واحدة، لانه وكما ذكرنا ليست الديانة الطبيعية ترفاً فكرياً أو خيالاَ مترفاً، بل حاجة تفرضها نوعية البيئة التي تنشأ فيها، لذلك لم تصمد الديانات التوحيدية الرعوية في المناطق الزراعية على نفس المعايير التي نشأت بها في بيئتها الأصلية، فحديث لوقيانوس السميساطي عن الطقوس التي كان أهل بيبلوس يقومون بها في مناسبة اغتيال أدونيس بواسطة الخنزير البري لا تذكر المرء إلا بالمراسم العاشورائية للحسين، من بكاء ولبس السواد وتوزيع الطعام وايذاء النفس لاظهار الحزن ، لذلك كان على شمر بن ذي الجوشن في المرويات الشيعية أن يكون وجهه شبيهاً بالخنزير أيضاً حتى لا تنقطع الصلة الضمنية بين رمزية الحسين وأدونيس . وأيضاً رمزية القديس جرجس في المسيحية التي عادت لتظهر بصيغة العبد الصالح أو "الخضر" في الاسلام، وفي كلا الاسمين بقية من رمزية الخصب في الديانة الطبيعية للمنطقة، وبناء على ذلك نفهم كيف كان من غير المحتمل أن تحلّ المنظومة العقدية الوافدة من الصحراء محل المعتقدات المحلية الاصيلة فهذه متأصلة بحكم البيئة والمناخ والجغرافيا، بينما الأولى تبقى طارئة ورسمية ما أن تهبط إلى العمق الثقافي حتى تجد نفسها في طور التعديل واعادة الصياغة والفهم، ولا نبالغ إن قلنا بأن هذه العميلة التي تتم بشكل بنيوي لاواعي، تفسر تعدد المذاهب واختلافها سيما في المناطق ذات التراث الوثني العتيق، ففي حالة الاسلام نجد انتشار المذاهب الصوفية والشيعية في مناطق الحضارة الهلالية وفارس و آسيا الصغرى وغيرها، بينما لو عدنا للبيئة الصحراوية في شبه الجزيرة العربية سنجد بالطبع الموروث الذي يتمسك بحرفيات النص الاسلامي الجاف وذلك تبعاً لا لأصالة الاسلام في تلك المنطقة بالضرورة بل لنمط الحياة الصحراوية الذي بيناه سابقاً، لأننا من الممكن أن نجد في مناطق الهلال حيث البادية او الصحراء الجافة ذات المعيار الديني الذي نجده في الجزيرة العربية، بينما تنتشر المذاهب في مناطق الخصب ذات التراث الطبيعي الوثني العريق.
إننا لن نستطيع أن نفهم الشيعة أو الصوفية إلا بالتوازي مع فهم المعايير المحلية الثقافية والاقتصادية والتراثية للمناطق التي تنتشر بها، وبالتالي سنفهم أن الشيعة أتت بمثابة ثورة بعلية على الأيلية الإسلامية كما كان الإسلام ثورة أيلية على المسيحية التي أتت كثورة بعلية على الأيلية اليهودية وللمزيد حول إيل وبعل أحيل القارئ إلى بضع وريقات بحثية مقتضبة أعددتها قبل عامين بهذا الخصوص بعنوان : إيل كنعان وإيل القرآن (1)
http://www.4shared.com/office/5LtJg56A/
هكذا إذن مصير الأساطير الجوالة أن تأخذ أشكالا وصياغات متعددة تربطها بالحالة السكانية والمناخية والجغرافية في كل منطقة تتلى فيها، ويخطئ البعض إذ يعتقد بأننا أمام تسلسل كرونولوجي رتيب للديانات تبدأ بالطبيعية وتنتهي بالإبراهيمية ، وأن كل ديانة تجبُّ ما قبلها باعتبارها أمراً فريداً أو كينونة منفصلة عن القاعدة الثقافية الحاضنة لها أينما حلّت، لكن يظهر أن أياً من الديانات الطبيعية لم يتلاشى بل أخذ عناوين جديدة وصيغ مختلفة، وبقي متصلاً إلى يومنا هذا بشكل أو بآخر، وسأتناول في المقال القادم من هذه السلسلة بعض هذه الامتدادات وصياغاتها الجديدة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. تأثير مقتل رئيسي على المشهد السياسي في إيران| المسائية


.. محاكمة غيابية بفرنسا لمسؤولين بالنظام السوري بتهمة ارتكاب جر




.. الخطوط السعودية تعلن عن شراء 105 طائرات من إيرباص في أكبر -ص


.. مقتل 7 فلسطينيين في عملية للجيش الإسرائيلي بجنين| #الظهيرة




.. واشنطن: عدد من الدول والجهات قدمت عشرات الأطنان من المساعدات