الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


احترام المعتقدات وممارسة الشعائر الدينية والمذهبية

عوني الداوودي

2002 / 11 / 30
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


لا يجد المراقب للشأن العراقي صعوبة تذكر لوضع إصبعه على الجرح النازف الذي أستنزف الطاقات البشرية والمادية في بلدٍ يمتاز بجميع العناصر والمواد التي توفر لساكنيه مقومات الحياة الكريمة، والديمومة والارتقاء إلى سلالم المجد والحضارة للوقوف في مصاف الدول المتحضرة ، التاريخ، الحضارة، خصوبة الأراضي، وفرة المياه، المعادن وعلى رأسها النفط.  فغياب القانون وطبيعة الحكومات التي استلمت الحكم في العراق التي أتسمت بالطابع الديكتاتوري واستمدت  مفاهيمها من الأفكار العنصرية والطائفية، كانت وراء الحال الذي آل إليه العراق .  

والملفت للنظر أن هذا البلد الذي استبيحت فيه جميع القيم والشرائع الأرضية والسماوية، هو أول من قدم للبشرية الأفكار وشرع القوانين التي تنظم العلاقات الاجتماعية والاقتصادية بين أفراد المجتمع من جهة وبين الراعي ورعيته من جهة أخرى، وتذكر لنا مدونات التاريخ بأن :

" مدوّنة أورنمو ( 2111 ـ 2103 ق. م ) والملك أورنمو مؤسس سلالة أور الثالثة التي حكمت مدينة أور جنوب العراق، وهو مقنن أقدم شريعة سومرية حتى الآن .

ومدوّنة اشينونا . وتاريخها غير معروف على وجه الدقة إلا أنه يمكن القول أنها سبقت شريعة حمورابي نحو نصف قرن أو أكثر.

ومدوّنة لبت عشتار ( 1934 ـ 1924 ق. م ) نظمت الشريعة أحكام العمل الزراعي ودونت الشريعة باللغة السومرية .

ومدوّنة حمورابي . التي اكتشفت عام 1902 م على أيدي العالم مورغان J.de.m وهي محفوظة في متحف اللوفر في باريس. وهي أهم مدوّنة قانونية حضارية في تاريخ البشرية التي كشفت دقة التنظيم وسعة المعلومات التي وصلت إلينا كما هو واضح من تنقيبات العالم ( شيل ) عام 1894 في جنوب العراق "  ([1] ) .  كل هذه الشرائع أنبثقت من أرض العراق، من بلاد مابين النهرين. 

وقد نشأت على هذه الأرض أولى الحضارات في التاريخ ونشأت عليها أولى المدن.  وهنا بالذات تعلم الإنسان لأول مرة زراعة الحبوب وتربية الماشية وبناء البيوت من الطين والحجر وصنع الأواني الخزفية ألخ ([2] ) .  ومرت على هذه المنطقة أمم وشعوب وقبائل لا تعد ولا تحصى، وبنيت على أرضها الحضارات من حضارة سومر مروراً بالأكديون والكوتيون والحضارة البابلية الاولى والحثيون والآشوريون والكاشيين والبابلية الثانية والميديون والسلوقيين والأخمينيين والفرثيين ومن ثم الساسانيين إلى الفتح العربي الإسلامي .  

وكما هو معروف بأن الدين الإسلامي أنطلق من مكة وقويت شوكته في يثرب ( المدينة ) وبالرغم من ازدهاره في الشام، لكنه أصبح محور العالم ومنبر إشعاع يؤمه طلاب العلم من أرجاء المعمورة في العراق، وعاصمته بغداد الذي أنشئ على يد أبو جعفر المنصور العباسي.     

فالعراق وبالإشارة إلى ما تقدم، هو مهد الحضارات وتشريع القوانين وبلد الخيرات والثقافات المتنوعة. إذن، السؤال الذي يطرح نفسه بقوة. ما الذي أصاب هذا البلد ؟. فالجواب: هو ذاته، المفاهيم العنصرية والطائفية التي استحوذت على عقول الحكام الذين مروا بتاريخ العراق.   

 فقد أصبحنا حقاً أضحوكة لكل من هب ودب، وباتت مقولة  الشخصية العراقية " الميالة للعنف " هي واحدة من المقولات الجارحة التي تخدش مسامعنا يومياً، ليس هذا وحسب بل تعدتها إلى تأليف الكتب والدراسات حول تاريخ العنف الدموي في العراق.

فقبل الدين الإسلامي الذي دخل العراق في زمن الفتوحات العربية الإسلامية والقضاء على الحكم الساساني الفارسي فيه، كانت هناك المسيحية وقبلها اليهودية، وحظيت الإيزدية والزرادشتية بنصيب وافر في الجزء الشمالي من أرض الرافدين التي تعرف اليوم بكوردستان العراق، لكن ومنذ الفتح العربي الإسلامي أخذ هذا الدين الجديد موقعاً متميزاً بين أبناء هذه البقعة التي تحمل أرث آلاف السنين من التواصل والإبداع، كما نقل الأمام علي بن أبي طالب الخليفة الراشدي الرابع الخلافة الإسلامية إلى الكوفة في العراق، وصراعه مع بني أمية حول شؤون الحكم وأحقية الخلافة، دخل أبناء العراق معترك الحروب والصدامات المتوالية على مدى القرون التي تلتها، وتذكر وقائع التاريخ لنا أول مجزرة دموية على أساس مذهبي هو ما حدث في واقعة كربلاء التي راح ضحيتها سبعون من آل بيت الرسول محمد، وعلى رأسهم الإمام الحسين بن علي بن أبي طالب على يد جيش يزيد بن معاوية بن أبي سفيان، وتوالت من بعدها الحروب الطائفية  والمذهبية، وحين تم للعباسيين استلام السلطة، عملوا السيف بمن أذاقوهم المرّ من بني أمية، ولم يقتصر أخذ الثأر من هؤلاء وحسب، بل طالت أياديهم كل من أختلف معهم حتى أولئك الذين ناصروهم في حروبهم ضد الأمويين من أتباع علي بن أبي طالب أي شيعة علي، وأستمر الحكم لبني العباس بين مد وجزر، لحين اجتياح المغول وسقوط بغداد على يد هولاكو . ليدخل العراق فيما بعد في دوامة الحروب الطائفية المفروضة عليه من الخارج في أغلب الأحيان والتي وصلت ذروتها بين الإمبراطوريتين العثمانية السنية والصفوية الشيعية ( القزلباش ) وكان أرض العراق على مدى القرون التي تلتها مسرح لتلك الحروب الدموية إلى بداية القرن العشرين وانتهاء الحرب العالمية الأولى، وتأسيس الدولة العراقية الحديثة بحدودها الحالية ليدخل العراق فصل جديد من السياسات الطائفية ضد شيعة العراق، التي انتهجتها الحكومات المتلاحقة في حكم العراق إلى يومنا هذا .

 

الخارطة الدينية والمذهبية في العراق :

 

  يتكون نسيج المجتمع العراقي من عدة قوميات، فالعرب هم الغالبية ومن ثم الكورد، والتركمان والناطقين بالسريانية من والآشوريين والكلدان والسريان وهناك أيضاً الأرمن وأقلية يهودية، وتدين هذه الشعوب التي تتقاسم ارض العراق بعدة أديان ومذاهب، فالدين الإسلامي هو الدين الرسمي للدولة، أما المسيحية فهي أقدم من الإسلام وكذلك بالنسبة لليهودية والزردشتية والإيزدية والصابئة المندائيون، ويتوزع أبناء العراق على هذه الديانات التي تتفرع بدورها إلى عدة مذاهب بأشكال متفاوتة في الحجم والقوة . ففي وسط وجنوب العراق نرى بأن المذهب الشيعي أو الشيعة الأمامية، هو اللون الأكثر وضوحاً وهم الغالبية العظمى في هذه المناطق من اخوانهم العرب من أتباع الطائفة السنية على المذهب الحنفي، بينما الكورد السنة في العراق على المذهب الشافعي وهناك ما يقارب 10 % من الكورد في العراق هم من أتباع المذهب الشيعي الذين يسكنون خاصة في مدينة خانقين وهناك أيضاً الكورد الفيلية وهم من أتباع المذهب الشيعي وكانوا غالبيتهم يسكنون بغداد العاصمة وفي بدرة والكوت والعمارة وغيرها من المدن العراقية قبل أن تمتد إليهم خبث السياسة الطائفية اللعينة الذي تفنن نظام الحكم الحالي في تطبيقه، لترمي بهم إلى خارج الحدود بحجة التبعية الإيرانية،  وتأخذ الديانة الإيزدية موقعاً متميزاً بين الكورد الذين يتركزون خصوصاً في الشيخان وقضاء سنجار وكذلك بالنسبة لإتباع دين أهل الحق أو اليارسانية([3]) المعروفين بالكاكائية، وهم من الكورد الذين يتركزون الآن بشكل كبير في مدينة كركوك وهناك أيضاً الشبك([4]) وهم ينتمون عرقياً إلى الكورد من عشيرة باجلان  ويتركزون في الموصل وكركوك، وهناك طرق صوفية منها النقشبندية والقادرية، فبالنسبة لإقليم كوردستان هو من أكثر المناطق في العراق تنوعاً عرقياً ودينياً ومذهبياً، ويقول بهذا الصدد الدكتور رشيد خيّون: " لم يجتمع لبيئة، من أديان ومذاهب وطرق صوفية، مثلما أجتمع لبيئة كوردستان العراق، لهذا عدّ الرحالون هذه البيئة الجبلية المحصنة متحفاً للعقائد القديمة. والمدهش في الأمر أن التعايش بين معتنقي هذه العقائد يجري تلقائياً، لا يحتاج إلى مواثيق ودساتير، فالحياة تتطلب ذلك ([5] ).  لكن هذا لم يمنع  من بعض التجاوزات على بعض أتباع الديانات الأخرى كالمسيحية، وخاصة أبان الحكم العثماني الذي كان يشجع على التناحرات ضمن سياسة " فرق تسد" والإيزدية من بعض الأمراء الكورد المتزمتين أو بتأثير مستشاريهم المتعصبين وكانوا على الدوام من علماء الدين والشيوخ. لكن التاريخ لم يصنف تلك التجاوزات، بالحروب الدينية، فما كان يحصل لا يتعدى كونه نزاع بين أطراف شبيهاً بالصراعات التي كانت تحدث بين الأمراء الكورد المسلمين أنفسهم، حول شؤون الحكم ومناطق النفوذ وغيرها.        

   وينقسم التركمان السنة بين الشافعية والحنفية، وتقدر الإحصائيات التركمانية بأن نصف تركمان العراق هم على المذهب الشيعي، " كما هو وارد في تصريحات الإتحاد الإسلامي التركماني " وتذكر المصادر التركمانية بأن هناك أيضاً من التركمان من يدينون بدين أهل الحق والشبك، أما المسيحية في العراق فهناك النساطرة الآشوريون والكلدان الكاثوليك والسريان الأرثوذكس ويتوزعون على مناطق العراق في بغداد وغيرها وبخاصة في كوردستان العراق حيث يعود تواجدهم على هذه الأرض إلى عصور قديمة، ويتواجد أبناء الطائفة الصابئية بنسبة قليلة خاصة في جنوب العراق وفي بغداد .

لم تتعامل الأنظمة العراقية التي استلمت السلطة في بغداد الذين كانوا على الدوام من الأقلية العربية السنية مع واقع التكوين العراقي المتعدد بشكل نزيه وعادل على أساس المواطنة الحقة التي يجب أن يتمتع بها المواطن العراقي في وطنه من منطلق الحقوق والواجبات فغالبية أبناء العراق يؤدي واجباته بالشكل الذي يجب أن يتحلى به المواطن الذي يحب بلده وأمته ودينه لكن دون الحصول على حقوقه، ومنها على سبيل المثال عدم الاعتراف بهم كعراقيين ينتمون إلى أعراق وديانات ومذاهب، تختلف عن الهوية الطائفية والعنصرية للسلطة، فحصلت تجاوزات كثيرة بهذا الشأن ومنها المحاولات المتكررة في اعتبار الإيزديين والشبك على أنهم ينحدرون من القومية العربية بينما يفتخر أولئك بكورديتهم والانتماء للأمة الكوردية، وكذلك ما حصل بالنسبة للكلدان بتسجيلهم في الإحصائيات أما عرباً أو كورداً، والتهميش الواضح لإبناء الطائفة الشيعية من العرب وغيرهم في سياسة الدولة العراقية لهو مثال صارخ للسياسة الطائفية التي انتهجتها الحكومات العراقية ([6] ) .

 فالحكومات السابقة في العراق فشلت فشلاً ذريعاً في إدارة دفة الحكم على أساس المواطنة الحقة، وخلقت حالة من التنافر والصراع  ودق الأسفين بين أبناء الشعب بدل المحبة وروح التسامح والعيش المشترك في ظل القانون، فمن هنا تأتي المطالبة لعراق ما بعد صدام حسين على أن يكون النظام ديمقراطي تعددي فدرالي، ولا صوت فوق صوت القانون، ويقع على كاهل النظام المستقبلي مهام عسيرة وواجبات تحتاج إلى الكثير من الجرأة والصراحة ونكران الذات، للقضاء على مخلفات الماضي وتربية الأجيال الناشئة لممارسة الديمقراطية في ظل المجتمع المدني.  

وعراق المستقبل يجب أن تسوده القيم الإنسانية والحضارية وأن تقر مبادئ حقوق الإنسان السياسية والمدنية والدينية والاجتماعية والاقتصادية والمدنية واعتبار انتهاك حقوق الإنسان في كل أشكال التمييز الطائفي والديني جريمة يعاقب عليها القانون وأن يثبت ذلك في الدستور، كما يجب احترام استقلالية الحوزة العلمية في النجف، وإطلاق سراح المعتقلين السياسيين بمن فيهم علماء الدين وتعويضهم وإعادة الاعتبار إليهم، والكشف عن المفقودين والمغيبين، وإن أحدى المسائل العاجلة والملحة التي تقع على عاتق النظام المستقبلي في العراق هو إلغاء قانون الجنسية العراقية المعمول به الآن في العراق، حيث أستغل هذا القانون ضد المواطنين الشيعة بتهمة التبعية الإيرانية ومن ثم الاستحواذ على أموالهم وأملاكهم وترحيلهم قسراً إلى خارج العراق، وإصدار قانون بعودة المرحلين والمهجرين إلى مناطق سكناهم وإعادة ممتلكاتهم وهوياتهم ووثائقهم المصادرة وتعويضهم عن الخسائر المادية والنفسية التي لحقت بهم. كما يجب عدم السماح لاحتكار المناصب القيادية في الدولة من أعلى هرم السلطة المتمثل برئيس الجمهورية إلى رئاسة الوزارة ووزارة الدفاع والداخلية وغيرها من المناصب في قيادات الجيش والشرطة وجهاز الأمن الداخلي والمخابرات على فئة واحدة فقط، بل تّبني روح شعار " وضع الشخص المناسب في المكان المناسب ". وأن يكون المواطنين سواسية أمام القانون لا فرق بينهم على أساس الجنس أو العرق أو اللغة أو الدين والمذهب أو اللون وعلينا أن ندعم بناء المجتمع المدني ومبدأ فصل السلطات، " التشريعية ، التنفيذية ، والقضائية " وتشريع القوانين الجديدة وإلغاء القوانين الوضعية التي أوجدها النظام الحاكم تماشياً مع هواجسه الأمنية، وإطلاق حرية الرأي والصحافة التي تعتبر هي الأخرى " السلطة الرابعة " وعدم السماح بنشاط الأحزاب التي تقوم على أساس عنصري لأنها تبث المفاهيم العنصرية الخطرة التي تساهم في تمزيق نسيج المجتمع المتعدد الأعراق والأديان والمذاهب باسم الديمقراطية، وحتى في أكثر الدول ديمقراطية في العالم هناك حظر على مثل هذه الأحزاب من ممارسة عملها بشكل علني، كما لا يجوز السماح بتشكيل المنظمات والأحزاب الإسلامية وغيرها التي تقوم على مبدأ ( تكفير) الآخر كالجماعات السلفية ومنهم جماعة " أنصار الإسلام " التي تكفر الشيعة وتطلق عليهم تسمية "الروافض " .

 ونعتقد بأنه يجب فصل الدين عن الدولة ولا يجوز تسييس الدين ولتأخذ الأديان مكانها الطبيعي في الجوامع والكنائس والمعابد لإتباع الديانات الأخرى مع كامل الحقوق في ممارسة الطقوس والشعائر الدينية دون أي تدخل من الدولة، وخاصة الشعائر الحسينية التي يقيمها شيعة العراق في عاشوراء في ذكرى مقتل سبط الرسول الحسين في كربلاء، ويجب أن تحترم هذه الشعائر وتسهل السلطات المحلية بإجرائها، وأن تلغى جميع القيود التي فرضها الحكم الحالي لمنع هذه الشعائر.

وبالـرغم مــن تفاوت وجهات النظر لأطراف المعارضـة العراقية حول مستقبل عراق ما بعد صدام حسين، نلمس توجهاً واتفاقاً على الخطوط العريضة لإخراج العراق من دوامة العنف والعنف المضاد وبناء المجــتمع المدني والقضاء على مخلفات الماضي، فكفى العراقيين الحــروب والدمــار وسياسة التهميش العنصري والديني والمذهبي وتصنيف المواطنين إلى درجات .     

 

                                                                           








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الرئيس #السيسي يستقبل سلطان البهرة ويشيد بدور الطائفة في ترم


.. 116-Al-Baqarah




.. 112-Al-Baqarah


.. سي إن إن تكشف عن فظائع مروعة بحق فلسطينيين في سجن إسرائيلي غ




.. نائب فرنسي: -الإخوان- قامت بتمويل الدعاية ضدنا في أفريقيا